الحمد لله الذي خَلَقَ السموات والأرض، وجَعَلَ الظُلمَاتِ والنور، له الحمد كُلُّه، أَوَّلُهُ وآخرُه، ظاهرُه وبَاطنُه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصَفِيُّهُ وخَليلهُ، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سُنَّته واقتفى أَثَرَهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين،
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، فلا نجاةَ لكم إلا بتقواه، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2 - 3]، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4]، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ [الطلاق: 5].
عباد الله، الجَنَّةُ مُنْيَة المتقين، الجَنَّةُ دارُ السلام، الجَنَّةُ لها شَمَّرَ الْمُشَمِّرون، الجَنَّةُ هي دارُ النعيم الكامل الذي أَعَدَّ الله فيه لعباده ما لا عينٌ رأت، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خَطَرَ على قَلب بَشَر، الجنة كَرَامةُ الله لأوليائهِ، الجَنَّةُ هي الحُسْنَى التي وعدها الله - تعالى - مَن أَطَاعَهُ وَلَزِمَ شرعه، الجنَّة مَهْرُهَا طاعة الله، وثَمَنُهَا صلاح القلبِ واستقامته، على أن الجنة غالية، ثمنها ليس بالبخس ولا بالزهيد؛ ثمنها أن تُقْبِلَ على رَبِّكَ بقلبك طائعًا مُحبًّا مُعَظِّمًا، وأن تلتزمَ في جوارحك ما يحبه الله - تعالى ويرضاه -، وأن تكون في شؤونك كُلِّهَا باحثًا عن رضا مولاك.
الجنة دار الطيبين، تلك الدار التي أَعَدَّهَا الله لأوليائه هي دار الطيبين، ومساكنهم، وهي التي وعدها الله - تعالى - عباده في قوله - جل وعلا -:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)﴾[الصف:11 - 12].
الجنة تُحَصَّلُ بطاعة الله، وبالنجاة من النار، وكل ذلك لا يُحَصَّلُ إلا بالعمل الطيب، ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾[آل عمران: 185].
كَانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أصحابه جالسًا، فأشاح بوجهه مرةً أو مرتين، فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتَّقُوا النَّارَ» ثُمَّ أَعْرَضَ بوَجْهِه؛ ثم قال: «اتَّقُوا النَّارَ» ثُمَّ أَعْرَضَ بوَجْهِه. قال الصحابي: ظَنَنَّا أنه يَنْظُر إليها؛ أي: إلى النار، ثم قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»؛ ثم قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمَن لم يجِدْ شِقَّ تَمرَة جُزْئَهَا وبَعْضَهَا فمن لم يجد فبكَلِمةٍ طيِّبَة».
نخرج من هذه الدنيا بأعمالنا، لن نخرج بمال، ولا بجاه، ولا بولد، ولا بنسب، ولا بغير ذلك من شؤون الدنيا؛ إنما نخرج بأعمالنا؛ «إذا مات ابن آدم تَبِعَهُ ثلاثة؛ يرجع اثنان، ويبقى واحد» يتبعك أهلك، ومالك، وعملك، «فيرجع الأهل والمال»، ولا يبقى معك إلا عملك، ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)﴾[الإسراء: 13 - 14].
والناس في خروجهم من الدنيا على نحوين:
- طيبين، جعلني الله وإياكم منهم.
- وظالمين، أعاذنا الله وإياكم من عملهم ومآلهم.
أما الطيبون فتتوفاهم الملائكة، يتلقونهم بالبِشر، يتلقونهم بالسلام؛ يقول الله - تعالى -: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙيَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[النحل:32].
أما من ظَلَم فإنه يتنزل عليه من العقاب ما ذكره الله – تعالى - في كتابه: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ [الأنفال:50]؛ هذا ما قالوا لأولئك، وهذا منتهى هؤلاء؛ فريقٌ في الجنةِ، وفريقٌ في السعير.
ونحن في الدنيا على امتحانٍ واختبار؛ البصير العاقل من استكثر من الصالحات، وتخفف من السيئاتِ طاقتَهُ وَجُهْدَه.
لابد من عثرة، ولابد من زلة، ولابد من خطأ؛ «كل ابن آدمَ خَطَّاء»؛ لكن الفارق بين الخطَّائين التوبةُ والرجوع إلى الله - عز وجل - بالاستغفارِ، وإصلاح العمل.
