ظلال المحبة
الخطبة الأولى:
إِنَّ الحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
فيا أيها المؤمنون.
اتَّقُوا اللهَ ،إِنَّ أَعظَمَ ما يُحَصِّلُهُ العَبْدُ في دُنْياهُ وَآخِرَتِهِ هُوَ مَحَبَّةُ اللهِ تَعالَى لَهُ، فَهِيَ الغايَةُ الَّتِي يَتَنافَسُ فِيها المتَنافِسُونَ، وَإِلَيْها شَخِصَ العامِلُونَ، وَإِلَى عِلْمِها شَمَّر الصَّادِقُونَ، فَهِيَ جَنَّةُ الدُّنْيا وَلَذَّةُ القَلْبِ وَقُوَّتُهُ وَحياتُهُ، فالقَلْبُ لا يُفْلِحُ وَلا يَصْلُحُ وَلا يَتَنَعَّمُ وَلا يَبْتَهِجُ وَلا يَلْتَذُّ وَلا يَطْمَئِنُّ وَلا يَسْكُنُ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ اللهِ تَعالَى وَمَحَبَّتِهِ، فَمَحَبَّةُ العَبْدِ لِرَبِّهِ وَمَحَبَّةُ اللهِ لِعَبْدِهِ هِيَ النُّورُ وَالشِّفاءُ وَالسَّعادَةُ وَالَّلذَّةُ، وَهِيَ الَّتي تَحْمِلُ العِبادَ إِلَى بِلادٍ لَمْ يَكُونُوا بالِغيها إِلَّا بِشِقِّ الأَنْفُسِ، وَهِيَ الَّتِي تَرْفَعُهُمْ إِلَى دَرَجاتٍ وَمَنازِلَ لَمْ َيُكُونوا بِدُونِها وَاصِلِيها، تاللهِ لَقَدْ ذَهَبَ أَهْلُ المحَبَّةِ بِشَرَفِ الدُّنيا والآخِرَةِ.
أيها الناسُ.
إِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَ العُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالأَرْواحِ الطَّيَّبَةِ وَالعُقُولِ الزَّاكِيَةِ أَحْلَى وَلا أَلَذُّ وَلا أَطْيَبُ وَلا أَسَرُّ وَلا أَنْعَمُ مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ تَعالَى وَالإِقْبالِ عَلَيْهِ وَالأُنْسِ بِهِ وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ، فَالحَلاوَةُ الَّتِي يُحَصِّلُها العَبْدُ في قَلْبِهِ بِمَحَبَّةِ اللهِ تَعالَى فَوْقَ كُلِّ حَلاوَةٍ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «ثَلاثٌ مِنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيمانِ» وَذَكَرَ عَلَى رَأْسِهِنَّ: «أَنَّ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِواهُما، وَأَنْ يُحِبَّ الرَّجُلَ لا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ ،وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الكُفْرِ بَعْدْ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَما يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَىَ في النَّارِ» أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (16)..
فَمَحَبَّةُ اللهِ تَعالَى أَيُّها المؤْمِنُونَ شَأْنُها عَظِيمٌ، وَأَمْرُها كَبِيرٌ، فَإِنَّ اللهَ تَعالَى إِنَّما خَلَقَ الخَلْقَ لِعِبادَتِهِ، وَعِبادَتُهُ لا تَكُونُ إِلَّا بِمَحَبَّتِهِ وَالخُضُوعِ لَهُ وَالانْقِيادِ لأَمْرِهِ، قالَ ابْنُ القَيَّمِ رَحِمَهُ اللهُ: "فَأَصْلُ العِبادَةِ مَحَبَّةُ اللهِ تَعالَى بَلْ إِفْرادُهُ بِالمحَبَّةِ وَأَنْ يَكُونَ الحُبُّ كُلُّهُ للهِ، فَلا يُحِبُّ مَعَهُ سِواهُ، وَإِنَّما يُحِبُّ لأَجْلِهِ وَفِيهِ، كَما يُحِبُّ أَنْبِياءَهُ وَرُسَلَهُ وَملائِكَتَهُ، فَمَحَبَّتَهُ لَهُمْ مِنْ تَمامِ مَحَبَّتِهِ وَلَيْسَتْ مَحَّبَةً مَعَهُ" مَدارِجُ السَّالِكينَ 1/99.
