المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأهلا وسهلا بكم مستمعينا الكرام من هذه الحلقة من برنامجكم "الدين والحياة"، نرحب بكم ونسعد بصحبتكم من خلال اللقاء الذي يمتد بنا وبكم -بإذن الله تعالى- على مدى نحو ساعة من الآن معي أنا "عبد الله الداني" وزميلي من التنفيذ على الهواء "هتان الحسيني" كما أرحب أيضًا ويسعدني أن أرحب بضيفي وضيفكم الدائم في هذا البرنامج فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور "خالد بن عبد الله المصلح" أستاذ الفقه بكلية الشريعة في "جامعة القصيم" وعضو الإفتاء في منطقة القصيم السلام عليكم ورحمة الله أهلًا وسهلًا بفضيلة الشيخ.
الشيخ:- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته مرحبا بك أخي عبد الله، حياك الله، وأسأل الله أن يجعله لقاء نافعًا مباركًا.
المقدم:- حديثنا مستمعينا الكرام في برنامجكم "الدين والحياة" عن "أثر الصحبة في الدنيا والآخرة"، هذا الموضوع الذي أصبح ذا أهمية كبرى في العصر الحالي، وأيضًا فيما يتعلق بأثر الصحبة الصالحة في حياة الإنسان المسلم الذي يخاف على دينه بين هموم الحياة وكثرة المُغرِيات فيها أيضًا يبحث هذا الإنسان المسلم، يبحث كل منا كذلك أيضًا عن صديق يتقاسم معه همومَه وأحزانه، ويساعده على أمر دينه ودنياه، ينبهه إذا أخطأ، ينصحه إذا احتاج إلى النصح، ويتقاسم معه فرحه وهمه، وعلى الفرد كذلك أيضًا مستمعينا الكرام أن يختار الصحبة بعناية لكي تكون عونًا له لا عليه.
حديثنا مستمعينا الكرام في هذه الحلقة -بإذن الله تعالى-، سوف يكون حول هذا الموضوع، ويسرني أن أبدأ في الحديث مع فضيلة الشيخ الدكتور خالد المصلح ضيفنا في هذا اللقاء عن أثر الصحبة الصالحة في الدنيا والآخرة.
شيخ خالد! قبل الحديث عن أثر الصحبة، لماذا الحديث عن الصحبة، وما مدى تأثير هذه الصحبة حتى يكون لها هذه الأهمية؟
الشيخ:- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، حياك الله أخي عبد الله، وحيا الله الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وأسأل الله تعالى أن يكون هذا اللقاء لقاء نافعًا ماتعًا مباركًا.
موضوع الصحبة موضوع ذو بال، وله كبير الأثر، فالله –جل وعلا- خلق الإنسان مدنيًّا بطبعه، فهو يجتمع إلى من يشاكله، يجتمع إلى من يوافقه في الجنس، يلتقي بأضرابه من الناس وأمثاله، ولا غنى له عن المشاركة والمجالسة لبني جنسه.
ولهذا جاءت النصوص في الكتاب والسنة مبيِّنة أهمية صحبة الأخيار، وضرورة توقي الأشرار؛ لما للصحبة من عظيم الأثر وكبير التأثير الذي يجعل الإنسان منفعلًا بأصحابه متأثِّرًا بهم، فإن كانوا من أهل الخير كان ذلك عائدًا عليه بالرشد والنفع، وإن كانوا من أصحاب الشرِّ كان نقصًا له في دينه ودنياه.
أنت أخي الكريم إذا تأمَّلت الآيات الكريمة وجدت أن الله تعالى يحثُّ ويندب أهل الإيمان إلى مرافقة الأخيار، فيقول الله –جل وعلا- في كتابه: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ البقرة: 43، هناك جنس تشاركهم في عمل، وهذا الخطاب العام جاء نظيره في خطاب خاصٍّ لمريم -عليها السلام- حيث قال –جل وعلا-: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ آل عمران: 43 هذه الآيات ونظائرها كثير تدل على ضرورة الالتزام بصحبة الأخيار والأبرار، وهذا ليس في مرحلة من الزمن ولا في عبادة؛ لأن الآيات جاءت في ذكر المعيَّة العبادية مع الراكعين، لكن هناك رعيَّة ممتدة بصحبة مستمرة ينبغي أن يحرص فيها الإنسان على انتقاء الأصحاب الذين لهم ما يعينهم على الفلاح والنجاح.
الله –جل وعلا- ذكر في محكم كتابه في دعاء أهل الإيمان ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ﴾ آل عمران: 193.
سؤال حتى المِيتة يطلبها الإنسان المؤمن أن تكون مع أهل الصلاح والخير، أن تكون مع أهل البر والتقى، أن تكون مع القوم الصالحين، وهذه مُنْيَة ومطمع لكل مؤمن أن يرافق أهل الخير والصلاح.
يقول الله تعالى: ﴿وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾ المائدة: 84 انظر إلى بلوغ هذه المنزلة العالية في صحبة الأخيار أن أصبحت مُنية، أصبحت أملًا وطموحًا تملأ به قلوب الأخيار للفوز بهذه الصحبة، والله –جل وعلا- يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ التوبة: 119 ومعيتهم موافقة في العمل ومشاركتهم في الوصف والاجتماع معهم؛ لأن المشاركة في العمل والوصف تقتضي المشاركة التي هي نوع من المخالطة والمعايشة.
