الخطبة الأولى:
الحمد لله العزيز العليم، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير.
أحمده وأشكره، وأسأله المزيد من فضله وكرمه؛ فبفضله ولطفه تتواصل النعم، وبإحسانه وعطائه ينعم البشر.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، له الرحمة الواسعة.
الذي لا يُردُّ بأسه عن القوم المجرمين.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله؛ فإنها وصية الله للأولين والآخرين، ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾[النساء:131].
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوه وراقبوه، وذروا ظاهر الإثم وباطنه؛ فإن الذنوب والآثام أصلُ كل بلاء، ومصدر كل فتنة، والآثام والذنوب سبب كل فساد في الأرض، وفي البر والبحر؛ كما قال جل في علاه:﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[الروم:41].
أيها المؤمنون، «ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة»، فكل شر ومكروه هو بسبب ذنوبنا وما كسبته أيدينا؛ قال الله تعالى:﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾[الشورى:30].
وقد جاء عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: «لا يَرْجُوَنَّ عبدٌ إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه»، فاتقوا الله أيها المؤمنون، وأقلعوا عن الذنوب والمعاصي، توبوا إلى الله توبةً نصوحًا؛ فإن لذات الذنوب لا تقارَن بما فيها من الآلام والمفاسد البتة.
عباد الله، لذة الذنب سريعة الانقضاء، وعقوبته وألمه أضعاف ذلك، ولهذا قيل: «إن الصبر على المعصية أهون من الصبر على عذاب الله، فرب شهوة ساعة أورثت حزنًا طويلًا».
عباد الله، إن ما في الذنوب والمعاصي من اللذات والنعائم كما هو في الطعام الشهي المسموم، ليس فوق ذلك ولا زيادة، فهو مَثَلٌ مطابق لحقيقة ما يدركه الإنسان بلذة المعصية، طعامٌ شهيٌّ مسموم يعقبه مرض أو موت.
أيها المؤمنون، إنَّ مما يؤكد وجوب الخوف من الذنوب والمعاصي، صغيرها وكبيرها، سرها وإعلانها؛ أن المعاصي لا تترك صاحبها دون عقوبة ودون ألم ودون عاقبة وشؤم حاضر؛ فالذنوب والمعاصي شؤمها ومآلها هلاك وحسرة وضيق وكدر في الدنيا، يتبين ذلك ويظهر في الآخرة.
إن الله تعالى قد أهلك أممًا وأقوامًا وأفنى قرًى وقرونًا كانوا أشد منا قوة، وكانوا أطول أعمارًا وأرغد عيشًا، وكانوا أكثر أموالًا وأعظم تمكنًا، فاستأصلهم وأبادهم؛ قال جل في علاه:﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ (29)﴾[الدخان:25-29]، وما ذاك - والله - إلا بسبب الذنوب والآثام، إلا عاقبة الخطايا والأوزار.
قال جل في علاه:﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9)﴾ [الطلاق: 8 - 9]، وقد ذكر الله تعالى جمعًا من الأمم التي عصت وعتت وأذنبت وكذبت الرسل وعاندت، ثم قال جل في علاه:﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾، ثم قال جل في علاه بعد هذه العقوبات المتنوعة لأمم مختلفة: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾[العنكبوت:40].
فليس في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي والخطايا والآثام:
فما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى بلغ الماء فوق رءوس الجبال غير الذنوب والمعاصي؟
﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾[الزخرف:76].
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم غير الذنوب؟
﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ [الزخرف:76].
وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرهم بألوان التدمير؟!
﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾[الزخرف:76].
وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نباحهم، ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم جميعًا، ثم أتبعهم حجارة من السماء أمطرها عليهم، فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة من الأمم غيرهم؟
﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ [الزخرف:76].
ولإخوانهم وأمثالهم ومن سار على طريقهم، وتورط في ألوان معاصيهم، لهم أمثال ذلك؛ قال ربك في محكم كتابه:﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾[هود:83].
فقد قرَّب الله المسافة بين الأمم التي عصت وبين الأمم اللاحقة بأنَّ ما جرى لأولئك ليس بعيدًا عمن تورط فيما تورطوا فيه، ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾.
أيها المؤمنون، هذه سنة الله في كل من عصاه، وخالف أمره، وتنكب صراطه، وهجر هداه، وهي لا تتغير ولا تتبدل، فما وقع من العذاب للأمم السابقة يقع لكل أمة شابهتها في كل عصر ومصر؛ قال تعالى:﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾[فاطر:43].
أيها الناس، تلك المثلات والعقوبات إذا وجدت أسبابها توافقت ولابد نتائجها ونهاياتها؛ فقد قرب الله سبحانه مسافة العذاب والجزاء بين هذه الأمم وبين إخوانهم في العمل من الأمم السابقة، فقال جل في علاه مخوِّفًا لكل من تورط في إساءة عوقب أصحابها؛ قال جل في علاه: ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ أي: تلك العقوبات ليست ببعيدة عن الذين يشابهون أولئك في ذنوبهم، فليحذر العباد أن يفعلوا كفعلهم لئلا يصيبهم ما أصابهم.
وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اجتاز بديار ثمود قال: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين»؛ أي: بيوتهم ومساكنهم، «إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم لئلا يصيبكم ما أصابهم».
قف وتأمل!!
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبور ديار أولئك المعذَّبين إلا على وجه الخوف المانع من العذاب، فمشاركة أهل العذاب في أماكنهم قد توجب العقوبة، وهي توجب بلا شك الحذر والخوف من أن يدرك الإنسان نفس مصير المعذَّبين السابقين، فكيف بمن وافقهم في كفرهم؟! كيف بمن وافقهم في معاصيهم وذنوبهم؟!
فلا ينبغي لأحد أن يقارن أهل المعاصي والفجور، ولا أن يخالطهم إلا على وجهٍ يَسلم به من عذاب الله عز وجل.
وأقل ذلك أن يكون مُنكِرًا في قلبه لظلمهم، ماقتًا لهم، شانئًا ما هم عليه، بحسب الإمكان؛ ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم﴾[التغابن:16]، «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان».
اللهم ثَبِّت الإيمان في قلوبنا، وأعذنا من المثلات والعقوبات، استعملنا فيما تحب وترضى، واصرف عنا السوء والفحشاء، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين.
وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفوته على الخلق أجمعين، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ [الطلاق:5].
أيها المؤمنون، عباد الله إن الذنوب تزيل النعم ولابد، فما أذنب عبدٌ إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، قليلٍ أو كثير، صغيرٍ أو كبير، فإن تاب ورجع رجعت إليه تلك النعمة أو رجع إليه مثلها، وإن أصر العبد على الذنب ولم يرجع وأصر على الخطأ ولم يتب، فإن النعم لا تزال تتناقص حتى ترتحل بالكلية كما قال جل في علاه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾[الرعد:11].
كثيرٌ من الناس يقول: نرى العصاة لا يزدادون في الدنيا إلا تنعُّمًا ولا في ملذاتها إلا عطاءً، فأين ما تقولون من العقوبات على الذنوب؟ وأين ما تقولون إنه ما من ذنب إلا ولابد أن ينقص نعمة؟
جواب ذلك: أن أعظم النعم نعمة الإيمان، والذنب والخطأ والعصيان والجحود ومخالفة أمر الله عز وجل تُنقص الإيمان، والإيمان لا يزال يتناقص من قلب صاحبه حتى يسلب؛ «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب الرجل نهبة ذات شرف يرفع الناس إليها فيه أبصارهم وهو مؤمن» عباد الله، «ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن»، فكلما زنى وكلما شرب نقص من إيمانه بقدر معصيته.
وإن الذنب لا بد أن يؤثر على القلب حتى تعود القلوب إلى قلبين؛ قلبٍ يُنكِر الذنوب بالتوبة والمجافاة عنها «أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة»، مُشرق، منيرٌ بمحبة الله وطاعته، «وأسود مربادًّا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا» ذاك أثر الذنوب؛ ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[المطففين:14].
أيها الناس، إن الذنوب لابد أن تؤثر في القلوب، فما من ذنب إلا ولابد أن يترك في القلب أثرًا، فإن أزال العبد الأثر بالتوبة زادت قلوبكم خيرًا وبرًّا، زاد قلبه نورًا وإشراقًا، وكان كما قال: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى(121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾[طه:121-122]، فكان بعد الذنب خيرًا منه قبل الذنب، فالاجتباء جاء بعد التوبة والأوبة.
أيها المؤمنون، أيها الناس، مَن أَلَمَّ بذنب فليستغفر الله وليتب، فإنْ عاد فليستغفر الله وليتب، فإن عاد فليستغفر الله وليتب، فإنما هي خطايا تطوق الرقاب وتمسك بالأقدام عن السير في طريق الرحمن، وإن الهلاك كل الهلاك في الإصرار على السيئة والمضي فيها.
عباد الله، «كل ابن آدم خطاء» فلا يخلو عبد من غفلة، فلا يخلو عبد من عثرة، ينال فيها الشيطان منه بعض مراده.
والناس بعد الذنب صنفان ذكرهما العزيز الغفار؛ فقال:﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾[الأعراف:201]، جعلني الله وإياكم منهم، ﴿وَإِخْوَانُهُمْ﴾ هذا الفريق الثاني ﴿يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ﴾ [الأعراف:202].