وَالمحَبَّةُ هِيَ الباعِثَةُ عَلَى العُبُودِيَّةِ؛ لِذا فَإِنَّ اللهَ تَعالَى قَدْ فَطَرَ القُلُوبَ عَلَىَ أَنَّهُ لَيْسَ في مَحْبُوباتِهِ وَمُراداتِهِ ما تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ وَتَنْتَهِي إِلَيْهِ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْ دُونِهِ شَيْئاً كَما يُحِبُّهُ سُبْحانَهُ فَقَدْ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً في الحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ، قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلهِ﴾ سُورَةُ البَقَرَةِ: 165، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعالَى صَرَفَ المحَبَّةِ لِغَيْرِهِ شِرْكاً، يَنْقُضُ أَصْلَ الإيمانِ، وَما ذاكَ إِلَّا أَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ تَعالَى أَعْظَمُ وَاجِباتِ الإيمانِ، وَأَكْثَرُ وَأَكْبَرُ أُصُولِهِ وَأَجَلُّ قَواعِدِهِ، بَلْ هِيَ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمالِ الإيمانِ وَالدِّينِ، كَما قالَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ.
َأيُّها المؤْمِنُونَ.
إِنَّ مِنْ أَسْبابِ بَعْثِ مَحَبَّةِ العَبْدِ لَِربِّهِ سُبْحانَهُ: مُطالَعَتَكَ يا عَبْدَ اللهِ إِلَى مِنَّةِ اللهِ تَعالَى وَإِحْسانِهِ إِلَيْكَ في جَمِيعِ أَحْوالِكَ وَأَطْوارِكَ، فَإِنَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ لا تُحْصَى، كَما قالَ سُبْحانَهُ:﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ سُورَةُ النَّحْلِ: 18 فَبِقَدْرِ مُطالَعَتِكَ أَيُّها العَبْدُ لمِنَّةِ اللهِ تَعالَى وَنِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ والباطِنَةِ عَلَيْكَ بِقَدْرِ ما يَكُونُ في قَلْبِكَ مِنْ مَحَبَّةٍ، فَإِنَّ القُلُوبَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْها وَلَيْسَ لِلعَبْدِ إِحْسانٌ قَطُّ، إِلَّا مِنَ اللهِ تَعالَى، فَلا أَحَدَ أَعْظَمُ إِحْساناً مِنْهُ سُبْحانَهُ، فَإِنَّ إِحْسانَهُ عَلَى عَبْدِهِ في كُلِّ نَفَسٍ وَلَحْظَةٍ، فَالعَبْدُ يَتَقَلَّبُ في إِحْسانِ رَبِّهِ في جَمِيعِ أَحْوالِهِ، فَلِلهِ الحَمْدُ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبارَكاً فِيهِ كَما يُحِبُّ رَبُّنا وَيَرْضَى.
