أسباب المغفرة
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله
ِإنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ سورة الحشر (18).
أيها الناس.
«كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخطَّائين التَّوَّابون» أخرجه أحمد (12576)؛ والترمذي (2423)؛ وابن ماجه (4251)؛ والدارمي (2727 ) ،والحاكم (7617) وصححه، من حديث أنس رضي الله عنه ، فنحن أيها الناسُ موطنُ الخطايا والسيئاتِ، أنا وأنت يا عبدَ اللهِ، مستودعُ الذنوبِ والهفواتِ، غرَّتنا هذه الدنيا بزخرُفِها، وما فيها من الشهواتِ والملذاتِ، وأعانَ على ذلك نفسٌ بالسوءِ أمَّارةٌ، وشيطانٌ رجيمٌ على بابِ الصالحاتِ قاعدٌ يزهِّد، وعلى بابِ المعاصي والسيئاتِ قائمٌ يرغِّبُ ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ سورة الأعراف (16-17).
أيها الناس.
هذه حالُ كثيرٍ منَّا، إقامةٌ على الذَّنبِ والعِصيانِ، وهجْرٌ وترْكٌ للطاعةِ والإحسانِ ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ سورة يوسف (103). ،فإنا للهِ وإنا إليه راجعون، فلا ملجأَ ولا ملاذَ ولا مفرَّ ولا وَزَرَ إلا عفوُ اللهِ ورحمتُه ومغفرتُه وإحسانُه: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ سورة الذاريات (50).
عبادَ اللهِ، إن ربَّكم عفوٌ كريمٌ جَوادٌ بَرٌّ رحيمٌ ﴿يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾ سورة النساء ( 28) ضعيفاً في خَلقِه وبِنيتِه، ضعيفاً في رأيِه وإرادتِه، فمن رحمةِ اللهِ بنَا تخفيفُه عنَّا:
وهو العفوُّ فعَفوُه وَسِعَ الوَرَى *** لولاه غارَ الأرضُ بالإنسانِ
﴿وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً﴾(5) ، فربنا البرُّ الرؤوفُ الرحيمُ أيها المؤمنون واسعُ المغفرةِ والرحمةِ ﴿وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ﴾ سورة غافر ( 7) ،قال جلَّ شأنه:﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ سورة النجم (32) ، فاللهُ جل في علاه لم يزل ذا عفوٍ عن الذنبِ، لم يزل يجود ويعفو مِنَّةً وتكرُّماً طمَّعكم في جودِه وكرمِه ومغفرتِه وإحسانِه، فقال سبحانه: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ سورة الزمر (53).
وقد جعلَ اللهُ صلى الله عليه وسلم بعلمِه وحِكمتِه وفضلِه ورحمتِه لنيلِ عفْوِه وحصولِ مغفرتِه أسباباً وطرقاً كثيرةً عديدةً يسيرةً متنوِّعةً، فاجتهدوا في الأخذِ بأسبابِ العفوِ والمغفرةِ، فإن الذنوبَ والمعاصيَ سلاسلُ وأغلالٌ في عُنُقِ صاحبِها، لا يفكُّه منها إلا عفوُ اللهِ ومغفرتُه، فاللهُ يدعوكم يا عبادَ اللهِ ليغفرَ لكم من ذنوبِكم، وقد أمركم بحثِّ الخُطا وإسراعِ السَّيْرِ إليه سبحانه، فقال: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ سورة آل عمران (133).
وفي الصحيحين قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «ينزلُ ربُّنا إلى السماءِ الدنيا كلَّ ليلةٍ حين يبقى ثلُثُ الليلِ الآخِرُ، فيقولُ: من يدعُوني فأستجيبَ له؟ من يسألني فأُعطِيَه ؟من يستغفرُني فأغفرَ له؟» أخرجه البخاري (1077)، ومسلم (1261) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه فسبحان من وَسِعَ حِلمُه وعفوُه ورحمتُه أهلَ السماواتِ والأرضِ.
فيا أيها الناس :
كم ذا التأخرُ لا إقلاعَ يَصحبُه *** ولا عزيمةَ هذا العجزُ والكسلُ
فالبدارَ البدارَ يا عبادَ اللهِ إلى الأخذِ بأسبابِ العفوِ والغفرانِ قبلَ فواتِ الأوانِ، ألا تحبُّون أن يغفرَ اللهُ لكم واللهُ غفورٌ رحيمٌ .
أيها المؤمنون! إن أعظمَ ما يحصِّل به العبدُ مغفرةَ اللهِ وعفوَه كثرةُ التوبةِ والاستغفارِ؛ ولذلك أمرَ اللهُ بها جميعَ المؤمنين، فقال تعالى:﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ سورة النور (31)، وقد وعد الله التائبين بالقبول ،فقال تعالى:﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ سورة الشورى (25).
فبادروا عبادَ اللهِ إلى التوبةِ النصوحِ، فإن التوبةَ تجُبُّ ما قبلَها؛ فبالتوبةِ يمحو اللهُ الخطايا ويعفو عن السيئاتِ، ألا وإن التوبةَ الصادقةَ يا عبادَ اللهِ لا تكونُ إلا بالإقلاعِ عن المعصيةِ، والندمِ على مواقعةِ الخطيئةِ، والعزمِ على عدمِ العودةِ إلى الرَّذيلةِ، ورَدِّ المظالمِ إلى أهلِها أو استحلالِهم، فإن عذابَ الدنيا أهونُ من عذابِ الآخرةِ، فإذا فعلت أيها المؤمنُ هذا فأبشرْ فإنك حبيبُ اللهِ، فإن الله يحبُّ التوابين ويحبُّ المتطهرين، فكونوا عبادَ اللهِ ممن وصفَ اللهُ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ سورة آل عمران (135).
فأكثروا عبادَ الله من التوبةِ والاستغفارِ، قال الله تعالى في الحديثِ الإلهيِّ:« يا عبادي إنكم تخطِئون بالليلِ والنهارِ، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعاً، فاستغفِروني أغفرْ لكم» أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه. .
أيها المؤمنون! إنّ مما تكفَّرُ به الخطايا وتحصُلُ به مغفِرةُ السيئاتِ الأعمالَ الصالحاتَ، قال الله تعالى : ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾ سورة طـه (82).
فالحسناتُ والصالحاتُ تكفِّرُ الخطايا والسَّيئاتِ، ففي الصحيحِ جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم «فقال : يا رسولَ اللهِ، إني عالجْتُ امرأةً في أقصى المدينةِ، وإني أصبتُ منها ما دونَ أن أمسَّها، فأنا هذا فاقْضِ فيّ ما شئتَ، فقال له عمرُ رضي الله عنه : لقد سترَك اللهُ لو سترْتَ نفسَك. قال: فلم يرُد النبيُّ صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقام الرجلُ فانطلقَ فأرسلَ إليه النبيُّ رجلاً، وتلا عليه هذه الآية: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ سورة هود (114).) أخرجه مسلم (2763) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واستكثِروا من الأعمالِ الصالحاتِ، من الوضوءِ والصلاةِ والصدقةِ والصومِ والحجِّ والجهادِ وغيرِ ذلك من أبوابِ الخيرِ وسُبلِ البِرِّ.
أيها المؤمنون.
إن اللهَ لا يتعاظَمُ ذنباً أن يغفِرَه، بل من جُودِه وكرَمِه وإحسانِه ورحمتِه أن يغفرَ للمستغفِرِ الدقيقَ والجليلَ، الصغيرَ والكبيرَ : ﴿ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ سورة الزمر (53).
تعاظمَني ذنبي فلما قرنتُه *** بعفْوِك ربي كان عفوُك أعظمَ ديوان الإمام الشافعي (123)
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا .
الخطبة الثانية :
الحمدُ لله الذي تتلاشى وتضمحلُ في واسعِ عفوِه ومغفرتِه الخطايا والذنوبُ، أحمدُه على حلمِه وواسعِ جودِه وكرمِه، وأشهد أن لا إله إلا الله الجوادُ الكريمُ البرُّ الرحيمُ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم .
أما بعد.
فاتقوا اللهَ عباد اللهِ، وأحسِنوا إن اللهَ يحبُّ المحسنين، واعلموا أن مما تحصُلُ به مغفرةُ الغفورِ الرحيمِ الإحسانَ إلى الخلقِ ،ففي "الصحيحين" قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ اشتدَّ عليه العطشُ، فوجَدَ بِئراً فنزَلَ فيها فشرِبَ ثم خَرَجَ، فإذا كلبٌ يلهثُ، يأكلُ الثَّرى من العطشِ، فقال الرجلُ: لقد بَلَغَ هذا الكلبُ من العطشِ مثلَ الذي كانَ قد بلغَ منِّي، فنزلَ البئرَ، فملأَ خُفَّه ماءً، ثم أمسَكَه بفِيهِ –؛أي: بفمِه- حتى رقِيَ فسقى الكلبَ ،فشكرَ اللهُ له فغفرَ له. قالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ لنا في البهائمِ أجراً؟ فقال صلى الله عليه وسلم : في كلِّ كبدٍ رطبةٍ أجرٌ» صحيح البخاري" (2363)، ومسلم (2244) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . .
فانظرْ إلى هذا كيفَ غفَرَ اللهُُ له بسببِ سقيِهِ الكلبَ؟!
﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، وفي" صحيح مسلم "قال صلى الله عليه وسلم :«(لقد رأيتُ رجلاً يتقلَّب في الجنةِ في شجرةٍ قطَعَها من ظهرِ الطريقِ، كانت تؤذِي المسلمين» صحيح مسلم" (1914) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فاجتهدوا عبادَ اللهِ في الإحسانِ إلى الخلقِ، ولا تحقِرَنَّ من المعروفِ شيئاً :﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾ سورة النساء (147). ﴿إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ سورة التوبة (12).، وقال جلَّ ذكرُه : ﴿إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ سورة الكهف (30).
فهو الشكورُ فلنْ يضيِّعَ سعيَهم لكن يضاعفُه بلا حسبان القصيدة النونية (208)
فلا تَبْخلن يا عبدَ الله على نفسِك بالصالحاتِ، فـ ﴿إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ﴾ سورة الشورى (45) ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ سورة الحجرات (11).