«كل ابن آدم خطَّاء وخير الخطائين التوابون»؛ فالعبد في هذه الدنيا يُطَيِّبُ نَفْسَه؛ المؤمن يسعى إلى تطييب نفسهِ استعدادًا لدارهِ التي سيؤول إليها، وينتهي إليها؛ يرجو الله من فضله، ويسأله عونه؛ يحقق ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5] فلا يعبد إلا الله، وهو في عبادته يطلب العون من ربه؛ أن يسدِّده، وأن يحفظه، وأن يقبل عمله، وأن يغفر زلَّاته.
أيها المؤمنون، تلك الذنوب والخطايا، تلك السيئات والموبقات، تلك العثرات يُخَلِّصَ الله - تعالى - المؤمنين منها بالتمحيص في الدنيا؛ فمِن رحمة الله بعباده أن يُمَحِّصَهُم بألوانٍ من التمحيص، حتى إذا دخلوا الجنة كانوا على نحو ما ذكر الله - تعالى -: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾[الزمر:73].
لا يدخل الجنة إلا طيِّب، ولا طيِّبَ مع الذنب والخطأ، بل لابد من تمحيصٍ وتطهير؛ فليس في الجنة ذرة خُبث؛ لذلك قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ»؛ أقل ما يوزن من الكِبر في قلبك يمنعك من دخول الجنة؛ لأن الجنة طيبةٌ لا يدخلها إلا الطيبون.
ولذلك يُمَحِّص الله - تعالى - الناس قبل أن يَرِدُوا ذلك المورد الكريم بأنواعٍ من التمحيص، وهم في ذلك على درجاتٍ ومراتب؛ فمن الناس من يُخَلَّص، ويُمَحَّص في الدنيا فيتوفى طيبًا؛ كما قال - تعالى -: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙيَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[النحل:32]؛ والتمحيص في الدنيا على أنواع: تمحيص الخطايا، وتطهير القلوب، وتطييب الأعمال في الدنيا على مراتب؛ فإن الذنوب كَدَرٌ؛ ولذلك قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾[التوبة:28].
والله قد شَرَعَ لنا من التطهير في الدنيا ما هو من أعمالنا، وما هو من فضله وإحسانه؛ فلننظر في ممحصات الذنوب، ومطهرات الأعمال، ومطيبات الإنسان في دنياه؛ عَلَّهُ أن يأخذ منها بما يستطيع:
رأس ذلك وأوله التوبة؛ فليس شيء أعظم من التوبة في التطهير؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖنُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾[التحريم:8].
فالتوبةٌسَبَبٌ عظيمٌ من أسبابِ تطهير الأبدان، وتطهير القلوب، وتطييب الأعمال؛ ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾[الفرقان: 70]، فالتوبة تهدم ما كان قبلها، والتائبُ من الذنب كمن لا ذنب له، هذا هو المطهِّر الأول.
أما المطيِّب الثاني: فهو لزوم الاستغفار وكثرته على اللسان والقلب، وهو طلب العفو والمغفرة من الرب - جل في علاه -؛ جاء في الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةً سَوْدَاءَ فِي قَلْبِهِ»؛ أثرًا لذلك الذنب «فإن تَابَ، ونَزَعَ، واستغفر؛ ثُقِلَ منها» أي: طُهِّرَ قلبه، «وإن زاد زادت حتى يُغَلَّفَ بها قلبه؛ فذلك الران الذي ذكره الله – تعالى - في قوله: ﴿كَلَّا ۖبَلْ ۜرَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين:14]».
أما ثالث المطيِّبات:فهو الحسنات الماحية؛ فإنَّ الحسنات يذهبن السيئات؛ ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود، جَاءَ رجلٌ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ !أَصَبْتُ من امرأة قُبْلَةً، فها أنا ذا فاقضِ فيَّ ما ترى». فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أوحاه الله - تعالى - إليه: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ﴾[هود:114].
«اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها»، فمِن فضل الله على عباده أنَّ الحسنات يذهبن السيئات؛ قال الرجل: «يا رسول الله ألِيَ هَذِه؟» أي: خاصة، قال: «هِيَ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي »، فهي ليست خاصة؛ بل هي عامة بكل من أَلَمَّ بذنب، فإذا عصيتَ الله في سِرٍّ أو علنٍ فأتبع السيئة حسنةً تمحها، وارجُ من الله الفضل، وأَمِّل منه القبول، وإياك والإصرار على الخطأ.