أَيُّها المؤْمِنُونَ إِنَّ مِمَّا يُرَسِّخُ في قَلْبِ العَبْدِ مَحَبَّتَهُ لِرَبِّهِ سُبحْانَهُ وَيُثَبِّتُهُ عَلَيْها: نَظَرَهُ في أَسْماءِ اللهِ تَعالَى وَصِفاتِهِ، فَإِنَّ أَسْماءَهُ وَصِفاتِهِ تُوجِبُ تَعَلُّقَ قُلُوبِ العِبادِ ِبهِ؛ وَلِذا جاءَتْ رُسُلُهُ جَميعاً بِهِ مُعَرِّفينَ وَإِلَيْهِ داعِينَ، قالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: "فَعَرَّفُوا الرَّبَّ المدْعُوَ إِلَيْهِ بِأَسْمائِهِ وَصِفاتِهِ وَأَفْعالِهِ تَعْرِيفاً مُفَصَّلاً، حَتَّى كَأَنَّ العِبادَ يُشاهِدُونَهُ سُبْحانَهُ وَيَنْظُرونَ إِلَيْهِ فَوْقَ سَماواتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، يُكَلِّمُ ملَائِكَتَهُ وَيُدَبِّرُ أَمْرَ مَمْلَكَتِهِ وَيَسْمَعُ أَصْواتَ خَلْقِهِ وَيَرَىَ أَفْعالَهُمْ وَحَركاتِهِمْ وَيُشاهِدُ بَواطِنَهُمْ، كَما يُشاهِدُ ظَواهِرَهُمْ، يَأْمُرُ وَيَنْهَىَ وَيَرْضَى وَيَغْضَبُ وَيَضْحَكُ مِنْ قُنُوطِهِمْ وَقُرْبِ غِيَرِهِ، وَيُجِيبُ دَعْوةَ مُضَّطَرِّهِمْ وَيُغِيثُ مَلْهُوفَهُمْ وَيُعِينُ مُحْتاجَهُمْ وَيَجْبُرُ كَسِيرَهُمْ وَيُغْنِي فَقِيرَهُمْ وَيُمِيتُ وَيُحْيِي وَيَمْنَعُ وَيُعْطِي، يُؤْتِيَيءَ أنفعُ من قراءةِ القرآنِ الكريم بتدبُّرٍ وتفكُّرٍ، فتلاوةُ القرآنِ ومحبتُه سببٌ لمحبةِ اللهِ تَعالَى لِعَبْدِهِ، فَإِنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَجْلَبَ مَحَبَّةَ اللهِ بِتَلاوَةِ سُورَةٍ واحِدَةٍ وَتَدَبُّرِها وَمَحَبَّتِها، فَقالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ» أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (7375)، وَمُسْلِمٌ (813) مِنْ حَدِيثِ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها.
وَمِنَ الأَسْبابِ الجالِبَةِ لمحَبَّةِ اللهِ تَعالَى: إِدامَةُ ذِكْرِهِ سُبْحانَهُ، فَذِكْرُ اللهِ تَعالَى شِعارُ المحِبِّينَ وَدِثارُ أَوْلِياءِ اللهِ المتَّقِينَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قالَ: «إِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ يَقُولُ: أَنا مَعَ عَبْدِي ما ذَكَرَني وَتَحرَّكَتْ بِي شَفَتاهُ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ (10593) وَالحاكِمُ (1824) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، وَ صَحَّحَهُ الحاكِمُ، فَصاحِبُ الأَذْكارِ مَذْكُورٌ عِنْدَ اللهِ بِالثَّناءِ وَالمحْمَدَةِ وَالمحَبَّةِ، كَما قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ سُورَةُ البَقَرَةِ: 152، فَنَصِيبُكَ يا عَبْدَ اللهِ مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ عَلَى قَدْرِ ذِكْراهُ للهِ تَعالَى.
وَمِنَ الأَسْبابِ الَّتي يُحَصِّلُ بِها العَبْدُ مَحَبَّةَ اللهِ تَعالَى: التَّقَرُّبُ إِلَيْهِ بِالنَّوافِلِ بَعْدَ الفَرائِضِ، فَفِي "الصَّحِيحِ" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قالَ اللهُ تَعالَى: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ،وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ،فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ،وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ ،وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ».
وَمِنَ الأَسْبابِ الجالِبَةِ لمحِبَّةِ اللهِ تَعالَى لِعَبْدِهِ: مُتابَعَةُ النَّبِيِّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أَعْمالِهِ وَأَقْوالِهِ وَأَحْوالِهِ، قالَ اللهُ تَعالَى:﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ سورة آل عمران: 31 ،فَمَحَبَّةُ اللهِ تَعالَى لِعَبْدِهِ لا تَحْصُلُ إِلَّا إِذا اتَّبَعَ العَبْدُ رَسُولَ رَبِّهُ وَحَبِيبَهُ ظاهِراً وَباطِناً، وَصَدَّقَهُ خَبَراً وَأَطاعَهُ أَمْراً وَأَجابَهُ دَعْوَةً، فَما لَمْ تَحْصُلْ المتابَعَةُ لِنَبِيِّ اللهُ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ العَبْدُ مُحِبًّا للهِ تَعالَى، وَلا اللهُ تَعالَى مُحِبًّا لَهُ، فالجَزاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ. فَللهِ كَمْ فَضَحَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِنْ كاذِبِ، وَالأَمْرُ كَما قالَ الأَوَّلُ:
تَعْصِي الإِلَهَ وَأَنْتَ تَزْعُمُ حَبَّهُ ***هَذا مُحالٌ في القِياسِ شَنِيعُ
لو كان حبُّك صادقاً لأطعتَه إن المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ زهر الأداَبَ وثمر الألباب 1/103
فَكُلُّ عاصٍ للهِ مَخالِفٌ لأَمْرِهِ مُرْتَكِبٌ لِنَهْيِهِ كاذِبٌ في دَعْواهُ المحَبَّةَ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ نَصَبَ طاعَتَهُ وَالخُضُوع َلَهُ عَلَى صِدْقِ المحَبِّةِ دَلِيلاً.
وَالدَّعاوَىَ إِنْ لَمْ تُقِيمُوا عَلَيْها بَيَّناتٍ أَبْناؤُها أَدْعياءُ
الخطبة الثانية :
أما بعد.
فيا أيها المؤمنون.
تَدَبَّرُوا كِتابَ رَبِّكُمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،فَإِنَّ القُرْآنَ وَالسُّنَّةَ مَمْلُوءانِ بِذِكْرِ مِنْ يُحِبُّهُ اللهُ تَعالَى، وَما يُحِبُّهُ سُبْحانَهُ مِنَ الأَعْمالِ وَالأَقْوالِ وَالأَحْوالِ، فَمِنْ ذَلِكَ عَلَىَ سَبِيلِ المثالِ لا الحَصْرِ قَوْلُهُ تَعالَى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾ سُورَةُ البَقَرَةِ: 195، وَقَوْلُهُ تَعالَى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المتَطَهِّرِينَ﴾ سُورَةُ البَقَرَةِ: 222.، وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ سُورَةُ آلِ عِمْرانَ: 146،وَقَوْلُهُ تَعالَى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ سُورَةُ آلِ عِمْرانَ: 159،وَقَوْلُهُ تَعالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ سُورَةُ المائِدَةِ: 54.
أَيها المؤمنون.
ذَكَرَ اللهُ تَعالَى في الآياتِ الَّتِي سَمِعْتُمُوها أَصْنافاً مِمَّنْ يُحِبُّهُمْ مِنْ عِبادِهِ المحْسِنينَ وَالتَّوَّابِينَ وَالمتَطَهِّرِينَ وَالصَّابِرينَ وَالمتَوَكِّلِينَ، وَفي آخِرِ ما ذَكَرْتُهُ مِنَ الآياتِ ذَكَرَ اللهُ سُبْحانَهُ لِمَنْ يُحِبُّهُمْ أَرْبَعَ صِفاتٍ: أَذِلَّةٌ عَلَى المؤْمِنينَ، أَعِزَّةٌ عَلَى الكافِرينَ، يُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ، وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ، فَإِنَّ مِنْ لَوازِمِ حُبِّ اللهِ تَعالَىَ الوَلاءَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَوْلِيائِهِ، وَالبَراءةَمِنْ أَعْدائِهِ، كَما قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمالِ إِلَى اللهِ الحُبُّ في اللهِ وَالبُغْضُ في اللهِ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ ( 20796) مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَالحَدِيثُ صَحَّحَهُ الأَلْبانِيُّ في صَحِيحِ الجامِعِ الصَّغِيرِ (4304).، وَبِهذا يَتَبَيَّنُ لَنا كَذِبُ الَّذِينَ ادَّعَوْا مَحَبَّةَ اللهِ، ثُمَّ وَالَوْا أَعْداءَ اللهِ وَحابَوْهُمْ.