في المقابل صحبة الأشرار هناك من النصوص ما فيه تحذير منه لبيان خطره، يقول أهل البرِّ وأهل الطاعة ﴿وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ الأعراف: 150، هذه الدعوة دعوة موسى أحد أولي العزم، دعوة هارون أحد رسل الله الكرام لما رجع موسى يقول الله تعالى: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ﴾ الأعراف: 150 لما تركهم عبدوا العجل، وترك فيهم هارون قال تعالى: ﴿وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ الأعراف: 150؛ لأن معيتهم وبال وشرٌّ.
وأهل الأعراف الذين نجوا من النار يوم القيامة إذا وقفوا على مرتفع بين الجنة والنار، مكان بين الجنة والنار، يقولون: دعاء صريحًا ﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ الأعراف: 47 نجنا من هذه الصحبة التي هذه مآلها، وهذه منتهاها.
إذًا الآيات واضحة وجليَّة في ندب أهل الإيمان إلى البذل والجهاد في مصاحبة الأخيار، وأن من رضي بأن يكون في صحبة الأشرار فهو على خطر عظيم يوشك أن يهلك الدنيا وأن يوبق آخرته، ولذلك جعل الله تعالى مخالطة أهل الشر من دلائل عدم الفقه كما قال الله –جل وعلا- في المنافقين قال تعالى: ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ﴾ التوبة: 87 رضوا بهذه الصحبة الرديئة التي تدل على عدم فقههم وعلى عدم وعيهم وعلى عدم علمهم بمآل هذه الصحبة التي تعود عليهم بفساد قلوبهم وطمث بصائرهم ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ﴾ التوبة: 93 انظر كيف أثر الصحبة؟ فكان محلًّا لذم الله –عز وجل- وطبع هذه العاقبة للصحبة السيئة وطبع على قلوبهم فهم لا يعلمون.
إذًا من المهم لكل مسلم، لكل من أراد نجاته أن ينجي نفسه من هذه الصحبة الرديئة، وأن يحرص على صحبة الأخيار حتى يفوز بطيب خصالهم وكريم سجاياهم وصالح عملهم الذي يسري بهم في نهاية المطاف، وخاتمة المآل يفضي بهم إلى النجاة والفوز والصلاح، متى يتبين عوار هذه الصحبة على وجه جلي واضح؟ يتبين يوم القيامة كما قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ الفرقان: 27، ندم على ترك صحبة الأخيار فمعية الرسول –صلى الله عليه وسلم- لا تقتصر على المعية المباشرة له في حياته، بل المعية له حتى بعد موته بلزوم سنته، وسلوك صراطه، ومصاحبة أهل ملته الذين يسيرون على هديه، ويعملون بعمله –صلى الله عليه وسلم- ﴿يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا﴾ الفرقان: 27، على ترك صحبة الأخيار، ثم يقابله الحسرة والندامة على ما تورَّط به من صحبة الأشرار، قال: ﴿يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ﴾ الفرقان: 28- 29 أضلني عن الهدي، أضلني عن البينات، جاءه الذكر وهو القرآن وما يذكِّره بالله ويحمله على الطاعة والإحسان، لكنه أعرض ﴿لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ﴾هذا الصاحب الرديء، ثم انعطفت عليه صحبة أردأ في المآل والعمل، وهي صحبة الشيطان ﴿بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا﴾ الفرقان: 29، فهذه الصحبة التي أوقعته في الرداءة تبعتها صحبة أخرى، وهي صحبة الشيطان ومقارنته التي تفضي به إلى كل فساد، وكل هلاك، وكل ضرر.
ولذلك يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ الزخرف: 36، أي يعمي عن ذكر الرحمن، هناك ذكر أن صاحب السوء من عواقب سوئه وصحبته أنه أضله عن الذكر، ثم ذكر ﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا﴾ما الصلة بين الاثنين؟ الصلة أن صاحب الشرِّ يزين لك الباطل، ويستولي عليك، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ الزخرف: 36 مع صحبة الشيطان وجنده، ولذلك يعمى عن السبيل ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ الزخرف: 37- 38، هذه الصحبة وهذا الاجتماع الذي كانوا عليه من شر وفساد هل يوم القيامة يخفِّف عنهم عذابًا، ويخفف عنهم مؤاخذة؟
الجواب:﴿وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ الزخرف: 39، فالاشتراك في العذاب ليس مخفِّفًا له، بل كل منهم يأخذ من العذاب ما يكون كفيلًا بمجازاته على سيئ عمله، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ الزخرف: 67، هذا كله يبين لنا ويعطينا صورة واضحة من كتاب الله -جل في علاه-، لم نتجاوز في حديثنا القرآن إلى هذه اللحظة فيما ذكره الله تعالى من أثر الصحبة الطيبة من عواقبها الجميلة ومن أثر الصحبة الرديئة وعواقبها الجميلة تبين لنا من النصوص أن الصحبة الرديئة شؤم على الناس، شؤم على الإنسان، شؤم على الفرد رجل أو أنثي في هذه الدنيا وفي الآخرة، في المعاش وفي الميعاد، والصحبة الصالحة التي تدلك على الخير وتحذرك من الشر وتقربك من الله –عز وجل- هي خير لك في هذه الدنيا، وفي الآخرة خير لك اليوم، وخير لك في الغد.
ولذلك انظر إلى طيب ما ذكر الله –جل وعلا- من حرص أهل الخير على من عرفوهم، ولو كانوا قد آذَوهم، ولو كانوا قد أصابوهم بما أصابوهم من الأذى ما قصه الله تعالى عن ذاك الرجل الذي جاء خبره في سورة يس، لما جاء قومه واعظًا إياهم أن يتبعوا المرسلين، قال لما أمرهم ونهاهم قال: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾ يس: 26، هم طبعا قتلوه لمَّا ناصر الرسل، وأمرهم باتباع ما جاءوا به، وبين لهم الهدى، وحثَّهم على كل برٍّ وخير، لكنهم أبوا، فما كان إلا أن قتلوه فكان ما ذكر الله في محكم كتابه في سورة يس ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾ يس: 26، لما توفَّاه الله تعالى ومات جرى من اعتدائهم عليه قال: ﴿يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ يس: 26- 27 تمنى أن يطلع قومه على ما أنعم الله تعالى به عليه، لعلهم أن ينزعوا عنه الشر الذي صرفوه، والخطأ الذي واقعوه، وهذا كله من بيان صحبة الأخيار وصحبة الأشرار في الحال والميعاد، وأما الأحاديث فنأتي -إن شاء الله تعالى- على ذكر بعض نماذجها بعد قليل.
المقدم:-فضيلة الشيخ أيضًا عندما نسأل عن الأحاديث الشريفة التي أيضًا اهتمت بهذا الجانب، وحرصت عليه وشددت على مسألة اختيار الصحبة، وأن الصحبة لها الدور الأكبر في تجديد مسار الإنسان، سواء فيما يتعلق بأمور دينه أو أمور دنياه.
لو كان هناك أيضًا من سرد لبعض هذه الأحاديث لبيان أيضًا أن الأحاديث كذلك أيضًا هي لم تغفل والنصوص الشرعية بشكل عام لم تغفل هذا الموضوع؛ لما له من أهمية كبرى على سلوك الإنسان، وعلى طريقه ومنهجه؛ لأن الصحبة مهما كانت سوف تؤثر على هذا الإنسان، مهما كان هذا الإنسان، مهما ادعى أنه سيصمد بوجود هذه الصحبة أيًّا كانت صالحة أو سيئة، وإنما هناك أحاديث شريفة تنصُّ على حسن اختيار هذه الصحبة حتى يكون الإنسان في منأى عن أن يضلَّ في طريقه أثناء سيره بطريقه لله –سبحانه وتعالى-.
الشيخ:- نعم أخي الكريم بالتأكيد أن القرآن والسنة دلَّت دلالة واضحة جليَّة على أثر الصحبة الخيِّرة وأثر الصحبة الرديئة بما لا يدع التباسًا واشتباهًا، جاء الأمر صريحًا لسيد الورى -صلوات الله وسلامه عليه- في كتاب الله –عز وجل- أن يصحب الأخيار، وأن يصبر نفسه مع هؤلاء، رغم ما يمكن أن يكون من طموح إلى غيرهم، أو نظر إلى غيرهم، يقول الله تعالى لرسوله: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ الكهف: 28، هذه الآية الكريمة الموجزة المختصرة تبيِّن لنا أن الصحبة تحتاج إلى انتقاء وإلى مثابرة حتى يصل الإنسان إلى ما يريد، ويبتغي من صحبة الأخيار، فصبر النفس على صحبة الأخيار تحتاج إلى أن تصبر حتى تجد هذا الخير الذي يدلك على الخير، فتنتقل من صاحب إلى صاحب إلى أن تجد من يقربك إلى الله، ويدلك عليه، ويعينك على تحقيق مراد الله –عز وجل- فيقول الله: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ الكهف: 28، فلا تطمح في مصاحبة غير هؤلاء، وهذا ضابط دقيق ببيان الصحبة الخيرية الذين ﴿يَدْعُونَ﴾ يعبدون ﴿رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ يعني في البكور والآصال، في أول النهار وفي آخره، وهم أهل العبادة والطاعة والإحسان الذين لا يغفلون عن الله –عز وجل- ويعملون بما فرض عليهم بكرة وأصيلًا.
ويقابل هؤلاء قوم آخرون قد يكون عندهم من المغيرات والجوانب ما يجعل النفوس تطمح إلى مرافقتهم وترغب في مرافقتهم، يقول –جل وعلا-: ﴿وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾ الكهف: 28.
أمر بالمصاحبة والملازمة وصبر النفس، ثم نهى عن أن تطمح العين حتى بالنظر إلى غيرهم تريد زينة الحياة الدنيا، وبعد هذا جاء التحذير من مصاحبة من يصد عن سبيل الله، فقال تعالى: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ الكهف: 28، نهى الله تعالى عن طاعة من غفل قلبه عن طاعة الله، وعن ذكره وعن عبادته، وكان أمره غارقًا في التفريط والتقصير والإفراط ومجاوزة الحد في طاعته، في الإسراف على النفس بالمعاصي والإقبال على الدنيا، ﴿وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾أي: مقدما في الشر، وإماما في الفساد والانحراف هؤلاء ينبغي أن يُحذر من مصاحبتهم ومن النظر إليهم؛ لأن الله –جل وعلا- نهى سيد الورى الذي عصمه -جل في علاه- عن أن يقع في ذلل أو خطأ، مع ذلك يحذره –جل وعلا- من صحبة هؤلاء.
الله تعالى قد أخبر أنه يفتن بعض الناس ببعض ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ الأنعام: 53 بهؤلاء وبمصاحبتهم والنظر إليهم والركون إليهم، فينبغي أن يحبس الإنسان نفسه عن هذه المصاحبة.
