إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾آل عمران: 102.
عِبادَ اللهِ, إِنَّ اللهَ تَعالَى يَقُولُ في كِتابِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾التوبة: 119؛ اللهُ جَلَّ في عُلاهُ يَأْمُرُ بِصُحْبَةِ الصَّالحينَ وَيَنْهَى عَنْ صُحْبَةِ الأَشْرارِ الفاسِدِينَ، وَقَدْ قَصَّ اللهُ تَعالَى في كِتابِهِ الحَكِيمِ نَبَأَ ذِلَكَ الرَّجُلَ الَّذي كانَ لَهُ صاحِبٌ يَدْعُوهُ إِلَى السُّوءِ وَالشَّرِّ وَالفَسادِ يَقُولُ جَلَّ في عُلاهُ ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾الصافات: 50 أَقْبَلَ أَهْلُ الآخِرَةِ إِذا انْقَطَعَتْ أَعْمالُهُمْ وَجُوزُوا بِها، أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ﴾الصافات: 51 أَيْ: مِنْ أَهْلِ الإيمانِ وَالجَنَّةِ ﴿إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ﴾الصافَّاتِ: 51- 52 كانَ لَهُ صاحِبٌ يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ وَيَسْتَهْزِئُ بِهِ وَيَسْتَبْعِدُ وُقُوعُهُ وَيَصُدُّ عَنْ كُلِّ ما يُقَرِّبُ إِلَيْهِ ﴿كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ﴾الصافات: 51- 53 أَيْ: سَنُحاسَبُ عَلَى أَعْمالِنا وَسَنُجازَى بِما كانَ مِنْ عَمَلِنا في هَذِهِ الدُّنْيا؟ فَجاءَ الجَوابُ مِنْ ذاكَ الرَّجُل في بيانِ المَصائِرِ وَالنِّهاياتِ في بَيانِ ما يَؤُولُ إِلَيْهِ حالُ الإِنْسانِ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ بَعْدَ مُجازاتِهِ عَلَى عَمَلِهِ، قالَ: ﴿قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ﴾الصافات: 54 القائِلُ هُوَ ذَلِكَ المؤْمِنُ الَّذِي زَيَّنَ لَهُ صاحِبُهُ الشَّرَّ والفَسادَ لَكِنَّهُ تَرَكَهُ وَأَبَى أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ ﴿قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ﴾الصَّافاتُ: 54 يَقُولُ لجُلَسائِهِ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ؟ ﴿فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾الصافات: 55 نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الخُذْلانِ رَأَى ذَاكَ الَّذي يَقُولُ لَهُ: ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ﴾الصافات: 53 لَقَدْ رَأَى ما كانَ يَقُولُهُ المُرْسَلُونَ، لَقَدْ رَأَى ما كانَ يُدْعَى إِلَى خَوْفِهِ وَالتَّهَيُّؤِ لهُ، بَلْ هُوَ في سَواءِ الجَحيمِ في وَسَطِها، نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الخُذْلانِ.
قالَ المؤْمِنُ مُتَذَكِّرًا نِعْمَةَ اللهِ وَعَظيمَ إِحْسانِهِ عَلَيْهِ: ﴿تَاللَّهِ﴾الصَّافاتُ: 54 يُقْسِمُ باِللهِ العَظيمِ ﴿تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾الصافات: 56- 60 نَعَمْ إِنَّهُ لَفَوْزٌ عَظيمٌ أَنْ تَنْجُوَ مِنَ النَّارِ قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾آل عِمْرانَ: 185 هَذا نَمُوذَجٌ يَقُصُّهُ اللهُ تَعالَى عَلَى أَهْلِ الإِيمانِ يُذَكِّرُهُمْ بِأَحْوالِ أَصْحابِهِمْ وَما يَكُونُ إِلَيْهِ مآلهُمْ في نِهايَةِ الأَمْرِ وَفي نِهايَةِ المطافِ عِنْدَما يُجْزَوْنَ بِأَعْمالِهِمْ؛ رَجُلٌ زَيَّنَ الشَّرَّ وَجَمَّلَهُ وَدَعا إِلَيْهِ وَصَدَّ عَنْ الحَقِّ وَزَهَّدَ فِيهِ، فَكانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ خُسْرًا, ﴿فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾الصافات: 55 فَتَذَكَّرَ المؤْمِنُ عَظيمَ إِنْعامِ اللهِ تَعالَى عَلَيْهِ أَنْ نجَّاهُ مِنْ تِلْك الَحالِ وَمِنْ ذَلِكَ المآلِ وَمِنْ ذَلِكَ المصيرِ.