أما رابع الممحِّصات والمطيِّباتالتي تطهر بها الذنوب، وتطيب بها الأعمال في الدنيا: المصائب المكفِّرة التي يُنزلها الله - تعالى - بعبده؛ فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيدٍ وأبي هريرة أن النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ، وَلا وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ، وَلاَ حُزْنٍ، وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ»؛وهذه هي ألوان الأذى وألوان المصائب التي تصيب الناس؛ «مِنْ نَصَبٍ»: يعني تعب، «وَلَا وَصَبٍ»: يعني مرض، أو تعب شديد، «ولا هَمٍّ، ولا حُزْن، ولا أذى» سواء كان قوليًّا، أو عمليًّا في نفسه، أو في ماله، أو فيمن يحب، «ولا غَمٍّ حتى الشوكة يُشاكها إلا كَفَّرَ الله بها من خطاياه»؛ وهذا فضل الله؛ فإنْ صَبَرَ كان له أجر الصابرين مع تكفير الخطايا والسيئات.
وجاء في البخاري من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، إِلَّا حَاتَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ»؛ أي: أسقطها كما تحاتُّ الأوراق في الخريفِ من أشجارها «كما تحاتُّ وَرَقُ الشجر»؛ أي: كما تتساقط أوراق الأشجار.
فاتقوا الله عباد الله، واستكثروا من أسباب المغفرةِ، والتوبةِ، وتكفير الذنوب، وتطييب الأعمال بالتوبة إلى الله، وكثرة الاستغفار، والإحسان بالصالح ما استطعتم، واحتساب الأجر فيما يصيبكم من المقدرات والمصائب.
اللهم اغفر لنا السر والعلن، وتجاوز عن الخطأ يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنك قلتَ وقولك الحق: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾[نوح: 10]، اللهم إنَّا نستغفرك فاغفر لنا الدقيق والجليل، الصغير والكبير، ما علمناه وما جهلناه، القديم والحديث، لا إله إلا أنت سبحانك إنَّا كنا من الظالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله غافر الذنب، وقابل التوبِ، شديد العقاب، لا إله إلا هو، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أَثَرَهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين،
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله تعالى، واستكثروا من الصالحات، وتخففوا من السيئات، واعلموا أنه لا يخفى على الله منكم خافية، لا في سرٍّ ولا في علن، ولا فيما تخفيه صدوركم أو تعلنه أعمالكم، فاتقوا الله عباد الله، وبادروا إلى أن تكونوا من الذين تتوفاهم الملائكة طيبين؛ ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖوَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾[فصلت:30 - 32].
اللهم أنزلنا منازل الطيبين، وألحقنا بعبادك الصالحين، واجعلنا ممن تتوفاهم الملائكة طيبين يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله، إذا فاتت الإنسان هذه الأربع: التوبة، والاستغفار، والأعمال الصالحة، والمصائب السمكَفِّرَة؛ فكانت ذنوبه أعظم من أن تحيط بها هذه الأمور الأربعة، كان ذلك على نحو من التمحيص بعد ذلك بيَّنته النصوص؛ فإنه إذا لم تف هذه الأربعة لتمحيصه وتخليصه؛ فلم تكن التوبة صادقةً وهي العامة الشاملة، ولم يكن الاستغفار نافعًا كاستغفار المصر على الذنب لا يقلع عنه، ولم تكن الحسنات وافيةً بتكفير الخطايا، ولا المصائب في تكفيرها وحطها، إما لعظم الجناية، وإما لضعف المخلص، أو لغفلة الإنسان، فثمت في الحياة البرزخية ثلاثة أمورٍ تنفع العبد في تطييبه وتطهيره من أوزار الخطايا والمعاصي:
أول ذلك عندما يقف المصلون على الميت يدعون له؛ فإن هذه شفاعة يشفِّعهم الله - تعالى - فيه؛ وذلك بحط خطاياه، ومغفرة ذنوبه، فصلاة أهل الإيمان على الجنازة واستغفارهم له، وشفاعتهم له مما يُمَحِّصُه، ويُطَيِّبُهُ، ويُخَلِّصُهُ.
ثم إن كان له من الذنوب ما لم يُمَحَّص بذلك؛ يأتيه في فتنة القبر، وروعة الفَتَّان، والعصرة، والانتهار في أحوال أهل القبور، وتوابع ذلك ما يحط الله تعالى به الخطايا.