والله تعالى يقول لرسوله وهو الممدود بالوحي من السماء: ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ هود: 113 ويقول -جل في علاه- أيضًا: ﴿وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ الإسراء: 74 .
إذًا لو ركنت إلى أهل الظلم والفساد والشر، وسِرت في مسارهم وتركت سبيلهم ﴿إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ الإسراء: 75.
هذه الآية الكريمة تحذر النبي –صلى الله عليه وسلم- من هذه الصحبة التي لو حصل منها أدنى ما حصل من ركون كان ذلك سببًا للعقوبة ﴿إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ الإسراء: 75، نحن نحتاج إلى هذه المعاني التي يقرؤها المسلمون أو كثير منهم وتمرُّ علينا سماعًا في آيات الكتاب الحكيم، لكننا لا نقف عند مدلولاتها وما تضمنته من معاني تحث النفوس على الإقبال على الله، وعلى الصحبة الطيبة والبعد عن الشر.
يا أخي كلنا نقرأ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ الفاتحة: 6- 7، هذه الآية هي للحث على صحبة الأخيار والتحذير من صحبة الأشرار.
من منا لا يحفظ الفاتحة؟ من منا لا يقرؤها؟ من منا لا يسمعها؟ إنك تسأل الله في كل صلاة هداية، ليست الهداية منفردا ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ الفاتحة: 6- 7 فأنت تسأل الله أن يَسْلُك بك طريقهم وطريقتهم بموافقتهم والسير معهم والعمل بعملهم، ثم تسأل الله أيضًا الوقاية من أهل الفساد ﴿غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ﴾[الفاتحة:7]، المغضوب عليهم هم: الذين علموا العلم وعرفوا الحق ولم يعملوا به، والضالون هم: الذين عملوا بلا علم، بضلال وغواية دون علم ولا هدى ولا بصيرة.
إذًا نحن نحتاج إلى أن نعي هذه المعاني الذي يرسل الله هذا فيما يتعلق بأمر القرآن.
النبي –صلى الله عليه وسلم- يبين أهمية الصحبة الطيبة وضرورة العناية بالأصحاب، ففيما رواه أحمد بإسناد جيد من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال –صلى الله عليه وسلم-: «المرءُ على دينِ خليلِه» الشخص، كل واحد منا ذكر أو أنثى على عمل وخلق خليله صاحبه، الدين هنا أوسع من العبادة، يشمل العبادة بكل صورها بما يتعلق بالعبادة في حق الله، والعبادة في حق الخلق.
فالدين هنا يطلق على العمل، كل واحد منا في عمله على عمل صاحبه، عمل من يرافق، فإذا رافق الأخيار عمل بعملهم، وإذا رافق الأشرار عمل بعملهم، وهكذا كل يعمل على شاكلته كما قال الله تعالى: ﴿كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا﴾ الإسراء: 84 فاعمل نحو ما يكون من محيطه وبيئته، وما اختاره من أصحاب ورفقاء وقرناء المرء على دين خليله، ثم يقول –صلى الله عليه وسلم-: «فلينظرِ المرءُ مَن يُخالُّ» سنن أبي داود (4833)، وسنن الترمذي (2378) وقال: هذا حديث حسن غريب ليتأمل أحدكم من يصاحب فلا يصاحب إلا تقيًّا، ولا يعاشر إلا من يكون عونًا له على طاعة الله تعالى والقرب منه –سبحانه وبحمده-.
وقد ضرب النبي –صلى الله عليه وسلم- مثلًا لتأثير الصحبة ومثل تقريبي يظهر به تأثير الصحبة على الإنسان، وما يكون من آثارها الحميدة أو آثارها الرديئة، ففي الصحيحين من حديث أبي موسى -رضي الله تعالى عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «مَثَلُ الجَلِيسِ الصّالِحِ والسَّوْءِ، كَحامِلِ المِسْكِ ونافِخِ الكِيرِ» هذا المثل في حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين «مَثَلُ الجَلِيسِ الصّالِحِ والسَّوْءِ، كَحامِلِ المِسْكِ ونافِخِ الكِيرِ، حامِلُ المِسْكِ: إمّا أنْ يُحْذِيَكَ، وإمّا أنْ تَبْتاعَ منه، وإمّا أنْ تَجِدَ منه رِيحًا طَيِّبَةً» صحيح البخاري (5534)، وصحيح مسلم (2628) ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم- ثلاث فوائد يجنيها الإنسان من المجيء إلى الصاحب الصالح، فالصاحب الصالح هو لو دخلت محلًّا دكانًا لبيع الأطياب ماذا ستجد في محل الطيب، أنت لا تخرج إلا بواحد من ثلاثة أمور وكلها فائدة: إما أن «يُحذِيَك»يعني يطيبك، «وإما أن تبتاع منه»تشتري منه طيبًا، «وإما أن تجد ريحًا طيبة»، يحذيك هذا نفع حاضر، «تبتاع منه»نفع حاضر ومستقبلي، «وإما أن تَجِدَ ريحًا طيبة»هذا نفع حاضر ينقضي بالزوال من المكان، أما التطييب فإنه يستمر معك بُرهة وينقطع، فأنت لا تخرج منه إلا بمنفعة، لا تخرج منه إلا بخير.