﴿وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ أي: في مثل هذا المقام الذي هو فيه في سواء الجحيم ﴿أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾الصافات: 59- 60 ثُمَّ يَقُولُ: ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾الصَّافاتُ: 61 المَوْقِفُ الَّذي يَفْرَحُ فِيهِ بِالنَّجاةِ وَيَحْمَدُ اللهَ تَعالَى عَلَى عَظيمِ الإِنْعامِ وَالعَطاءِ فَلْيَعْمَلِ العامِلُونَ.
أَنْتُمْ أَيُّها المؤْمِنُونَ في دارِ عَمَلٍ وَالَيَوْمَ تَخْتارُونَ أَصْحابَكُمْ مِنْ قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ حَتىَّ فيما يَتَعَلَّقُ بِأَقْرَبِ ما يَكُونُ مِنَ الصُّحْبَةِ وَأَلْزَمِها: الزَّوْجاتُ وَالأَزْواجُ، الزَّوْجاتُ لِلرِّجالِ وَالأَزْواجُ لِلنِّساءِ, فَهُمْ يَخْتارُونَ قُرَناءَهُمْ ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾الصافات: 22 أَيْ: وَأَقْرانَهُمْ الَّذينَ شَابَهُوهُمْ في الأَعْمالِ وَشاكَلُوهُمْ في الأَحْوالِ وَكانُوا عَلَى نَظِيرِ ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ العَمَلِ.
فَاخْتَرْ يا عَبْدَ اللهِ، فاخْتَرْ مِنَ الأَصْحابِ مَنْ يُقَرِّبُكَ إِلَى العَزيزِ الغَفَّارِ، اخْتَرْ مِنَ الأَصْحابِ مَنْ لا تَعَضَّ عَلَى أَصابِعِ النَّدَمِ يَوْمَ العَرْضِ يَوْمَ القِيامَةِ فَتَتْنَدُمُ عَلى تَرْكِ صُحْبَةِ الأَخْيارِ وَعَلَى مُفارَقَةِ الأَشْرارِ؛ يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ﴾الفرقان: 27 لَيْسَ يَدُ وَاحِدَةٌ عَلَى يَدَيْهِ جَمِيعًا لِشِدَّةِ نَدَمِهِ وَأَلَمِهِ وَحَسْرَتِهِ وَما آلَ إِلَيْهِ مَصِيرُهُ ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾الفرقان: 27 يا ليتني سِرْتُ في مَسَارِه ورافقت أصحابه ونهجت منهاجه وسلكت صراطه ولزمت سنته وصاحبت أولياءه ﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي﴾الفرقان: 27- 29، فَلَمَّا ضَلَّ فَرِحَ بِهِ الشَّيْطانُ ﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً﴾ فاجْتمَعَ عَلَيْهِ أَصْحابُ سُوءٍ يَدْعُونَهُ إِلىَ الرَّدَى وَالشَّرْ، وَعَضَّدَهُمْ شَيْطانٌ مُرْسَلٌ يَصُدَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، يُزَيِّنُ كُلَّ رَذِيلَةٍ وَيُقَبِّحُ كُلَّ فَضيلَةٍ، يَدْعُو إِلَى الشَّرِّ وَالفَسادِ، وَيُحَّذِرُ وَيُنَفِّرُ مَنَ الخَيْرِ وَالصَّلاحِ ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾الأعراف: 16- 17 أَيْ: عابِدِينَ قائِمِينَ بِما أُمْرُوا بِهِ مِنَ الطَّاعاتِ.
أَيُّها الأَخْيارُ, اتَّقُوا العَزِيزَ الغَفَّارَ، صاحِبُوا مَنْ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى اللهِ، صاحِبُوا مَنْ يَدُلُّكُمْ عَلَى الخَيْرِ، وَاحْذَرُوا كُلَّ صُحْبَةِ شَرٍّ وَلَوْ كانَتْ عَارِضةً؛ فَإِنَّ صُحْبَةَ الأَشْرارِ قَذَىً وَشَرٌّ قَدْ يُوقِعُكَ في الهَلاكِ، وَاذْكُرْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكَ بِما ساقَهُ إِلَيْكَ مِنْ صُحْبَةِ الأَخْيارِ؛ فَإِنَّ صُحْبَةَ الأَخْيارِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ؛ ﴿وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾.
عِبادَ اللهِ, إِنَّ الصَّاحِبَ ساحِبٌ, إِماَّ أَنْ يَصْحَبُكَ إِلَى خَيْرٍ فَيُقَرِّبُكَ إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْحَبُكَ إِلَى رَدَىً فَيُوقِعُكَ فَيهِ، في المسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ بِإِسْنادٍ جَيِّدٍ قالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرِ المرْءُ مَنْ يُخالِلُ»مُسْنَدُ أَحْمَدَ(8028), وَالتِّرْمِذِيُّ(2378), وقالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ., فَلا تُظَنَّ أَيُّها المؤْمِنُ أَيُّها الرَّاشِدُ أَنَّ الصُّحْبَةَ مَعَ الأَشْرارِ لا تَضُرُّكَ بَلْ هِيَ وَلابُدَّ أَنْ تَتْرُكَ أَثرًا، وَقَدْ ضَرَبَ لِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - مَثلاً يُقَرِّبُ الصُّورَةَ وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ الأَمْرَ المَعْنَوِيَّ بِمِثالٍ شاهِدٍ حاضِرٍ مَرْئِيٍ مَحْسوسٍ بِالحواسٍّ وَالمدْرِكاتِ الحِسِّيِّةِ.
يَقُولُ - صَلَّىَ الله عليهِ وَسلَّمَ -: «مَثَلُ الجليسِ الصَّالحِ كحاملِ المِسْكِ، ومَثَلُ الجليسِ السَّوءِ كنافخ الكِيرِ، حامِلُ المِسْكَ إِمَّا أَنْ تَبْتاعَ مِنْهُ، وَإِماَّ أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ عِنْدَهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً» فَلَنْ تَخْرُجَ مِنْهُ إِلاَّ بِخَيْرٍ؛ إِماَّ أَنْ تَشْتَرِيَ شَيْئًا تَنْتَفِعُ بِهِ وَإِماَّ أَنْ يُطَيِّبَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَحَسْبُكَ بِهَذِهِ خَيْرًا وَفَضْلاً تُدْرِكُهُ مِنْ صُحْبَةِ الأَخْيارِ وَمُجالَسَةِ الأَبْرارِ، «وَمَثَلُ الجَليِسِ السُّوءِ كَنافِخَ الكِيرِ؛ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ عِنْدَهُ رِيحًا مُؤْذِيَةً»البخاري(5534), ومسلم(2628).
فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ أَيُّها الرَّاشِدُ، اخْتَرْ لِنَفْسِكَ صُحْبَةَ الأَخْيارِ؛ لِتَكُونَ مِنَ الأَبْرارِ، وَاعْلَمْ أَنَّ صُحْبَةَ اليَوْمِ لا تَقْتَصِرُ عَلَى صُورَةٍ وَلا عَلَى نَمُوذَجٍ، فَهَذِهِ الأَجْهِزَةُ الَّتي بَيْنَ أَيْدِينا وَالَّتي فِيها مِنَ التَّواصُلِ بِشَتَّى صُوَرِهِ هِيَ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الصُّحْبَةِ، بَلْ تَأْثِيرُها أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِ الصَّاحِبِ المباشِرِ في كَثِيرٍ مِنَ الأَحْيانِ؛ فَلِذلِكَ احْذَرْ مَواقِعَ الرَّدَى وَمَواطِنَ السُّوءِ وَالشَّرِّ، الدُّنْيا قَصِيرَةٌ، وَما أَسْرَعَ الرَّحِيلَ، فَتَهَيَّأْ لِرَحِيلِكَ بِما تَفْرَحُ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ، وَكُنْ مِنْ أُولئِكَ الَّذينَ يَقُولُونَ: ﴿فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾الصافات: 55 وَلا تُكُنْ مَعَ أَهْلِ الجَحِيمِ أَنْجانا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الشَّرِّ وَقَرِّبْنا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ الأَبْرارِ، وَسُقْ إِلَيْنا كُلَّ خَيْرٍ يا عَزِيزُ يا غَفَّارُ، أَقُولُ هَذا القَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظيمَ لي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
***
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فِيهِ، حَمْدًا يُرْضِيهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، اتَّقُوا اللهَ تَعالَى وَانْجوا بِأَنْفُسِكُمْ؛ بِلُزومِ شَرْعِهِ وَالقِيامِ بَأَمْرِهِ وَالبُعْدِ عَنْ كُلِّ ما يُبْعِدُكُمْ عَنْهُ وَيَضْعُفُ صِلِتُكُمْ بِهِ لاسِيَّما الأَصْحابُ؛ فَإِنَّ لَهُمْ أَثَراً بالِغًا، وَالأَصْحابُ لَيْسَ فَقَطْ هُوَ الصَّدِيقُ في عَمَلٍ، وَلا هُوَ الرَّفِيقُ في اسْتِراحَةٍ وَلا هُوَ مَنْ تُجامِعُهُ في مَكانٍ عامٍّ أَوْ خاصٍّ، بَلْ هُوَ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ، فالزَّوْجَةُ صَاحِبٌ، وَالقَرِيبُ صاحِبٌ، وَمَنْ تَعامِلُهُ معُامَلَةً عارِضَةً صاحِبٌ، وَكذلِكَ المواقِعُ وَسائِرُ ما تُباشِرُهُ مِنْ وَسائِلِ الإِعْلامِ مَرْئِيًّا كانَ أَوْ مَسْمُوعًا سَواءٌ كانَ في وَسائِلِ التَّواصُلِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، كُلُّ أُولئِكَ أَصْحابٌ، فاحْذَرْ صُحْبَةَ الأَشْرارِ وَفُزْ بِصُحْبَةِ الأَخْيارِ، وَالأَخْيارُ لَيْسَ وَصَفًا مُقَيَّدًا بِصُورَةٍ، بَلْ الأَخْيارُ هُمْ كُلُّ مَنْ يَدُلُّكَ إِلَى اللهِ، كُلُّ مَنْ يُعَرِّفُكَ بِرَبِّكَ وَيُقَرِّبُكَ إِلَيْهِ، فاحْرِصْ عَلَى هَؤُلاءِ وَاحْذَرْ مُصاحَبَةَ الأَشْرارِ؛ فَإِنَّ صُحْبَتَهُمْ رَدًى.
في الصَّحِيحَيْنِ عَنِ المسَيِّبِ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ - وَاسْتَمِعْ إِلَى هَذا الحَدِيثِ - يَقُولُ:" لما حَضَرَتْ أَبا طالِبٍ الوَفاةُ"، أَبُو طالِبٍ هُوَ عَمُّ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لمْ يُؤْمِنْ بِرِسالَتِهِ، نافِحَ عَنْهُ أَعْظَمُ مُنافَحَةٍ وَقاتلَ كُلَّ مَنْ عارَضَهُ، وَوَقَفَ سَدًّا مَنِيعًا دُونَ أَذَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَكِنَّهُ لمْ يَشْرَحِ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ، لماَّ حَضَرَتْهُ الوَفاةُ جاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عَمِّهِ الَّذي كانَ يَذُبُّ عَنْهُ وَيُدافِعُ عَنْهُ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ اثْنَيْنِ، وَجَدَ عِنْدَهُ أَبا جَهْلٍ فِرْعَوْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَوَجَدَ عِنْدَهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مَحْضَرِ هَؤُلاءِ: «يا عَمِّ، قُلْ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، كَلِمَةً أُحاجُّ لَكَ بها عِنْدَ اللَّهِ» رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْرِضُ عَلَى عَمَّهِ في الرَّمَقِ الأَخْيرِ هَذِهِ الكَلِمَةِ الَّتي كانَ يَدْعُو إِلَيْها: «يا عَمِّ، قُلْ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، كَلِمَةً أُحاجُّ لَكَ بها عِنْدَ اللَّهِ»، قالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: «يا أَبا طالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟» قالَ الشَّيْطانُ الخَبِيثُ لِيَصُدَّ هَذا عَنِ الإِيمانِ: «أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المطَّلِبِ؟» أَيْ: أَتَتْرُكُ مِلَّةَ أَبِيكَ وَأَجْدادِكَ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْرِضُها عَلَيْهِ يُكَرِّرُها يَقُولُ: «يا عَمِّ، قُلْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحاجُّ لكَ بها عِنْدَ اللَّهِ» وَيَعُودُ هَذانِ إِلَى مَقالَتِهِما فَيَقُولانِ لأَبِي طالِبٍ: «تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟» فَكانَ آخِرُ ما قالَ أَبُو طالبٍ: «هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المطَّلِبِ»، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ.البخاري(3884)مسلم(25).
جاءَ في الصَّحيحِ أَنَّ العَبَّاسَ قالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا رَسُولَ اللهِ هَذا عَمُّكَ أَبُو طالَبٍ: «فَإِنَّهُ كانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ» يَعْنِي كانَ يُناصِرُكَ وَيُدافِعُ عَنْكَ «هَلْ نَفَعْتَهُ بِشَيْءٍ؟» يَعْني: أَيُّ شَيْءٍ نَفَعْتَهُ يَوْمَ القِيامَةِ؟ فَقالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «هُوَ في ضَحْضاحٍ مِنْ نارٍ» الضَّحْضاحُ هُوَ الماءُ الَّذِي يَصِلُ إِلَى حَدِّ الكَعْبَيْنِ «هُوَ في ضَحْضاحٍ مِنْ نارٍ وَلَوْلا أَنا» يَعْني لَوْلا شَفاعَتي: «لَكانَ في الدَّرَكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ» وَقَدْ وَجَدَ رَسُولُ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعَدَمِ اسْتِجابَتِهِ حُزْنًا شَدِيدًا وَأَلَـمًا حَتَّى قالَ: «لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ما لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» فَقالَ رَبِّي: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾الصافات: 55.البُخارِيُّ(1360)مُسْلِمٌ(24).هُوَ أَعْلَمُ بمنِ اتَّقَى سُبْحانَهُ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الهُدَى جَلَّ في عُلاهُ.
وَصِيَّتِي لَكُمْ أَيُّها الأَخْيارُ: أَنْ تُصاحِبُوا مَنْ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى اللهِ لا مَنْ يُوقِعُكُمْ فِيما يُغْضِبُ اللهَ سَواءٌ كانَ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا، حَتَّى الزَّوْجاتِ؛ فَإِنَّ الزَّوْجَةَ الَّتي تَدْعُوكَ إِلَى الشَّرِّ تُدْنِيكَ مِمَّا يُغْضِبُ اللهَ، وَكَذَلِكَ النِّساءُ الأَزْواجُ الَّذينَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الشَّرِّ يُدْنُونَهُنَّ إِلَى الفَسادِ؛ وَلهَذا لِيَتَخَيَّرَ كُلُّ أَحَدٍ صاحِبَهُ قَرِيبًا أَوْ بَعْيدًا، حَتَّى في الأَزْواجِ رجالاًوَنِساءً، مَنْ يُدْنِيهِمْ إِلَى اللهِ: «إذا أتاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأَرْضِ وَفَسادٌ كَبيرٌ» وَقالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فاظْفَرْ بِذاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَداكَ»البُخارِيُّ(5090), وَمُسْلِمٌ(1466).
فَاحْرِصُوا عَلَى صُحْبَةِ الأَخْيارِ في أَنْفُسِكُمْ وَفي أَوْلادِكُمْ، نَبِّهُوهُمْ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ إِلَى البُعْدِ عَنْ كُلِّ مَنْ يُزَيِّنُ لَهُمُ الرَّدَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ الشَّرَّ لا يَبْدَأُ كَبِيرًا، وَالنَّارُ تَبْدَأُ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ، وَالصَّاحِبُ قَدْ يَسْلُكُ في إِرْدائِكَ وَإِيقاعِكَ في الشَّرِّ خُطَواتٌ، وَاللهُ تَعالَى نَهانا عَنِ اتَّباعِ خُطواتِ الشَّيْطانِ.
اللَّهُمَّ أَلْهِمْنا رُشْدَنا، وَقِنا شَرَّ أَنْفُسِنا، وَقِنا شَرَّ كُلِّ ذِي شَرٍّ أَنْتَ آخِذٌ بِناصِيَتِهِ يا رَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُمُورِنا، وَاجْعَلْ وِلايَتَنا فِيمَنْ خافَكَ وَاتَّقاكَ وَاتَّبَعَ رِضاكَ.
الَّلهُمَّ اسْلُكْ بِنا سَبِيلَ الرَّشادِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ المتَّقينَ وَحِزْبِكَ المفْلِحينَ وَأَوْلِيائِكَ الصَّالحينَ.
اللَّهُمَّ أَبْعِدْ عَنَّا الأَشْرارَ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنا صُحْبَةً تُقَرِّبُنا إِلَيْكَ وَتَدُلُّنا عَلَيْكَ وَتُعِينُنا عَلَى طاعَتِكَ، وَقِنا يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ كُلُّ صاحِبِ شَرٍّ ظاهرٍ أوْ مُسْتَتِرٍ، قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ يا حَيُّ يا قَيُّومُ.