سلامة الصدر
الخطبة الأولى :
إن الحمد لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
فيا أيها الذين آمنوا اتقوا الله تعالى حقَّ تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعلموا أيها المؤمنون أن من لوازمِ التقوى سلامةَ الصدرِ من الغلِّ والحقدِ والحسدِ والضغائنِ والرذائلِ، قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ سورة الأنفال: 1. ،ولا يكون صلاحُ ذاتِ البينِ إلا بسلامةِ الصدرِ من تلك الآفاتِ؛ لذا فإن دينَ الإسلامِ قد حرصَ حرصاً شديداً على أن تكونَ الأمةُ أمةً واحدةً في قلبِها وقالبِها، تسودُها عواطفُ الحبِّ المشتركِ والوِدُّ الشائعُ، والتعاونُ على البرِّ والتقوى، والتناصحُ البنَّاء الذي يثمِرُ إصلاحَ الأخطاءِ مع صفاءِ القلوبِ وتآلفِها، دونَ فرقةٍ وغلٍّ وحسدٍ ووقيعةٍ وكيدٍ وبغيٍّ.
وقد جاءت الآياتُ القرآنيةُ والآثارُ النبويةُ منسجمةً متناسقةً متضافرةً لتحقيقِ ذلك المقصدِ الشرعيِّ الكبيرِ.
فمن تلك الآياتِ: قولُ الله تعالى في الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ سورة الحجرات: 10، فالأخوةُ الإيمانيةُ تعلو على كلِّ خلافٍ مهما اشتدت وطأتُه واضطرَمَتْ شِدَّتُه، وبلَغَ حدَّ الاشتباكِ المسلحِ.
أما الأحاديثُ، فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تباغَضوا ولا تحاسَدوا ولا تدابَروا ولا تقاطعوا، وكونوا عبادَ اللهِ إخواناً» أخرجه البخاري (6065)، ومسلم (2559) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه..
ومنها قولُه صلى الله عليه وسلم :«المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيانِ، يشدُّ بعضُه بعضاً،وشبَّكَ بين أصابِعِه» أخرجه البخاري (6027)، ومسلم (2585) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه..
ولقد ضربَ الصحابةُ رضي الله عنهم أروعَ الأمثلةِ في سلامةِ القلوبِ وطهارةِ الصدورِ، فكان لهم من هذه الصفةِ أوفرُ الحظِّ والنصيبِ، فلقد كانوا رضي الله عنهم صفًّا واحداً يعطفُ بعضُهم على بعضٍ، ويرحم بعضُهم بعضاً، ويحبُّ بعضُهم بعضاً، كما وصفهم -جل وعلا- بذلك حيث قال:﴿وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ سورة الحشر: 9. ، وكما قال -جل ذكره- في وصفهم: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً﴾ سورة الفتح: 29 .
لقد كان لسلامةِ الصدرِ عندَهم منزلةٌ كبرى، حتى إنهم جعلوها سببَ التفاضلِ بينهم، قال إياسُ بن معاوية بن قرة عن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : "كان أفضلَهم عندَهم أسلمُهم صدراً وأقلُّهم غِيبةً مصنف ابن أبي شيبة 13/ 497.، وقد قال سفيانُ بن دينارٍ لأبي بشر أحدِ السلفِ الصالحين:"أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيراً ويؤجَرون كثيراً. قال سفيان: ولم ذاك؟ قال أبو بشر: لسلامة صدورهم الزهد لابن السري 2/600. .
أيها المؤمنون.
إن المرءَ لا ينقضي عجبُه من ذلك الجيلِ الصالحِ الكريمِ حيث إن قلوبهم بقيت صافيةً وسليمةً، سرائرهم طيبة نقية، رغم ما وقعَ بينهم من فتنٍ كبارٍ، أُشهرت فيها السيوفُ واشتبكت فيها الصفوفُ، فلا إله إلا الله، ما أطيبَ المعشرَ وأكرمَه، ومن تلك المواقف ما حفظه التاريخ عن الشعبي رحمه الله قال: رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في وادٍ ملقى، بعد وقعةِ الجملِ التي كانت بين عليٍّ رضي الله عنه وبين عائشةَ وطلحةَ والزبيرِ رضي الله عنهم، فنزل رضي الله عنه فمسحَ الترابَ عن وجهِ طلحةَ، وقال: عزيزٌ عليَّ يا أبا محمد أن أراكَ مجندلاً في الأوديةِ تحتَ نجومِ السماءِ، إلى اللهِ أشكو عُجَري وبُجَري أسد الغابة 2/45.
أيها المؤمنون..
إن سلامةَ الصَّدرِ خصلةٌ من خِصالِ البرِّ عظيمةٌ، غابت رُسومُها واندثرت معالمُها وخبت أعلامُها، حتى غَدَت عزيزةَ المنالِ عسيرةَ الحصولِ، مع ما فيها من الفضائلِ والخيراتِ.
وها أنا ذا أذكر بعضَ فضائلِها عسى أن تكونَ حافزا لنا على الأخذِ بها والحرصِ عليها، فإنه قبلَ الرِّماء تملأ الكنائنُ.
فمن فضائلِ سلامة الصدرِ: أنها صفةُ أهلِ الجنة الذين هم خيرُ أهلٍ ومعشرٍ، قال تعالى: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ سورة الشعراء: 88-89..
ومن فضائلِ سلامة الصدرِ أن صاحبَها خيرُ الناسِ وأفضلُهم ،فإن النبي رضي الله عنه قد سئل :أي الناس أفضل؟ فقال: «كلُّ مخمومِ القلبِ صدوقُ اللسانِ» قالوا: فما مخمومُ القلبِ؟ قال صلى الله عليه وسلم :«هو التقيُّ النقيُّ ، لا إثمَ فيه ولا بغيَ ولا غلَّ ولا حسدَ» أخرجه ابن ماجه (4216) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه الكناني في مصباح الزجاجة (3051).، فبَدأَ صلى الله عليه وسلم بالتقوى التي تثمرُ صفاءَ القلوبِ وسلامتَها من الآفاتِ والرذائلِ.
ومن فضائلِ سلامةِ الصدرِ أنها من مُوجباتِ الجنةِ فعن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان اليوم الثاني قال النبي صلى الله عليه وسلم مقالته الأولى. فطلع ذلك الرجل، وكذلك في اليوم الثالث. فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبع عبد الله بن عمرو بن العاص ذلك الرجل فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي؟ فقال: نعم. قال أنس (راوي الحديث ): وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً ،فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله قلت: ياعبد الله إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكن سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرات: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت ثلاث مرات. فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به. فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ذلك ؟قال: ما هو إلا مارأيت. قال: فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًّا ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق» أخرجه أحمد (12286) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، وصححه الهيثمي في مجمع الزوائد (13048)..
أيها المؤمنون.
إن من فضائلِ سلامة الصدرِ جمعيةَ القلبِ على الخيرِ والبرِّ والطاعةِ والصلاحِ، فليس أروحَ للمرءِ ولا أطردَ للهمِّ ولا أقرَّ للعينِ من سلامةِ الصدرِ على عبادِ اللهِ المسلمين.
ومن فضائلِ سلامةِ الصدرِ أنها تقطعُ سلاسلَ العيوبِ وأسبابَ الذنوبِ، فإن من سلِمَ صدرُه وطَهُرَ قلبُه عن الإراداتِ الفاسدةِ والظنونِ السيئةِ عفَّ لسانُه عن الغِيبةِ والنميمةِ وقالةِ السوءِ.
ومن فضائل سلامةِ الصدرِ أن فيها صِدقَ الاقتداءِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛فإنه صلى الله عليه وسلم أسلمُ الناسِ صدراً وأطيبُهم قلباً وأصفاهم سريرةً، وشواهدُ هذا في سِيرتِه كثيرةٌ، ليس أعظمَها أن قومَه أدمَوا وجهَه صلى الله عليه وسلم يومَ أُحدٍ وشجَّوا رأسَه وكسروا رباعيتَه، فكان يسلت الدم ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
الخطبة الثانية :
أما بعد.
فيا أيها الناس.