وأما نافخ الكير وهو من يشتغل بنفخ الحديد وإعداده، وما أشبه ذلك بهذا، لا تجد منه إلا واحدًا من أمرين:
إما أن يُحرق ثيابك بالشرر المتطاير، وإما أن تجد ريحًا خبيثة، ولن تجد منه شيئًا ينفعك؛ ولذلك
صاحِبْ خيارَ الناس تنج مسلَّما
ولا تصاحب شرار الناس يومًا فتندم
هذا هو المنتهى، وهذا هو المآل في صحبة الأخيار وفي صحبة الأشرار، هذا المثل النبوي المختصر.
أنا أقول: يا إخواني وأخواتي نطبِّقه على من هم في محيطنا، من نصاحب، هل صاحبك كحامل المسك، إما أن يحذيك، يطيبك، وإما أن تشتري منه طيبًا، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، إذا كان صاحبك على هذا الحال وهذا النحو وهذه الصفة، فعضَّ عليه بالنواجذ، اليوم الصاحب الطيب عملة نادرة يتلف الإنسان ويجهد حتى يجده، فإذا وجدته ربما تعض عليه بالنواجذ، واحرص على ألا تخسره، وألا يفلت منك.
أما النوع الثاني وهو نافخ الكير، إما أن تجد منه ما يؤذيك في ثيابك وبدنك، وإما ألا تجد ما يؤذيك في ثيابك وبدنك تجد منه خبثا ورائحة كريهة، تفر منه فرارك من المجذوم، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «فِرَّ من المجذومِ فراركَ من الأَسدِ» صحيح البخاري (5707) .
المجذوم نوعان: جذام حسِّي يصيب الأبدان، وجذام معنوي وهو ما يكون من الأخلاق الرديئة والمسالك المنحرفة، فر منها فرارك من الأسد، قدر ما استطعت حتى تنجو بنفسك وتسلم من عواقب وغوائل هذه الصحبة، فإن شؤمها لا ينقضي في الدنيا.
لا تظن أن الصاحب السيئ ليس له تأثير إلا في الدنيا فقط، بل تأثيره في الدنيا وفي الآخرة، وقد ذكر الله –جل وعلا- في محكم كتابه قصة لرجل كان له صاحب يدعوه إلى الشر والفساد، ولعل الله تعالى نجَّاه بفضله ومَنِّه ورحمته فسلم من تأثير هذه الصحبة، يقول الله تعالى في سورة الصافات عندما ذكر نعيم أهل الجنة وما آلوا إليه، وانتهوا إليه من النعيم ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ الصافات: 43- 49، وهم في هذه الحال من النعيم، يقول تعالى: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾ الصافات: 50 يسأل بعضهم بعضا عما كان من حالهم في الدنيا، وما كان من صبرهم على طاعة الله وإنعام الله عليهم، قال قائل منهم: هذا شخص من هؤلاء الذين يتداولون الحديث ويتجاذبون أطرافه.
قال قائل منهم-نسأل الله أن نكون منهم، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة على سرر متقابلين-: ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ﴾ الصافات: 51 يحدث بنعمة الله عليه كان لي قرين كان لي صاحب، يدل على أنه لا يفارقه ويلازمه في كثير من الأحيان، فالقرين من كان مقارنًا مرافقًا مجتمعًا مع صاحبه على وجه يقلُّ انفكاكه عنه، يقول هذا القرين: ﴿يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ﴾ الصافات: 52، كان مكذبًا باليوم الآخر، يقول هذا القرين أئنك لمن المصدقين ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ الصافات: 53 فَنَينا وأكلَتْنا الأرض، وذهبت عظامنا، وصرنا ترابًا من قديم الأرض ﴿أَئِنَّا لَمَدِينُونَ﴾هل سنحاسب هل تصدق بهذا؟
صدق أن هناك يومَ قيامةـ وأن هناك حسابًا ومؤاخذةً على العمل، فيقول لصاحبه ليصده عن سبيل الله وليغريَه بمزيد فساد لماذا يكون في قلبه أن الناس سيحاسبون؟ لماذا يعمل صالحًا من لا يقوم في قلبه أنه سيبعث وسيكون رهين أعماله، وسيقف بين يدي ربه وسينتهي إلى جنة أو نار لماذا يعمل؟
لا يعمل إلا من كانت بصيرته قد نَفذَت من النظر إلى الدنيا، من النظر في الدنيا إلى النظر في الآخرة، هذا يقول: ﴿يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ الصافات: 52- 53 هذا شيء بعيد ولا يمكن أن يكون هكذا، يقول لصاحبه، فجاء وهو يحدث هذا الرجل أهلَ الجنة عما كان من هذا القرين، قال: ﴿قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ﴾ الصافات: 54 القائل إما ذلك المؤمن الذي قصَّ هذا الخبر، وإما غيره ﴿هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ﴾أي هل أنتم تشرفون وتنظرون إلى ما يريد أن يطلعهم عليه؟ قال: ﴿فاطَّلَع﴾ من؟ المؤمن الذي كان له قرين يقول له: كيف تصدق بالحساب؟ يضحكون عليك بأنه في يوم آخر، ما في إلا الدنيا، حياة وموت لا حياة بعده ﴿فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾ الصافات: 55 أعوذ بالله في وسطها، ﴿سَوَاءِ﴾ يعني في وسط جهنم، نعوذ بالله من الخذلان، لمَّا رآه وهذا اللي أمس يقوله: ﴿يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ* أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ الصافات: 52- 53 ما كان منه إلا أن قال -هذا المؤمن الذي نجا من هذا المآل- قال: ﴿قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ﴾ الصافات: 56 أَوشَكْتَ أن توقعني في هلاك، أوشكت أن تجعلني في رَدَاء، ﴿تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ﴾ لكن ما الذي نجاه؟ الجواب ﴿وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ الصافات: 57 لولا أن الله أنعم علي وثبَّت إيماني، وهداني الصراط المستقيم وحفظ علي ما أنعم به علي من فطرة وإيمان لكنت من المحضَرين في مثل هذا الموقف الذي أنت فيه، وهو سواء الجحيم.