َوَأَمَّا الجَهادُ بِالسَّيفِ وَالسِّنانِ وَالعِلْمِ وَالبَيانِ، فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللهِ تَعالَى تُوجِبُهُ قَطْعاً، قالَ شَيْخُ الإِسْلامِ رَحِمَهُ اللهُ: "فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ اللهَ وَأَحَبَّهُ اللهُ أَحَبَّ ما يُحِبُّهُ اللهُ وَأَبْغَضَ ما يُبْغِضُهُ اللهُ، وَوالَى مَنْ يُوالِيَهُ وَعادَىَ مَنْ يُعادِيَهُ" جامِعُ الرَّسائِلِ 2/275..
وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَمِنَ النُّصُوصِ الَّتي وَرَدَتْ في ذِكْرِ مَنْ يُحِبُّه اللهُ وَما يُحِبُّهُ، فَقَدْ قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الَّذِي يَخْتمُ قِراءَتَهُ في الصَّلاةِ بِسُورةِ الإِخْلاصِ لكُوْنِها صِفَةَ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ يُحبُّها: «أَخْبَرُوهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ» ،وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ قَوِيَّ الإِيمانِ مَحْبُوبٌ للهِ تَعالَى، فَقَدْ رَوَىَ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: «المؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المؤْمِنِ الضَّعِيفِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2664) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. .
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الصِّفاتِ الوارِدَةِ في السُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ، فاحْرِصُوا أَيُّها المؤْمِنُونَ عَلَى الاتِّصافِ بِصِفاتِ المؤْمِنينَ عَسَى أَنْ تَكُونُوا مِنَ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللهُ تَعالَى، فَإِنَّ النَّتائِجَ بِمُقَدِّماتِها، وَالأَشْياءُ مَرْبُوطَةٌ بِأَسْبابِها، فاجْتَهِدُوا في الاتِّصافِ بِهَذِهِ الصِّفاتِ، فَإِنَّ مَحَبَّةَ اللهِ تَعالَى مِنَّةٌ وَمَوْهِبَةٌ، وَهِيَ لا تَحْصُلُ بِالدَّعَةِ وَالكَسَلِ.
فَتِلْكَ مَواهِبُ الرَّحْمَنِ لَيْسَتْ تَحْصُلُ بِاجْتِهادٍ أَوْ بِكَسْبٍ
وَلَكِنْ لا غِنَى عَنْ بَذْلِ جُهْدٍ بِإِخْلاصٍ وَجَدٍّ لا بِلَعَبٍ
فاعْمَلُوا عِبادَ اللهِ بِطاعَةِ اللهِ وانْتَهُوا عَمَّا نَهاكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الفَضائِلَ وَتِلْكَ المنازِلَ يَسِيرَةٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَها اللهُ عَلَيْهِ، وَهِيَ حاصِلَةٌ لِكُلِّ مَنْ جَدَّ في طَلَبِها وَسَعَى في تَحْصِيلِها، فَإِنَّ الأَمْرَ كَما قالَ الأَوَّلُ:
فَلَيْسَ عَلَى الجودِ وَالمكْرُماتِ إِذا جْئْتَها حاجِبٌ يَحْجِبُكَ بَهْجَةُ المجالِسِ وَأُنْسُ المجالِسِ 1/168-- -