إن التوَّاب الرجَّاع إذا أَلَمَّ بذنب عاد إلى الرب جل في علاه، عاد إلى ربه إذا مَسَّه طائفٌ من الشيطان فأذنب بفِعْل محرم أو تَرْك واجب، تَذكَّرَ مِن أَيِّ بابٍ أُتي ومِن أَيِّ مدخلٍ دَخَل عليه الشيطان، تَذكَّرَ ما أوجب الله عليه من لزوم الإيمان، فأبصر، وبادر إلى التوبة والاستغفار، «خير الخطاءين التوابون» استدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح والحسنات الكثيرة، فَرَدَّ شيطانه خاسئًا حسيرًا قد أفسد عليه كل ما أدركه، خيَّب سعيه، ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾[طه:82].
أما أولئك الذين استحكمت الشهوات على قلوبهم وأحاطت بهم الشياطين؛ فإنهم لا يقفون عن معصية، غافلون في غيهم، سادرون في معصيتهم، إخوان الشياطين وأولياؤهم، فإنهم إذا وقعوا في الذنوب لا يزالون يمدونهم في الغي ذنبًا بعد ذنب، ولا يقصرون عن ذلك، فالشياطين لا تقصر عنهم بالإغواء؛ لأنها طمعت فيهم حتى رأتهم سلسي القياد، ينقادون لِـمَا يشتهون، ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾[المجادلة:19].
عباد الله، إنَّ مِن البلاء العظيم الكبير ألا يحس الإنسان بعقوبة الذنب، إنَّ من البلاء العظيم الكبير ألا يشعر الإنسان بعقوبة ذنبه وخطئه، وأشد منه أن يقع الذنب منه موقع القبول والفرح والسرور، يا لها من بلية عظمى أن يفرح الإنسان بمعصية الله عز وجل، يا لها من بلية عظمى أن يسر الإنسان بما يهلكه، فإذا وقع في ذنب فرح واستبشر كأنه حاز نعيمًا لا ينقضي وسرورًا لا ينتهي.
عباد الله، كيف ترجى سلامة هؤلاء؟
لا سلامة لهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين».
لا سلامة لمجاهر؛ وهو مَن يُظهر المعصية، ويفرح بها، ويخبر بها؛ يبيت يستره الله ثم لا يفتؤ يحدث الناس بخطاياه، ويدعوهم إلى فساده وشره،«كل أمتي معافى إلا المجاهرين».
يقول صلى الله عليه وسلم: «وإن مِن المجاهرة أن يعمل العبد بالليل عملًا ثم يصبح قد ستره ربه، فيقول: يا فلان: قد عملت البارحة كذا وكذا» قد بات يستره ربه فيصبح يكشف ستر الله تعالى عنه.
وإن من المجاهرة أن يذكر الماجن مجونه، وأن يظهر فساده، وأن ينشر فسقه، واليوم تسهلت وسائل النشر، فما يبث عبر وسائل التواصل الاجتماعي من الخطايا والمعاصي ومن أماكن المجون ومحال غضب الرب عز وجل، ذاك من المجاهرة بالمعصية، «مَن بُلي فليستتر»، فإن من استتر يوشك أن يعود ويؤوب وأن يعافى ويغفر له، أما ذاك الذي فرح بالمعصية وأظهرها، وقد يكون قد وثقها بصورة أو بمقطع مرئي أو صوتي أو غير ذلك، كل هذا من الإمعان في المجاهرة، «كل أمتي معافى إلا المجاهرين».
أيها المؤمنون، «إن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» وما في قلوب العصاة من الوحشة والظلمة والألم الشديد شيء يفوق التصور ولا يدركه خيال، وهؤلاء يفرون من ذلك الألم الشديد ومن تلك النار المضطرمة في صدورهم بسبب معصية الله، يفرون إليها بألوان من المعاصي والخطايا، فتجدهم لا يفترون سكرًا، ولا يتركون ما يغفلهم ويلهيهم عما هم فيه من جحيم، ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)﴾ [الانفطار:13-14]، ليس في الآخرة فقط، بل مبدأ ذلك ما في قلوبهم في هذه الدنيا من السعادة والنعيم للطائعين، جعلنا الله وإياكم منهم، ومن العذاب والجحيم لأهل المعصية والفجور والكفر.
أيها المؤمنون، عباد الله، أكثروا من التوبة والاستغفار، تيسر المعصية للعبد ابتلاءً من الرب جل في علاه؛ يختبر به إيمانه، ويرى صدق يقينه، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، ﴿لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾[المائدة:94]، جعلني الله وإياكم منهم.
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، اللهم اسلك بنا سبيل الرشاد، أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلمًا كبيرًا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لنا برحمتك، وتولنا بفضلك واجعلنا من حزبك وأوليائك.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها صغيرها وكبيرها، علانيتها وسرها، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، اللهم اغفر لنا الدقيق والجليل والصغير والكبير، والسر والإعلان وما علمناه وما جهلناه، اللهم اغفر لنا مغفرة تعم كل خطيئة وتجبُّ كل عثرة.
اللهم إنا نستغفرك يا ذا الجلال والإكرام، تعلم السر والإعلان، فاغفر لنا الذنوب يا ذا الجلال والإكرام، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.