ثم عاد يذكره بمقالته: ﴿أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ﴾ قال: ﴿أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ الصافات: 58- 59 هذا الكلام اللي كنتَ تقوله لي في الدنيا، ما نحن بمبعوثين، لن نبعث ولن نحاسب، حياة وتنتهي وانتهت السالفة، لا حساب ولا عذاب ولا جنة ولا نار، ولا وقوف بين يدي ربٍّ يحاسب على النقير والقطمير، ﴿إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾، يقول: تذكر نعمة الله عليك بالنجاة من هذا المآل والمصير ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الصافات: 60 يذكر تعالى لمثل هذا المآل وهذه الخاتمة السعيدة ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾ الصافات: 61 يعملوا بطاعة الله والبعد عن أصحاب السوء والشر، والحرص على أصحاب الخير والطاعة الذين يقربونك إلى الله، يهدونك السبيل، ويجنِّبوك الرداء؛ فإن هذا طريق أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، جعلنا الله وإياكم منهم.
المقدم:- جزاكم الله خيرًا شيخنا يعني حديثنا مستمر عن أثر الصحبة في الدنيا والآخرة، وقد سردتم -حفظكم الله- في بداية هذه الحلقة النصوص الشرعية التي جاءت على حسن اختيار الصحبة، فيما يتعلق بالقرآن الكريم، وكذلك أيضًا السنة النبوية المطهرة وإذا كان من إمكان في الجزء الأخير من هذه الحلقة نتحدث أيضًا عن هذه الآثار فعلا التي تكون في التعلق بالصحبة في الدنيا والآخرة.
ما هي هذه الآثار وبالتأكيد هي مذكورة كذلك أيضًا في النصوص الشرعية، فيما ورد في ضوء الكتاب والسنة أيضًا.
الشيخ:- أخي الكريم أيها الإخوة والأخوات! الصحبة الطيبة لها ثمار وآثار طيبة، لكن قبل أن نتكلم عن الثمار والآثار أحب أن أنبه إلى أنه عندما نتحدث عن الصحبة ينصرف كثير من الناس إلى تصور أن الصاحب هو الزميل في استراحة، أو الزميل في سفرة، أو ما إلى ذلك من أنواع الصداقات والمرافقات الخاصة.
الصحبة أوسع من ذلك، اليوم أخي عبد الله وأيها الإخوة والأخوات! الصحبة لا تخرج في صورة واحدة، يعني نحن تُصاحبنا أشياء كثيرة في حياتنا، جولاتنا وما فيها من وسائل تواصل، ما نراه عبر وسائل الإعلام المرئي، وما نسمعه عبر المسموع كل هذا نوع من الصحبة، وليس ذلك مقصورا على صحبة إنسان من الناس أو شخص من بني آدم، بل الصحبة قد تكون لعمل، قد تكون لمكان، قد تكون لجهاز، قد تكون لموقع، قد تكون لقناة إعلامية، الصحبة أوسع من أن تُحصر في شخص.
اليوم نحن نصاحب أجهزتنا أكثر ما نصاحب بني جنسنا، حتى في جلستنا الأسرية، أو العائلية، أو ذوي الرحم، أو المناسبات أو الصداقات، أو الأعمال بأي مناسبة من المناسبات الاجتماعية التي يجتمع فيها الناس تجد كثيرًا مشغولًا بجهازه، إما تقليبًا وتصفحًا أو محادثة، فالعالم الافتراضي هو مجال كبير للصحبة اليوم، وبالتالي من المهم أن نفهم أنه عندما نتحدث عن الصاحب «مَثَلُ الجَلِيسِ الصّالِحِ والجليس والسَّوْءِ»لا نقصد فقط الجليس من بني آدم ممن تجالسهم في أوقات محددة ومحدودة وأماكن محصورة، لا.
أتكلم عما هو أوسع من ذلك، النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: «اقرَؤوا القُرآنَ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِه» صحيح مسلم (804)، فالقرآن له أصحاب، وهم الذين يتلونه ويحفظونه ويتدبرون آياته، ويعملون به، وأنت لك أن تختار من أصحابك من شئت، لكن اعرف أن من تصاحبه فلابد أن يترك في صحبته لك أثرًا.
الزوجة صاحب، الأقارب أصحاب، الزملاء في العمل أصحاب، الزملاء في سفر أصحاب، وهلمَّ جرًّا في نطاق واسع في مفهوم الصحبة، ولكن ينبغي في كل هذا أن يحرص الإنسان على صحبة من يقربه إلى الله، من يدلُّه إلى خير، من ينفعه في دنياه ودينه، ويتوقَّى من يكون سببًا لإفساده أو عسره، وأحيانًا قد لا يفسدك لكنه يعيقك عن ترقي، ويعيقك عن زيادة في خير، يعيقك عن سموٍّ، هذا أيضًا نوع من الصحبة التي ينبغي أن تتجنَّبها، الصاحب الذي يعيقك عن مصالحك ولو لم يوقع في الشر هو جنا عليك بأن منعك من السموِّ والارتقاء والارتفاع والوصول إلى أعلى مما أنت عليه.
من المهم أن نحرص على الصحبة الطيبة، وأن ننتقي القناة التي نسمعها و"السنابات" التي نشاهدها، والأشخاص الذين نتابعهم عبر وسائل التواصل في توتير وفي الفيس بوك، والأشياء التي نقرؤها، يعني يصرف الإنسان، يا أخي أنت الآن عندما تريد أن تنظر بعينك وهو نظر قد لا يستغرق، تحب أنك تنظر إلى المراعي الجميلة، المراعي النظيفة، المراعي المريحة التي تشرح خاطرك.
أحيانًا منظر يدخل عليك السرور، ويدخل عليك البهجة ما بلغ تأثيره، فكيف بالصحبة المستمرة الكبيرة الأثر، تحتاج إلى أن تُنتقي، ولذلك جاءت كلمات العلماء وأهل الفكر والرأي، وأهل الخير في الحثِّ على صحبة الأخيار.
علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- يقول: "عليكم بالإخوان فإنهم عُدَّة في الدنيا والآخرة"[تفسير القرطبي(13/117)] أي الإخوة الذين يقربونك إلى كل خير، ويدلونك على كل برٍّ عليكم بهم.
يقول آخر: كنت أنظر إلى أخ من إخواني فاعمل على رؤيته شهرًا هذا تأثير رؤية.
النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول كما في البزار من حديث ابن عباس «أولياءُ اللَّهِ الَّذينَ إذا رُؤوا ذُكِرَ اللَّهُ» مسند أحمد (17998)، وقال محققو المسند: حسن بشواهده قلت: لا إله إلا الله، الذين يذكِّرونك بالله هؤلاء احرص على صحبتهم، إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم، هذه قاعدتك في كل مكان، في مطار، في قطار، في سيارة، في انتظار، في سفر، في حضر، في تواصل، في مشاهدات، في سماع، إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ثم يقول: ولا تصحب الأرداء فتردى معهم، احرص على هذا المعنى، واعلم أن للصحبة تأثيرًا بالغًا.
والتأثير في الدنيا وفي الآخرة، أذكر نموذجين للتأثير:
النموذج الأول: وباختصار ما ذكره النبي –صلى الله عليه وسلم- ما ذكره ابن المسيب في حضور النبي –صلى الله عليه وسلم- عمَّه أبو طالب وهو في الوفاة، حضر النبي أبا طالب وهو في الوفاة، ووجد عنده رجلين؛ أبا جهل بن هشام رأسَ الكفر، وعبدَ الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «يا عمّ» هذا في سياق الاحتضار، ولم يؤمن به «قُلْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحاجُّ لكَ بها عِنْدَ اللَّهِ» يدافع عنه، ويدافع عن النبي، فحرص النبي –صلى الله عليه وسلم- على أن ينجو من النار بهذه الكلمة «أيْ عَمِّ قُلْ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحاجُّ لكَ بها عِنْدَ اللَّهِ» فَقالَ أبو جَهْلٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بنُ أبِي أُمَيَّةَ: أتَرْغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المُطَّلِبِ؟ الاقتران بملة أبيه، فلم يزل رسول الله يعرض عليه وهؤلاء يعيدون عليه نفسَ المقالة: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ النبي يقول: يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ودول يقولون: أترغب عن ملة عبد المطلب حتى كان في آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب صحيح البخاري (1360)، ومسلم (24) أرأيتم لو لم يحضر هؤلاء كيف يكون الحال؟ قد يشرح الله صدره للإيمان ويخرجه من ظلمات الفسق في الجملة.
مصاحبة الأشرار مضرَّة من كل وجه على أصحابها، وشرٌّ على من خالطهم، فكم هلك بسبب هذه الصحبة أقوام! وكم قادوا أصحابهم إلى مهالك من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون! وأما في الآخرة فصحبة الأخيار تنفع في الدنيا وفي الآخرة، ومن نموذج نفعهم في الآخرة ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي –صلى الله عليه وسلم- بعد اجتياز أهل الإيمان للصراط حتى إذا خلص المؤمنون من النار، يعني جاوزا الصراط وهمُّوا بدخول الجنة يقول النبي –صلى الله عليه وسلم- «فوالذي نفسي بيده ما كان من أحد أشد مناشدة لله في استقصاء الحق من الله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون: ربنا» يعني يشفعون في إخوان لهم ما شاهدوهم ما وجدوهم معهم في دخولهم الجنة يقولون: «ربنا كانوا يصومون معنا» شوف الصحبة الطيبة «ويصلُّون ويحجُّون» صحبة أخيار في عبادات، يقول: «فيقال لهم: أخرجوا، يقال لهؤلاء الناجين: اذهبوا فأخرجوا مَن عرَفْتُم من النار» صحيح مسلم (183) .
هذه من بركات صحبة الأخيار أنها سبب لشفاعتهم في القيامة، نسأل الله أن يجعلني وإياكم من الأخيار الأبرار، وأن يقيننا صحبة الأشرار، وأن يعيننا على الخير.
والشر ليست فقط الوقوع في المعصية، الشر يكون في المعصية وتزيين الفساد، ويكون أيضًا في الفكر بالانحراف إما بغلو وتشدد، وإما بإلحاد وانحلال وتحلل.
المقدم:- هناك الكثير يا شيخنا من القصص الواقعية التي تثبت تأثير هذه الصحبة إما في الجانب السلبي أو الجانب الإيجابي، وكثير ممن كانوا على جادَّة الصواب تنكَّبوا الطريق بعد أن تعرفوا على أناس ضالين، وهذا مُثبَت ملموس، وفي المقابل كذلك أيضًا هناك نماذج ممن يسر الله لهم سلوك طريق الهداية والخير تعرفوا على أناس صالحين لازموهم حتى سلكوا هذا الطريق الخير ومضى بهم طريق نحو الخير، وبالتأكيد يحتاج الإنسان إلى أن يتقوى بإخوانه المسلمين، في الأخ أو في المسلم ضعف بنفسه، يتقوى بإخوانه، يحتاج إلى من يؤيده على طريق الخير، ويحتاج أيضًا أن يبتعد عن أولئك الأشرار الذين يزينون له الشر، وفي نفس الوقت أيضًا يسهِّلون له سلوك طريق الهواية والضلال.
الشيخ:- بالتأكيد يا أخي وإذا كانت الجمادات تتأثر بما يقارنها، فكيف بالإنسان الذي هو مدني بطبعه؟ يأخذ ويتأثر.
ألم تر أن الماء يخبث طعمه*** وإن كان لون الماء أبيض صافيًا؟
فالماء يخبث طعمه بطول المكث، وبمجاورة الأشياء القبيحة، فكذلك ينبغي أن نحرص في أخلاقنا وأقوالنا.
يعني أحيانًا يا أخي الكلمات تتأثر، تلقطها من أصحابها، بعض المصطلحات يعني تلقائيًّا بالمخالطة، تتأثر من حيث لا تشعر، فهناك تأثر في القلب، تأثر في العمل، فلنحرص على من يقول خيرًا، ويعمل خيرًا، ويدل على الخير حتى نكون من الأخيار، جعلنا الله وإياكم منهم.
المقدم:- شيخ في دقيقة يعني أحد الإخوة دائمًا ما يسألني يقول: أنه يلازم أو ربما يماشي شخصا متهاونا في أداء الصلاة، وفي نفس الوقت عندما قلت له: لماذا تصحب مثل هذا الشخص؟ فقد يؤثر عليك سلبًا، قال: إني أجاهد نفسي وأجاهد دعوتي له في أن أهديه بنصيحتي الدائمة ما دمت مصاحبًا له في أن يصلي، فهو يقول: يعني أنه يثمر هذا الجهد أحيانًا عن رغبة واقتناع بأداء الصلاة في وقتها، ويقول: إن هناك آثارًا إيجابية، وإن لم تكن يعني تلك المرجوَّة على وجه الكمال، وإنما هناك آثار يعني بين فينة وأخرى يلحظها من خلال هذه النصيحة المتكررة بشكل أو بآخر أو بطرق مختلفة، يقول: هل أستمر في صحبته، أو أنقطع عنه خوفا من أن يصيبني ما أصابه؟
الشيخ:- أخي الكريم أنا أُمثِّل هذا بمن يريد أن ينقذ غريقًا، إذا وجدت غريقًا في البحر فيكف تنقذه؟ إذا كنت تجيد السباحة، وإذا كنت أيضًا عندك من وسائل السلامة ما يقيك أن تغرق معه فاستمر، أما إذا كنت خائفًا أن يُغرِقَك لأنه أحيانًا الغريق ما يقدر، من شدة حرصه على النجاة يغرق من يريد إنقاذَه وبالتالي مثل نفسك تمامًا بهذه الصورة الحسية المشاهدة، إذا كنت تحسن السباحة وتأمن على نفسك من الغرق، وقد أخذت أسباب السلامة، ليس إنك مثلا والله معتدّ بنفسك، لا، إنما ينبغي أن تختبر نفسك، وتعرف مدى تأثير هذا عليك، يعني لما أنا أريد أن أنقذ شخصًا ضخمَ الجثة ثقيلَ البدن لن يكون كإنقاذ طفل صغير، فبالتالي لابد أن يقدِّر الإنسان الأمر، ما مدى تأثير هذا الغريق عليك؟ أنا أقول: يا أخي ادع إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وبلغوا عني ولو آية، ولتكن منكم أمة تدعو الخير، لكن لا يكن هذا طريقًا لهلاكك، احرص على نفسكأ وإذا رأيت أنه يؤثِّر عليك أكثر مما تؤثِّر عليه ففرَّ منه، وادع له، وأمره بالخير، لكن بعض الناس يتحمس ويأتي ينقذ غريقًا وهو ما يعرف السباحة فيغرق معه، نسأل الله للجميع الهداية.
المقدم:- شكر الله لكم، وبارك الله في علمكم، وجزاكم خيرًا على ما تفضلتم به في هذا اللقاء، نتقدم في ختم هذا اللقاء بالشكر الجزيل إلى صاحب الفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح أستاذ الفقه بكلية الشريعة في جامعة القصيم، المشرف العام على فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء في منطقة القصيم، ونسأل الله –سبحانه وتعالى- أن يجعل هذا ما قدمتوه في ميزان حسناتكم.
الشيخ: بارك الله فيكم، وحفظ الله الجميع، وفقنا الله وإياكم للخير، حفظ الله بلادنا وولاتنا وجميع المسلمين من كل سوء وشر، وأسأل الله –عز وجل- أن يجعلنا وإياكم من الأخيار في الدنيا، ومن الأبرار في الآخرة، وأن يجعلنا وإياكم ممن يرضى عنهم في الدنيا وفي الآخرة، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.