بسم الله الرحمن الرحيم
مُعَنْعَنٌ كَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ كَرَمْ*** وَمُبْهَمٌ ما فِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمْ
وَكُلُّ مَا قَلَّتْ رِجالُهُ عَلا*** وَضِدُّهُ ذاكَ الذي قَدْ نَزَلا
وَمَا أَضَفْتَهُ إلىٰ الأَصْحابِ مِنْ*** قَوْلٍ وَفِعْلٍ فَهْوَ مَوْقُوفٌ زُكِنْ
وَمُرْسَلٌ مِنْهُ الصَّحَابِيُّ سَقَطْ*** وَقُلْ غَرِيبٌ مَا رَوَى رَاوٍ فَقَطْ
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول الناظم رحمه الله: (مُعَنْعَنٌ كَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ كَرَمْ) عرّف المؤلف رحمه الله المعنعن، ذكر المعنعن وذكر تعريفه لكنه عرفه بالمثال، ولم يعرفه بحد، وهـٰذا أمر جرى عليه عمل الأئمة؛ بل إنّ المتقدمين يسلكون هـٰذا المسلك، وهو أنهم يعرّفون الأمور بالأمثلة، يعرفون الحدود بأمثلتها أو المحدود بأمثلته.
فهنا لم يذكر لنا ما هو المعنعن، إنما ذكر لنا مثالاً فقال: (مُعَنْعَنٌ كَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ كَرَمْ)، مقصود المؤلف رحمه الله بهذا أن المعنعن ما قال فيه رواة الحديث أو بعض رواته: عن فلان. ولو كان في بعض الطبقات، ولا يلزم أن يكون في جميعها؛ يعني قد تكون العنعنة بين راويين، وقد تكون في جميع طبقات الرواة وفي جميع سلسلة الحديث -سند الحديث-.
وقد استدرك الشيخ عبد الستار على الناظم فقال:
"مُعَنْعَنٌ كَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ كَرَمْ"
لكن هـٰذا ليس بصحيح، هـٰذا الاستدراك ليس في محله؛ لأن العنعنة ليست من عمل المدلسين؛ بل تكون من أهل التدليس وممن لم يعرف بالتدليس.
وسيأتينا بيان التدليس وما يتعلق به في كلام الناظم.
إذاً عرفنا أن المعنعن هو قول رواة الحديث أو بعض رواته: عن فلان.
إذاً العنعنة هل هي أمر يتعلق بالإسناد أو يتعلق بالمتن؟ أمر يتعلق بالإسناد، وهل له أثر في الصحة والضعف؟ نعم له أثر في الصحة والضعف.
فإن العلماء اختلفوا في قول الراوي فيما رواه: عن فلان، هل يحكم باتصاله أو لا؟ ولهم في هـٰذا خلاف طويل.
ملخص هـٰذا أن (عن) لا تفيد النقل المباشر، فيصح أن يقول القائل الآن عن شخص لم يدركه: عن فلان أنه قال كذا، أو عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال كذا. ويطوي السند الذي جاءه الخبر من طريقه، فهـٰذا النوع من الرواية يسمى معنعناً؛ لكنه غير متّصل، فقول الرواة: (عن) اختلف العلماء في حكم اتصاله؛ لأن (عن) لا تفيد تلقي الراوي عن من نقل عنه، فقد يكون بينهما رواة، وقد يكون بينهما راوٍ، وقد يكون نقله مباشرة عنه.
ولذلك لا يُحكم بالاتصال ولا بعدمه من مجرّد ورود هـٰذه الكلمة، فإنها لا تفيد الاتصال ولا تفيد عدم الاتصال.
بخلاف الصيغ التي يستعملها بعض المحدثين في أداء ما سمعوا، فهي تفيد السماع في قولهم: حدثني أو حدثنا أو أخبرنا أو سمعت، فهـٰذه كلها تفيد السماع والتلقي المباشر، فيُحكم بالاتصال بين الراويين، أما إذا قال: عن فإنها لا تفيد الاتصال بمجردها؛ لأنها كما ذكرنا تحتمل الاتصال وعدمه.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في مسألة، وهي ما إذا قال راوٍ من الرواة: (عن) في أدائه لحديث سمعه، وكان من نقل عنه معاصراً له، ولم يقم مانع من السماع ، يعني ما هناك مانع من سماع الراوي عمن نقل عنه، ولم يكن مدلساً؛ يعني لم يكن الراوي مدلساً، اختلف العلماء في هـٰذه الصورة: هل يحمل هـٰذا القول على الاتصال أو لا؟
ما هو الذي وقع فيه الخلاف؟ في حكم الاتصال فيما إذا كان الحديث معنعناً، والمُعَنْعِنْ يعني الذي استعمل (عن) في الرواية عاصر من نقل عنه، ولم يقم مانع من سماعه، ولم يكن مدلساً، هل هذا يحكم باتصاله أو لا؟
ذهب جمهور المحدثين من المتأخرين إلىٰ أن هـٰذا يحكم باتصاله، وهـٰذا ما جرى عليه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه ونافح عنه في مقدمته، حيث حكم بالاتصال بمجرد المعاصرة، وأنه لا يوجد مانع من السماع، وليس الراوي المحدث مدلساً.
وذهب أئمة المحدثين كالبخاري، وابن المديني، والإمام أحمد، وأبي حاتم، وأبي زرعة إلىٰ أنه ليس في حكم المتصل، أي إنه إذا قال الراوي: عن فلان، وهو معاصر، ولا يوجد مانع من السماع، وليس مدلساً، لا نحمله على الاتصال حتى تثبت اللقيا، هـٰذا شرط البخاري رحمه الله وشرط ابن المديني.
زاد الإمام أحمد ومن معه -أبو حاتم وأبو زرعة- زادوا اشتراط ثبوت السماع لا مجرد اللقيا، وهـٰذا ما تميز به الإمام أحمد رحمه الله وأبو زرعة وأبو حاتم: أنهم أضافوا على شرط البخاري شرطاً وهو ثبوت السماع لا مجرد اللقيا، أما الإمام البخاري وابن المديني فإنهما اكتفيا بمجرد ثبوت اللقيا.
ففهمنا من هـٰذا أن المحدثين رحمهم الله في دلالة هـٰذا اللفظ على الاتصال لهم طرق مختلفة، وهـٰذا أبرزها، وإلا ففيه تفصيل آخر.
لكن يرجع القول في هـٰذه المسألة إلى قولين رئيسين:
· منهم من يعتبر هـٰذا متصلاً ويحكم باتصاله.
· ومنهم من لا يعده متصلاً، ويضيف شروطاً، يختلفون في هـٰذه الشروط المضافة.
وقد سار الإمام البخاري في صحيحه على أنه لا يقبل قول الراوي إذا قال: عن فلان، إلا إذا كان قد ثبت له لقياه، فلا يكتفي بالمعاصرة وعدم المانع من السماع وعدم التدليس، وهـٰذا من الفروق بين الصحيحين، وهو الذي جعل الأئمة يقدمون صحيح البخاري على صحيح مسلم من حيث صحة الأحاديث واتصالها، فإن شرط البخاري أرفع من شرط مسلم.
وأما إن كان مدلساً فسيأتينا إن شاء الله تعالىٰ هذا في كلام المؤلف عند بحثه وذكره للتدليس.
إذاً عرفنا المعنعن، وفهمنا مسألة مهمة ترتبط بالمعنعن، وهي مسألة الحكم باتصاله؛ هل هو متصل أو لا؟ واضح يا إخواني؟
ننتقل إلىٰ النوع الثاني الذي ذكره المؤلف، قال: (وَمُبْهَمٌ ما فِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمْ) هـٰذا بين لنا فيه الناظم رحمه الله الحديث المبهم.
الإبهام: هو عدم البيان. هـٰذا معنى الإبهام في اللغة.
ويكون الإبهام في السند، ويكون الإبهام في المتن.
فما هو الإبهام عموماً الذي يشمل السند والمتن؟ هو عدم تسمية الراوي، أو عدم تسمية من في الرواية.
فالمبهم هو الحديث الذي فيه راوٍ لم يبين، سواء كان هـٰذا الراوي في السند أو في المتن؛ لكنهم قيدوا مسألة المتن بأن يكون له أثر في الرواية؛ ولكن هـٰذا القيد لم يتفقوا عليه، فمنهم من يذكره ومنهم من لا يذكره؛ لأن بعض المبهمات في الحديث ليس لها أثر في الرواية.
كحديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين في قصة اللديغ، فإنه قال رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إن أهل الوادي أتوهم فقالوا: هل فيكم من راقٍ؟ قال رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فقام رجل منا فرقاه.
هـٰذا إبهام أو ليس إبهاماً؟ رجل مبهم؛ لكن هل هـٰذا له أثر في الرواية؟ الجواب: ليس له أثر في الرواية، فإذا كان كذلك فليس معتبراً؛ يعني لا يعده بعضهم مبهماً، والصحيح أنه من جملة المبهمات وإن كان ليس له أثر في الرواية.
وهـٰذا النوع من الإبهام في السند أو في المتن؟ هـٰذا النوع من الإبهام في المتن لا في السند.
طيب المؤثر والمهم هو الإبهام الذي يكون في السند؛ لأن عليه يتوقف صحة الحديث من عدمها، قبول الحديث والاحتجاج به من عدم قبوله وعدم الاحتجاج به.
والإبهام لا يخلو من حالين:
أن يكون إبهاماً في درجة الصحابة؛ أي في من هو من الصحابة، فهـٰذا إبهام لا يؤثر على صحة الحديث.
ومنه ما رواه الإمام مسلم عن بعض أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيه قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين ليلة))([1]). هـٰذا إبهام، لا ندري من هي هـٰذه الزوجة؛ هل هي عائشة أم حفصة أم أم سلمة أم صفية أم جويرية أم سودة؟ فهـٰذا إبهام؛ لكن هـٰذا الإبهام هل يؤثر في ثبوت الحديث؟ لا؛ لأن زوجات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ كلهن عدول، فلا حاجة إلىٰ البحث في تعيينها، وإبهامها لا يؤثر.
النوع الثاني من الإبهام أن يكون في السلسلة؛ أي في سلسلة السند،في رجال السند أو في رواته دون الصحابي، وهـٰذا هو الذي يؤثر في صحة الحديث، ولا يخلو هـٰذا الإبهام من حالين:
الحال الأولى:أن يأتي بيانه من طريق آخر، ففي هـٰذه الحال يرتفع الإشكال من هـٰذه الجهة، ولا يعد هـٰذا الإبهام سبباً للطعن؛ لأنه تبين من طريق آخر.
الحال الثانية:أن يبقى مبهماً فلا يأتي بيانه في طريق، فهـٰذا سبب لرد الحديث وعدم قبوله واعتباره؛ لإبهام بعض رواته وجهالتهم، فمثل هـٰذا لا يحتج به.
بل إنه إذا كان الراوي مسمًّى لكنه مجهول -وسيأتينا إن شاء الله الكلام عليه- فإنه لا يقبل مع أنه عُيِّن وذكر اسمه، لا يقبل إذا كان مجهولاً، فكيف بالمبهم الذي لم يتبين لا وصفه ولا رسمه؛ يعني لا الوصف ولا الاسم؟ في هـٰذه الحال لا يقبل.
طيب ما حكم ما لو قال الراوي: حدثني الثقة أو حدثني الإمام؛ فهل هـٰذا يعد رافعاً للإبهام؟ الجواب: لا؛ الإبهام باقٍ؛ لأنه ثقة عنده، قد يخالفه فيه غيره، فالإبهام لا يرتفع بهذا ولو ذكر وصفاً من أوصاف قبول الحديث، واضح هـٰذا الكلام؟
طيب هـٰذا بالنسبة للمبهم.
ثم انتقل المؤلف رحمه الله إلىٰ نوع آخر من أنواع الحديث قال:
وَكُلُّ مَا قَلَّتْ رِجالُهُ عَلا***وَضِدُّهُ ذاكَ الذي قَدْ نَزَلا
كل حديث (قَلَّتْ رِجالُهُ) أي رجال إسناده أي نقلته، (عَلا) أي وصف بأنه حديث عال.
فالعالي وصف يتعلق بالسند، مردّه إلىٰ قلة عدد سلسلة الحديث أو عدد رواة الحديث، وأقل ما ورد في الكتب المسندة التي وصلت إلينا من عدد رجال الحديث، ما يسمى عند العلماء بالثلاثيات؛ أي ما كان في سنده ثلاثة من الراوي حتى يصل إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد اشتهر هـٰذا عن الإمام أحمد رحمه الله، وهناك كتاب مشهور بثلاثيات أحمد، وقد شرحه بعض الشراح، كذلك موجود في البخاري، موجود في غيره؛ لكنها أحاديث نادرة قليلة.
هـٰذه من أعلى الأسانيد باعتبار أن رواتها قلة، الرواة الذين نقلوها قلة.
طيب هل هـٰذا العلم من العلم المفيد؟ بالنسبة لنا الآن فائدته ضعيفة؛ بل قد ذكر بعض المحدثين: إنه لا فائدة له؛ لكن من حيث عمل الرواة أنفسهم، لا شك أنهم كانوا يطلبون العالي من الأحاديث.
ولذلك جاء عن غير ما واحد من السلف منهم الإمام أحمد أن طلب علو الإسناد سنة عمّن سلف. أي طريقة سلكها السلف ويُقتدى بهم فيها؛ لكن هـٰذا في زمانهم وفي وقتهم، في وقت النقل والحفظ.
أما وقد استقرت دواوين السنة وحفظت فإن فائدة هـٰذا قليلة.
ومن أدلة من قال بأن طلب العلو في الإسناد سنّة ما جاء في قصة ضمام بن ثعلبة، أصل القصة في البخاري ومسلم أنه جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أتانا رسولك يزعم أنك رسول الله، آلله أرسلك؟ ثم سأله عدة أسئلة، وهـٰذا الحديث جاء في البخاري في بعض المواضع الرجل غير مذكور، وجاء في بعضها الرجل مذكور بضمام بن ثعلبة، وقد اختلفت الأسئلة، على كل حال هو الحديث الذي قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر الحديث: ((أفلح وأبيه إن صدق)).([2])
هـٰذا الحديث دليل على مشروعية طلب علو الإسناد؛ لأن الرجل لم يكتفِ بكلام الرسول الذي جاءه؛ بل جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليأخذ عنه ويتلقى عنه مباشرة.
فهـٰذا شاهد لطلب علو الإسناد من إقرار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي من سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث أقر الرجل على طلب علو الإسناد.
إذاً عرفنا العالي من الأحاديث وهو ما قلت رجاله إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لكن يمكن أن يقال: إنه أيضاً يوصف بعلو الإسناد ما انتهى إلى إمام من الأئمة، فإنهم يصفونه بأنه إسناد عال، ويصفون الإسناد العالي أيضاً أو الحديث العالي بما أخرجه الشيخان وأصحاب السنن، وهـٰذا كله علو نسبي، أما العلو عند الإطلاق فمراد أهل الحديث به ما قل عدد رجال الإسناد أو عدد رواته.
قال رحمه الله: (وَضِدُّهُ) أي ضد العالي، (وَضِدُّهُ ذاكَ الذي قَدْ نَزَلا) أي ذاك الذي نزل بكثرة رجال إسناده.
وقد يأتي حديث واحد بإسنادين إسناد نازل وإسناد عال، والحديث واحد، فالعلو والنزول قد يجتمعان في حديث واحد، فيكون عالياً من الطريق الفلاني ونازلاً من الطريق الآخر.
والمسألة هـٰذه أمرها سهل وواضح إن شاء الله.
قال رحمه الله:
وَمَا أَضَفْتَهُ إلىٰ الأَصْحابِ مِنْ***قَوْلٍ وَفِعْلٍ فَهْوَ مَوْقُوفٌ زُكِنْ
المؤلف رحمه الله بين لنا في هـٰذا الحديث معنى الموقوف، فقال في بيان الموقوف: (وَمَا أَضَفْتَهُ إلىٰ الأَصْحابِ).
الأصحاب جمع صاحب، والصاحب من هو؟ الصاحب هو: من لقي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ مؤمناً به ومات على ذلك. طيب ولو تخللت هـٰذا ردة؟ نعم، ولو تخللت هـٰذا ردة.
مثال: الأشعث بن قيس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وهـٰذا يمثلون به لمن صدق عليه أنه صحابي مع أنه ارتد، حصلت منه ردة ثم رجع.
المقصود أن الصحابي هو من لقي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمناً به ومات على ذلك. ولا فرق بين طول اللقيا وقصرها من حيث ثبوت وصف الصحبة، فالصحبة ثابتة طالت اللقيا أو قصرت.
يقول: (وَمَا أَضَفْتَهُ إلىٰ الأَصْحابِ) أي ما أُضيف إلىٰ الصحابي من قول أو فعل فهو موقوف، يسمى موقوفاً، وهل هو صحيح أو ضعيف؟ لم يتكلم المؤلف رحمه الله في الصحة أو الضعف، إنما بيّن لنا اسم الحديث الذي ينتهي إلىٰ الصحابي، اسم الحديث الذي ينتهي إلىٰ الصحابي هو الموقوف.
وسُمي موقوفاً لأنه لم يرفع إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قصر عن درجة المرفوع.
فالمرفوع ما انتهى رواته إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ما أضيف إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قول أو فعل أو تقرير كما تقدم.
أما الموقوف فهو ما أضيف إلىٰ الصحابي.
هل فيه صحيح وضعيف في الموقوفات؟ نعم فيه صحيح وضعيف في الموقوفات، وهي كثيرة.
مثال الموقوف القولي قول علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كما في مسند الإمام أحمد وغيره: لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه.
ومثاله قوله كما في الصحيح: ما أنت محدثٌ قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم. وقد جاء نظير هـٰذا عن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. هـٰذا مثال للموقوف القولي.
مثال للموقوف الفعلي -ما مر معنا قريباً في العمدة- من قول أبي حازم في وصف ما رآه من أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه كان إذا غسل يديه رفع إلىٰ منكبيه، فهـٰذا موقوف إلى الصحابي قولاً أو فعلاً؟ موقوف عن الصحابي فعلاً.
لكن لا بد من زيادة قيد في الموقوف، وقد أهمله المؤلف رحمه الله يقول:
وَمَا أَضَفْتَهُ إلى الأَصْحابِ مِنْ***قَوْلٍ وَفِعْلٍ فَهْوَ مَوْقُوفٌ زُكِنْ
لكن لا بد أن يكون خالياً من قرينة تدل على رفعه، وهـٰذا مهم؛ لأن بعض ما يتكلم به الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم لا يمكن أن يكون من قبل أنفسهم، فيحكم بأنه من المرفوع، لا سيما إذا كان الصحابي لم يعرف بالنقل عن أهل الكتاب، فليس كل موقوف من موقوفات الصحابة القولية يكون غير مرفوعٍ أو ليس في حكم المرفوع.
بل هو منها ما هو في حكم المرفوع وهو ما إذا كان الصحابي يذكر أمراً:
· ليس محلاًّ للاجتهاد.
· وليس الراوي ممن عرف بالنقل عن أهل الكتاب.
فإذا اجتمع هـٰذان الوصفان في الصحابي فإن ما قاله يكون حكمه حكم المرفوع، يعني كما لو قال الصحابي: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ.
فإخبار الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم بما يكون يوم القيامة، هل هـٰذا يمكن أن يتوصل إليه بالعقل والرأي؟ ما يمكن أن يكون مما يتوصل إليه بالعقل والرأي؛ بل لا بد من نقل.
النقل لا يخلو إما أن يكون عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الأصل فيما ينقله الصحابة.
الحالة الثانية: أن يكون من بني إسرائيل؛ لأنهم أصحاب كتاب، فإن كان الراوي ممن عرف بالنقل عن بني إسرائيل فإنه لا يقبل قوله على أنه مرفوع، لا يأخذ حكم الرفع، لماذا؟ لأنه احتمال أن يكون قد سمع ذلك أو نقله عن بني إسرائيل، وكتب بني إسرائيل دخلها التحريف والتبديل والتعديل وتدخل في عموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل هي في عموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج))([3]). يعني حدثوا لكن لا تصدقوا ولا تكذبوا، فلا تصدق ولا تكذب.
أما إن كان الراوي ممن يحتاط ولا ينقل عن بني إسرائيل، كابن عباس على الصحيح من أقوال أهل العلم فإنه يقبل قوله؛ بمعنى أن قوله يأخذ حكم المرفوع، يعني كما لو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أيضاً مما لا بد من تقييده أن ما يفعله الصحابة زمن الوحي حكمه حكم الرفع، ولو لم يسنده إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعني ولو لم يقل: إن النبي علم بذلك وأذن لنا فيه.
مثاله ما في صحيح الإمام مسلم من حديث جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حيث قال: كنا نعزل والقرآن ينزل. يعني لم يأت نهي لا من الله قرآناً ولا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولاً، فدلّ ذلك على جوازه، فهـٰذا له حكم الرفع؛ أي يحتج به على الجواز. فهـٰذا موقوف على فعل الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم؛ ولكنه في حكم المرفوع، فكما لو قال: أجاز رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ العزل؛ لأنه لو كان محرماً لنهى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ، فلا بد أن نقيد ما ذكره المؤلف رحمه الله في ما يتعلّق بالموقوف.
([1]) مسلم: كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، حديث رقم (2230)، وليس فيه (كاهناً).
([2]) مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الصلاة التي هي أحد أركان الإسلام، حديث رقم (11).
([3]) البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث رقم (3461).