اتقوا اللهَ وطيبوا قلوبَكم وطهِّروها من الآفاتِ، كما أمركم الله تعالى حيث قال: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ﴾ سورة الأنعام: 120 فإن سوءَ الطويةِ وفسادَ الصدورِ ومرضَ القلبِ من باطنِ الإثمِ الذي أُمرتم بتركِه.
أيها المؤمنون.
اعلموا أنه لا نجاةَ ولا فلاحَ للعبدِ يومَ القيامةِ، إلا بأن يقدمَ على مولاه بقلبٍ طيِّبٍ سليمٍ، كما قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ سورة الشعراء: 88، 89. وصاحبُ القلبِ السليمِ هو الذي سلمَ صدرُه وعوفي فؤادُه من الشِّركِ والغلِّ والحقدِ والحسدِ والشحِّ والكِبْرِ وحبِّ الدينارِ والرياسةِ، فسلم من كلِّ آفةٍ تبعدُ عن اللهِ تعالى.
أيها المؤمنون
إن لسلامةِ الصدرِ أسباباً وطرُقاً لا بدَّ من سلوكِها.
فمن تلك الأسبابِ: الإخلاصُ للهِ تعالى، فعن زيدِ بن ثابتٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثٌ لا يُغِلُّ عليهن قلبُ امرئٍ مسلمٍ: إخلاصُ العملِ، ومناصحةُ ولاةِ الأمرِ، ولزوم جماعةِ المسملين» أخرجه أحمد (12937). من حديث زيد بن ثابت، قال الترمذي (2656) :"حديث زيد بن ثابت حديث حسن"، وقال الهيثمي في "المجمع"(11/142) :" رواه الطبراني في الأوسط ورجاله وثقوا" ، قال ابن الأثير عند هذا الحديث: "إن هذه الخلالَ الثلاثَ تستصلح بها القلوبُ، فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدغل والشر" النهاية في غريب الحديث والأثر 3/717.
ومن أسبابِ سلامةِ الصدرِ: الإقبالُ على كتابِ اللهِ تعالى، الذي أنزله شفاءً لما في الصدورِ، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ سورة يونس: 57، فكلما أقبلت يا عبد الله على كتابِ اللهِ تلاوة وحفظاً وتدبُّراً وفهماً صلُحَ صدرُك وسلم قلبُك.
ومن أسباب سلامةِ الصدرِ: دعاءُ اللهِ تعالى أن يجعلَ قلبَك سليماً من الضغائنِ والأحقادِ على إخوانِك المؤمنين، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ سورة الحشر: 10..
أيها المؤمنون..
إن من طرُقِ إصلاحِ القلبِ وسلامةِ الصدرِ: إفشاءَ السلامِ بين المسلمين، ففي "صحيح مسلم"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«والذي نفسي بيدِه لا تدخلوا الجنةَ حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدُلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» أخرجه مسلم (54)، وقد أجاد من قال:
قد يمكثُ الناسُ دهراً ليس بينَهُمُ وِدٌّ فيزرعُه التسليمُ واللطفُ بهجة المجالس وأنس المجالس (57)
ومن أسبابِ سلامةِ الصدرِ: الابتعادُ عن سوءِ الظنِّ، فإنه بئسَ سريرةُ الرجلِ، قال الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ سورة الحجرات: 12، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم :«إياكم والظنَّ، فإن الظنَّ أكذبُ الحديثِ، ولا تجسَّسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عبادَ اللهِ إخواناً» أخرجه البخاري (6066)، ومسلم (2563) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فانظر كيف بدأَ بالنهيِّ عن سوءِ الظنِّ؛ لأنه الذي عنه تصدرُ سائرُ الآفاتِ المذكورةِ في الحديث، فالواجب عليك يا عبد الله أن تطهِّرَ قلبَك من سوءِ الظنِّ ما وجدت إلى ذلك سبيلاً.
أيها المؤمنون.
هذه بعضُ أسبابِ صلاحِ القلبِ وسلامةِ الصدرِ، فإنه من صدق في طلبِها أدركَها فـ:
لو صحَّ منك الهوى أُرشدتَ للحِيَلِ التمثيل والمحاضرة (48)
اللهم إنا نسألك صدوراً سليمة وقلوباً طاهرة نقية ،اللهم طهر قلوبنا من الشرك والشك والنفاق وسائر الآفات.