ومما يُغفر به للناس في قبورهم دعاء أهلهم وأولادهم ومحبيهم؛ فإنه إذا مات ابن آدم لم ينفعه عمل إذا عمله، إلا ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلَاثٍ؛ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَصَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»، وهو رهينُ أعماله؛ ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة﴾[المدثر: 38].
فإذا لم يمحص بهذه الأمور الثلاثة التي تكون في القبور من صلاة المؤمنين عليه، ودعائهم له، ومن دعاء أولاده ومحبيه، ومما يجريه الله تعالى من أهوال القبر، وفتنته وسائر ما يكون فيه - مُحِّصَ بين يدي ربه في الموقف بـأمور:
أولها: أهوال ذلك اليوم؛ فأهوال القيامة عظيمة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد﴾[الحج:2].
ومما يمحِّص الله تعالى به الذنوب والخطايا، وينجي به الإنسان من سيئ الأعمال؛ شفاعة الشافعين، وعفو رب العالمين.
فإن لم تَفِ هذه الثلاثة بتمحيص الإنسان يوم العرض على الله - عز وجل -، كان لابد له من دخول النار؛ أعاذنا الله وإياكم من النار.
اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، يا عزيز يا غفار.
فيدخل النار لتمحيصهِ وتطييبهِ.
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن خروج أهل الكبائر من النار بأسباب:
منها شفاعة الشافعين، ومنها رحمة رب العالمين، ومنها ما يكون من تخليصهم وتطهيرهم من سيئ أعمالهم:
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ» أي: نجَّى الله المؤمنين من النار بأن جازوا الصراط وعبروه؛ «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّار»؛ فالمؤمنون الناجون يشفعون لإخوانهم، ويناشدون الله تعالى «يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّون» فيقول الله - تعالى - لهؤلاء إكرامًا لهم، ورحمةً بمن تورط في النار من أهل الإيمان: «أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُم» فيخرجهم الله - تعالى -؛ حيث إن صورهم لا تذهبها النار، «فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدِ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ، فَيَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا أَحَدًا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوه» وهكذا يراجعون ربهم جلَّ في علاه، «فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا» فلا يبقى فيها إلا أهل الكفر والشرك ممن كتب الله عليهم فيها الخلود؛ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[النساء: 40]، «فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا» أي: صاروا فحمًا.
ذاك فضل الله وعطاؤه.
فاتقوا الله يا عباد الله، فالذنب لابد له من أثر، وأثره يرتفع بهذه الأسباب، فبادروا إلى التوبة والاستغفار، ولا يغرنكم إمهال الله؛ فالله قد قال: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾أي: أعطيهم وأمدهم ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾[الأعراف: 183].
اللهم أَجِرْنا من كيدك، وارزقنا يقظةً يا ذا الجلال والإكرام.
فتوبوا إلى الله صادقين من الدقيق والجليل، وبادروا إلى العمل الصالح؛ طلبًا لرحمة العزيز الغفار؛ جل في علاه.
اللهم إنَّا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم مَن أرادنا وأراد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه، ورُدَّ كيدَه في نحرهِ، وأَجِرْنا من مكره وكيده يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم احفظ بلادنا من كل سوء وشر.
اللهم عليك بالحوثيين؛ فإنهم لا يعجزونك، وعليك بمن ساندهم وأعانهم بالمالِ، والإعلامِ، والسلاحِ، يا قوي يا عزيز؛ اللهم أحصهم عددًا، اللهم وأفشل مكرهم وكيدهم، ورد كيدهم في نحورهم يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الرحمن الرحيم.
اللهم انصر جنودنا المقاتلين، اللهم ثبِّت أقدامهم، وسدِّد رميهم، واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم.
اللهم وفِّق ولاة أمورنا إلى ما تحب وترضى، اللهم سددهم بالقول والعمل، وألهمهم الرشد يا ذا الجلال والإكرام، هيِّئ لهم بطانةً صالحةً تأمرهم بالخير وتدلهم عليه وتحذرهم من الشر وتنهاهم عنه.
اللهم إنَّا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، لا حول ولا قوة إلا بك، نسألك أن تصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمع كلمتهم على الحق والهدى، اللهم ولِّ عليهم خيارهم وقهم شر أشرارهم.
اللهم مَن أراد الإسلام بسوء فأشغله في نفسه، ورد كيده في نحره.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
أكثروا من الصلاة على نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - في يومكم هذا؛ فإن الله معطيكم بالصلاة عليه خيرًا؛ «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا».
اللهم صلِّ وسلِّم على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد.