بسم الله الرحمن الرحيم
وَمُرْسَلٌ مِنْهُ الصَّحَابِيُّ سَقَطْ*** وَقُلْ غَرِيبٌ مَا رَوَى رَاوٍ فَقَطْ
وَكُلُّ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِحَالِ*** إسْنَادُهُ مُنْقَطِعُ الأوْصَالِ
وَالْمُعْضَلُ السَّاقِطُ مِنْهُ اثْنَانِ*** وَمَا أَتَى مُدَلَّسًا نَوْعَانِ
الأَوَّلُ الإسْقَاطُ لِلشَّيْخِ وَأَنْ*** يَنْقُلَ عَمَّنْ فَوْقَهُ بِعَنْ وَأَنْ
وَالثَّانِ لا يُسْقِطُهُ لَكِنْ يَصِفْ*** أَوْصَافَهُ بِمَا بِهِ لا يَنْعَرِفْ
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فيقول المؤلف رحمه الله في المرسل: (وَمُرْسَلٌ مِنْهُ الصَّحَابِيُّ سَقَطْ).
المرسل في اللغة يراد به المطلق أو الإطلاق، فالمرسل هو المطلق هـٰذا في اللغة، فإذا قلت: أرسلت كذا أي أطلقته.
وأما في الاصطلاح: فقد بينه المؤلف رحمه الله بقوله: (وَمُرْسَلٌ مِنْهُ الصَّحَابِيُّ سَقَطْ) يعني ما سقط منه الصحابي.
وفي هـٰذا التعريف شيءٌ من الإشكال، وذلك أن الصحابي قد يروي عن الصحابي ويسقط الصحابي، كرواية ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وكرواية أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لما لم يدركه أو لم يره، فإنه إذا روى أبو هريرة عن شيء قبل إسلامه يقين أنه إنما نقله عن الصحابة، لا سيما في الوقائع والأخبار والأحداث، كذلك ما ينقله ابن عباس، فإن كثيراً منه ينقله عن الصحابة. وهـٰذا يسمى مرسل الصحابي.
فقوله رحمه الله: (وَمُرْسَلٌ مِنْهُ الصَّحَابِيُّ سَقَطْ) فيه إشكال فيما إذا أسقط الصحابي صحابيّاً أو أرسل الصحابي حديثاً فإنه يدخل في هـٰذا الحد الذي ذكره.
ولذلك استدرك بعض المستدركين على هـٰذه المنظومة فقال:
وَمُرْسَلٌ مِنْهُ الصَّحَابِيُّ سَقَطْ
فهـٰذا يبين لنا معنى المرسل، وهو: ما سقط منه الصحابي بالكلية، فهو ما رفعه التابعي إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، هـٰذا هو المرسل.
بأن يقول سعيد بن المسيب مثلاً: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ. وما أشبه ذلك من التابعين الذين كانوا يرسلون، ومراسيل التابعين على درجات، ليست على درجة واحدة في الصحة والقبول والقوة.
فأوهى المراسيل مراسيل الحسن وعطاء، وأقوى المراسيل مراسيل سعيد بن المسيب رحمه الله.
وهناك خلاف في حد المرسل:
منهم من يقول: إن المرسل ما رفعه التابعي بقيد كونه كبيراً؛ يعني ما رفعه كبار التابعين، أما ما رفعه الصغار من التابعين فإنه لا يسمى مرسلاً.
وقيل في تعريف المرسل أيضاً: إنه ما سقط منه راوٍ، سواء كان في أول الإسناد أو في آخره أو في أوسطه.
لكن هـٰذه الاصطلاحات اصطلاحات بعضها للمحدثين الأوائل، وبعضها اصطلاحات خاصة.
أما الذي جرى عليه أكثرهم وسار عليه أكثر المحدثين، لا سيما المتأخرين منهم، فهو أن المرسل هو: ما رفعه التابعي إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَقُلْ غَرِيبٌ مَا رَوَى رَاوٍ فَقَطْ) فبين لنا ما هو الغريب.
الغريب هو: ما انفرد بروايته راو عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو عمن بعده.
فالغريب أقسام:
منه ما هو غريب مطلق في جميع طبقات السند.
ومنه ما هو غريب نسبي؛ أي غريب في أوله ثم بعد ذلك اشتهر.
وسمي هـٰذا النوع من أنواع الحديث بالغريب لكونه انفرد بروايته راو، فسمي غريباً لكونه لم ينقله غير هـٰذا الراوي.
ومن أمثلة الغريب حديث النية؛ حديث عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الذي فيه قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنما الأعمال بالنيات))([1]). فقد انفرد في أربع طبقات منه راو واحد، فهو غريب في أوله، وهـٰذا من أمثلة الغريب النسبي.
ثم قال المؤلف رحمه الله في بيان المنقطع وهو نوع من أنواع الحديث:
وَكُلُّ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِحَالِ***إسْنَادُهُ مُنْقَطِعُ الأوْصَالِ
هـٰذا بيان لمعنى المنقطع، المنقطع هو: ما لم يتصل إسناده.
هكذا عرفه المؤلف رحمه الله؛ لأنه قال:
وَكُلُّ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِحَالِ***إسْنَادُهُ مُنْقَطِعُ الأوْصَالِ.
يعني كيف ما كان (إسْنَادُهُ مُنْقَطِعُ الأوْصَالِ) فيكون المنقطع هو ما لم يتّصل إسناده، سواء كان هـٰذا الانقطاع في طبقة واحدة وفي موضع واحد أو في مواضع متعددة، سواء كان الانقطاع بسبب سقوط راو أو أكثر.
فعلى تعريف المؤلف رحمه الله يكون المنقطع شاملاً للمرسل، يكون المنقطع شاملاً للمعضل.
وهـٰذا الذي جرى عليه البيقوني رحمه الله في تعريفه للمنقطع.
ولكن الذي عليه الأكثرون من أهل الحديث أن المنقطع: ما سقط منه راو واحد قبل الصحابي في موضع واحد، أو في مواضع.
يعني ما سقط منه راو قبل الصحابي فهو منقطع، سواء كان هذا السقوط متكرراً؛ بمعنى سقط في الطبقة الثانية من رواة الحديث، وفي الطبقة الخامسة مثلاً، فعندنا تكرر السقط؛ لكنه ليس متتابعاً في طبقتين متواليتين إنما في طبقات متفرقة، هـٰذا يسمى المنقطع.
ومن أمثلته ما يرويه الحسن عن الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، ما عدا ما رواه عن سمرة بن جندب في حديث العقيقة فإنه محمول على السماع.
هـٰذا بالنسبة للمنقطع.
إذاً عرفنا التعريف الذي ذكره المؤلف والتعريف الصحيح.
التعريف الذي ذكره المؤلف ما هو؟ يعني معناه كل ما حصل فيه انقطاع في طبقة من طبقاته، يدخل فيه المعضل، ويدخل فيه المرسل، ويدخل فيه المعلق، كل هـٰذا يدخل فيما ذكره المؤلف رحمه الله من تعريف.
وذكرنا التعريف المشهور عند أهل الحديث، نعم سواء كان هـٰذا السّقوط في موضع أو في مواضع، مثاله ما يرويه الحسن عن الصحابة، كما يرويه عن عمر، فإنه لم يدرك عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وما أشبه ذلك.
أيضاً ما يرويه مالك عن ابن عمر، فإنه منقطع؛ لأن مالكاً لم يدرك ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
طيب نواصل قال: (وَالْمُعْضَلُ السَّاقِطُ مِنْهُ اثْنَانِ).
المعضل مأخوذ من العضل أو الإعضال وهو الإعياء والمنع.
وسمي هـٰذا النوع بهذا الاسم لأنه يعيي في معرفة السّاقط.
ما هو المعضل؟ المعضل الحديث الذي سقط من إسناده راويان متواليان؛ يعني في طبقتين أو في منزلتين متواليتين، فهـٰذا من المعضل.
ومثاله ما يرويه مالك عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن مالكاً بينه وبين أبي هريرة طبقتان، فروايته عن الصحابي تعتبر من المعضل.
وهم يذكرون ويمثلون بحديث مشهور، وهو ما رواه مالك عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((للمملوك طعامه وكسوته))([2]). فإن رواية مالك عن الصحابي كروايته عن أبي هريرة تعتبر من المعضل؛ لأن بين مالك وأبي هريرة راويين.
فهـٰذا من أمثلة المعضل، وقد جاء التصريح بالواسطة التي بين مالك وأبي هريرة من طريق آخر.
المراد أن المعضل عرفنا ما هو، هو: ما سقط من إسناده راويان متواليان.
وقول المؤلف رحمه الله: (وَالْمُعْضَلُ السَّاقِطُ مِنْهُ اثْنَانِ) هذا مأخوذ من ألفية العراقي، وهـٰذا يسميه أهل النظم الإيداع والرفد، أن تأخذ بيتاً أو شطر بيت من قصيدة أو منظومة أو شعر لغيرك وتضمنه شعرك أو ما تنظمه.
والمعضل من أي أنواع الحديث؟ من الحديث الضعيف.
كذلك الذي قبله المنقطع من أنواع الحديث الضعيف.
والمرسل الأصل فيه أنه من أنواع الحديث الضعيف.
كل هـٰذه الأنواع من أنواع الحديث الضعيف.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَمَا أَتَى مُدَلَّسًا نَوْعَانِ) هـٰذا فيه ذكر نوع من أنواع الحديث وهو الحديث المدلس.
والحديث المدلس هو ما حصل في إسناده إخفاء، وهـٰذا الإخفاء متفاوت، فسمي هـٰذا الحديث بالحديث المدلَّس لما تضمنه من الإخفاء الذي حصل في بعض رجال الإسناد، والإخفاء والتدليس أنواع.
المؤلف رحمه الله هنا أشار إلىٰ نوعين، فمنهم من يقسم التدليس إلىٰ ثلاثة أنواع، ومنهم من يقسمه إلىٰ نوعين.
والأسهل للمبتدئ أن يعلم أنه ثلاثة أنواع:
النوع الأول:تدليس الإسناد، وتدليس الإسناد هو أن يروي الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه بصيغة توهم أنه سمعه منه، والصيغة المشهورة في مثل هـٰذا أن يقول: (عن) أو: (أنه قال)، أو ما أشبه ذلك من الصيغ التي توهم السامع للحديث أن الراوي قد نقل عن شيخه؛ لأنه سمع منه وأخذ عنه ففي هـٰذه الحال يتوهم السامع بأن هـٰذا الحديث من جملة سماعه.
ومثال ذلك ما ذكر عن سفيان بن عيينة فيما نقله عن الزهري، فقيل له في بعض ما نقله عن الزهري –وهو شيخ له-: أسمعته من الزهري؟ قال: لا، لم أسمعه من الزهري ولا ممن سمعه منه، فإن سفيان بن عيينة حدث كما قال ابن خشرم: كنا عند ابن عيينة فقال: قال الزهري، فقيل له: أحدثك- يعني بهذا الحديث الذي سمعه منه-؟ قال له: لا؛ لم أسمعه من الزهري ولا ممن سمعه منه. فكان إيهاماً بأنه سمعه منه وهو لم يسمعه منه.
هـٰذا التدليس يسمى بتدليس الإسناد، وهـٰذا إذا كان لا يتضمّن إخفاء ما يَطعن في الحديث فإنه لا بأس به.
مع أن التدليس حذر منه العلماء تحذيراً شديداً؛ لما يتضمنه من الإخفاء والغش، فإن من العلماء من يقول: إن التدليس يدخل في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من غشنا فليس منا))([3])حيث إنه لم يحصل بيان؛ لكنه لما كان أنواعاً بعضها أخف من بعض احتمل العلماء التدليس في بعض أنواعه وشددوا في إنكار البعض.
هـٰذا النوع الأول من أنواع التدليس، واسمه تدليس الإسناد.
النوع الثانيمن التدليس: تدليس الشيوخ، وهو أن يذكر الراوي شيخه بما يُعَمِّيهِ على السامع، أو بما لا يُعرف به؛ لكن بما يُعَمِّيهِ على السامع أفضل من قول: بما لا يعرف به؛ وذلك بأن يذكره باسمه وهو مشهور بكنيته، أو يذكره بكنيته وهو مشهور باسمه، أو يذكره باسم ملتبس يشتبه بغيره، فهـٰذا كله يسمى بتدليس الشيوخ؛ لأنه حصل فيه التعمية -تعمية الشيخ-، عدم بيان الراوي المنقول عنه.
ويعمد بعض المحدثين إلىٰ هذا لإيهام السامع بأنه نقل عن فلان المعروف الثقة؛ لكونه وافقه في كنيته أو وافقه في اسمه ويكون سبباً لقبول الحديث أو لقبول الرواية.
وهو نوع مذموم من أنواع التدليس.
أما التدليس الذي لا يتضمن إخفاء عيب، إنما يتضمن التعمية المجردة؛ يعني ليس فيه إخفاء ضعيف أو اشتباه الحديث بحديث القوي وما أشبه ذلك فإنه من النوع المذموم؛ لكونه لا يحصل به البيان الذي يطمئن به السامع للحديث؛ ولكنه لا يعدّ من الأحاديث الضعيفة؛ وإنما يعد من الضعيف إذا كان يتضمن اشتباه الاسم الذي صرّح به باسم راو ثقة والراوي ضعيف، أو بكنية راوٍ مقبول والراوي الذي أخفى اسمه أو دلّس اسمه راوٍ مردود أو ضعيف أو أقل مما أوهم السامع.
هـٰذا التدليس يسمى بتدليس الشيوخ.
التدليس الثالث-وهو شر أنواع التدليس وأقبحها، وهو من أسباب رد الحديث وضعفه- :تدليس التسوية، وهو أن يعمد الراوي إلىٰ شيخ شيخه، فيسقط شيخه إذا كان ضعيفاً، وينقل عن شيخ شيخه، فيعمد الراوي إلىٰ إسقاط من يضعّف بسببه الحديث، حتى يقبل الحديث وحتى ترتفع درجته.
فهـٰذا النوع من أنواع التدليس يُسقط فيه الراوي راوياً أو راويين؛ لكونهما يرد بسببهما الحديث، وينقل عن القوي، ولا يشترط أن يكون سمع منه أو لم يسمع منه. يقول المؤلف رحمه الله:
الأَوَّلُ الإسْقَاطُ لِلشَّيْخِ وَأَنْ***يَنْقُلَ عَمَّنْ فَوْقَهُ بِعَنْ وَأَنْ
(الأَوَّلُ الإسْقَاطُ لِلشَّيْخِ وَأَنْيَنْقُلَ عَمَّنْ فَوْقَهُ) أي عمن فوق شيخه (بِعَنْ وَأَنْ) وهـٰذا الإسقاط من أي النوعين؟ النوع الأول أو الثاني؟ هـٰذا تدليس التسوية أو تدليس الإسناد أو تدليس الشيوخ؟ هـٰذا تدليس التسوية؛ لأنه يسقط الراوي، يقول:
الأَوَّلُ الإسْقَاطُ لِلشَّيْخِ وَأَنْ***يَنْقُلَ عَمَّنْ فَوْقَهُ بِعَنْ وَأَنْ
هـٰذا هو تدليس التسوية.
وهـٰذا اشتهر به بعض الرواة كبقية بن الوليد، فإنه اشتهر به، وهو أنه كان يروي حديثاً عن ضعيف بين ثقتين لقي أحدهما الآخر، فيسقط الضعيف، و لا يلزم هـٰذا أن يكون عن شيخه، إنما ولو كان عن شيوخ شيخه.
فيأتي إلىٰ شيخين قويين بينهما ضعيف، فيسقط الضعيف الذي بينهما، ويصل السند؛ لكن بشرط أن يكون أحدهما سمع من الآخر، فإن لم يكن سمع فيكون الحديث منقطعاً؛ لكنه لا يأتي بحال يتوهم بها السامع أو يتبين بها الانقطاع.
لكن يأتي إلىٰ راو مثلاً يروي عمرو عن بكر عن خالد عن أبي هريرة على سبيل المثال، فيسقط خالداً لكونه ضعيفاً، ويوهم بأن عمراً نقله عن بكر، وهـٰذا يسمى بتدليس التسوية.
واشتهر به بقية بن الوليد والوليد بن مسلم، فإنه ممن اشتهر عنهما هـٰذا النوع من التدليس.
ولذلك إذا دلس بقية بن الوليد أو الوليد بن مسلم فإنه لا يقبل حديثه، لماذا؟ لأنه يتوقّع منه أن يكون قد دلّس بهـٰذه الطريقة، وهو أن يأتي إلىٰ ضعيف بين قويين سمع أحدهما من الآخر فيسقط الضعيف، ويوهم بأن الرواية إنما هي عن الشيخ الآخر القوي، هـٰذا بالنسبة لما ذكره المؤلف رحمه الله في التدليس، ولاحظ أن المؤلف رحمه الله قال:
الأَوَّلُ الإسْقَاطُ لِلشَّيْخِ وَأَنْ***يَنْقُلَ عَمَّنْ فَوْقَهُ بِعَنْ وَأَنْ.
بيّن لنا صيغة أداء مثل هـٰذا النوع من الأحاديث، يكون صيغة الأداء: فلان عن فلان، أو يقول: روى فلان أن فلاناً قال، أو أن فلاناً ذكر.
فهـٰذا كله يدخل في التدليس.
قال رحمه الله:
وَالثَّانِ لا يُسْقِطُهُ لَكِنْ يَصِفْ***أَوْصَافَهُ بِمَا بِهِ لا يَنْعَرِفْ
(وَالثَّانِ لا يُسْقِطُهُ) يعني ما يسقط الشيخ (لَكِنْ يَصِفْأَوْصَافَهُ بِمَا بِهِ لا يَنْعَرِفْ) يصفه بأوصاف لا تعرف، بأن يكنيه بغير كنيته المشهورة أو يسميه بغير اسمه المشهور، أو يصفه بغير وصفه المعروف.
وقد استدرك بعض المستدركين -وهو الشيخ عبد الستار- على هـٰذا فقال:
"والثالث لا يسقطه لكن يصف"
فجعله النوع الثالث؛ ولكن الصحيح أنه لا حاجة لمثل هذا الاستدراك؛ لأن المؤلف رحمه الله ذكر نوعين من أنواع التدليس: تدليس التَّسوية وتدليس الشيوخ.
ثم قال رحمه الله :
وَمَا يُخَالِفْ ثِقَةٌ فِيْهِ الْمَلا***فَالشَّاذُ وَالْمَقْلُوْبُ قِسْمَانِ تَلا
أسرعنا رغبة في تتميم المتن، وأيضاً قال ليبعض الإخوان:إننا لا نريد التفصيل؛ لأن أكثر الحضور أول مرة يقرؤون في المصطلح، فرغبوا أن يكون الشرح فيه نوع سهولة:
وَمَا يُخَالِفْ ثِقَةٌ فِيْهِ الْمَلا***فَالشَّاذُ وَالْمَقْلُوْبُ قِسْمَانِ تَلا
طيب هـٰذا البيت تضمن نوعين من أنواع الحديث:
النوع الأول: (الشاذ) عرفه المؤلف قال:
وَمَا يُخَالِفْ ثِقَةٌ فِيْهِ الْمَلا***فَالشَّاذُ ..................
يعني فهو الشاذ.
وقد تقدم لنا تعريف الشاذ أين؟ مر معنا الشاذ في أي مكان؟ في تعريف الحديث الصحيح؛ لأن الحديث الصحيح ما يرويه العدل الضابط عن مثله إلىٰ منتهاه من غير شذوذ ولا علة.
تكلمنا على الشذوذ في وقته، وقلنا: إن الشاذ يصدق على مخالفة الثقة من هو أوثق منه، أو مخالفة الثقة من هو أكثر منه عدداً، أو أن يروي الرّاوي ما لا يتحمّل منه. وذكرنا أن هـٰذه كلها تندرج تحت الشاذ.
فإذا روى الراوي الذي لا يتحمل انفراده رواية لم يروها غيره فإنه يكون من جملة الشاذ؛ لكن الذي جرى عليه الاصطلاح في كثير من كلام أهل المصطلح أن الشاذ هو ما خالف فيه الثقة من هو أوثق منه.
وهـٰذه المخالفة في الحقيقة ليست في جميع مواردها تكون شاذة، أي ليس كل مخالفة يخالف فيها الراوي من هو أوثق منه يكون شاذّاً؛ بل بعض هـٰذه المخالفات تكون من باب زيادة الثقة التي تقبل من الراوي.
ولذلك عِلم الشاذ والعلل فيما يتعلق بالأحاديث من أدق العلوم التي تحتاج إلىٰ بصيرة ونفاذ بصر وقوة علم ورسوخ قدم؛ للتمييز بين ما يكون شاذّاً وبين ما يكون من زيادة الثقة التي تقبل وهي معتبرة ويؤخذ فيها الزائد كالزائد في الروايات.
إذاً الشاذ هو ما رواه الثقة مخالفاً من هو أوثق منه، أو من هو أكثر منه عدداً.
وانظر إلىٰ قولنا: (مخالف) حتى يخرج ما يمكن أن يكون زيادة من زيادات الثقة.
فمثلاً على سبيل المثال ما رواه البخاري وأصحاب السنن والإمام أحمد من حديث جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في دعاء الأذان: ((من سمع المؤذن فليقل: اللهم رب هـٰذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته)). هـٰذا هو الذي رواه البخاري([4])، ورواه الإمام أحمد([5])، وأصحاب السنن([6]). زاد البيهقي([7]): ((إنك لا تخلف الميعاد)). هـٰذه الزيادة:
من العلماء من قال: إنها شاذة،لماذا؟ لأنها خالفت رواية الثقات.
ومنهم من قال: إنها من باب زيادة الثقة، فتؤخذ وتقبل هـٰذه الزيادة، لا سيما أن إسنادها صحيح.
فمثل هـٰذا يحتاج إلىٰ نظر:
أولاً: هل هـٰذه مما خالف فيها الثقة من هو أوثق منه؟ خالف بزيادة ولم يخالف بنقل يتعارض مع السابق؛ يعني مع من هو أوثق في الرواية.
فهـٰذا مما اختلف فيه العلماء على قولين:
كثير من العلماء ذهبوا إلىٰ أن هـٰذه الزيادة شاذة؛ لمخالفة الثقة من هو أوثق منه.
ذهب بعضهم إلىٰ أن هـٰذه الزيادة مقبولة؛ لصحة إسنادها ولأنها لا تخالف في الحقيقة، ومنهم شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله، فإنه يعتد بهذه الزيادة، ويرى أنه لا بأس أن يقول القائل في الدعاء: ((اللهم رب هـٰذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد)).
فالمسألة في هـٰذا مُحْتَمِلَة.
وَمَا يُخَالِفْ ثِقَةٌ فِيْهِ الْمَلا***فَالشَّاذُ ..................
النوع الثاني الذي ذكره المؤلف رحمه الله في هـٰذا البيت قال: (وَالْمَقْلُوْبُ قِسْمَانِ تَلا) المقلوب قسمان، والمقلوب اختلاط في الرواية: بتقديم ما هو مؤخر، وتأخير ما هو مقدم. هـٰذا القلب، القلب تقديم وتأخير إما في السند وإما في المتن.
وهـٰذا لا يعلمه إلا أهل البصر والإدراك والمعرفة من أئمة هـٰذا الشأن.
يقول رحمه الله في بيان المقلوب: (وَالْمَقْلُوْبُ قِسْمَانِ تَلا) تلا الشاذ في النظم، وهما:
إبْدَالُ رَاوٍ مَا بِرَاوٍ قِسْمُ***وَقَلْبُ إسْنَادٍ لِمَتْنٍ قِسْمُ
ذكر المؤلف رحمه الله نوعين من أنواع المقلوب:
النوع الأول: ما يتعلق بالإسناد والرواية.
والنوع الثاني: ما يتعلق بالمتن.
النوع الأول: (إبْدَالُ رَاوٍ مَا بِرَاوٍ قِسْمُ). هـٰذا القسم الأول، وهو أن يُبدِل راوياً براو، وهـٰذا أفحش أنواع القلب أن يبدل راوياً براو، وهـٰذا فيه إشكال؛ لأنه قد يبدل راوياً ضعيفاً واهي الرواية براو قوي، فيكون ذلك تصحيحاً لما هو ضعيف.
ومن القلب الذي يكون في الإسناد تقديم وتأخير في الأسماء:
ككعب بن مرة يقول فيه: مرة بن كعب، وكلاهما ممن له رواية.
وسعد بن سنان، سنان بن سعد، وكلاهما ممن له رواية.
فهـٰذا نوع قلب في الإسناد؛ لكن هـٰذا أسهل من الأول؛ لأنه ناشئ عن خطأ، وإذا كان كلا الراويين ثقة فالأمر فيه سعة.
لكن أن يبدل راوياً براو آخر فهـٰذا من القلب القبيح الذي يوجب رد الحديث؛ لما فيه من الوهن.
ومن أنواع قلب الإسناد المتعلق بالمتن أن يضع سنداً لمتن؛ يعني يأتي بمتن ويقلب ويضع له إسناداً غير الإسناد الذي نقل به، وهـٰذا أيضاً خطير؛ لما يترتب عليه من تصحيح الضعيف أو تضعيف الصحيح، كل هـٰذا مما يتعلق بالقلب الذي في الإسناد.
القلب الذي في المتن خاصة وليس له صلة بالإسناد هو: أن يقدم في الرواية ويؤخر، مثاله ما رواه السبعة([8])من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في النفقة وإخفائها، ففيه: ((أن تنفق شماله ما لا تعلم يمينه))([9]). والرواية الصحيحة: ((أن تنفق يمينه ما لا تعلم شماله))([10]). فهـٰذا قلب لا شك؛ لأن الأصل في الأخذ والعطاء لليمين لا للشمال، فهـٰذا من القلب الذي وقع في المتن.
ومنه أيضاً حديث: ((إن الله ينشئ أقواماً فيدخلهم النار)). هـٰذا انقلب على راويه، والصحيح الذي جزم به الأئمة من أهل الحديث: ((أن الله ينشئ خلقاً فيدخلهم الجنة))([11]). لأن الله عز وجل لا يمكن أن يدخل النار أحداً بلا نذارة وإرسال: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)﴾([12]).فهـٰذا مثال للقلب الذي يقع في المتن.
فتلخص لنا أن القلب منه ما يكون في الإسناد وهو أنواع، ومنه ما يكون في المتن وضربنا له مثلاً، ومنه أيضاً ما يتعلق بالأحكام العملية، القلب الواقع في حديث أبي هريرة في صفة البروك: ((لا يبرك أحدكم كما يبرك البعير، وليسجد على يديه ثم ركبتيه))([13]). فهـٰذا مما قيل فيه: إنه منقلب، وإن الحديث الأصل فيه: وليسجد على ركبتيه ثم يديه.
([1])البخاري:كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... حديث رقم (1).
مسلم: كتاب الإمارة باب قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما الأعمال بالنية وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، حديث رقم (1907).
([2]) مسلم: كتاب الإيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس، حديث رقم (1662).
([3]) مسلم: كتاب الإيمان، باب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من غشنا فليس منا))، حديث رقم (101).
([4]) البخاري: كتاب الأذان، باب الدعاء عند النداء، حديث رقم (614).
([5]) مسند أحمد (تحقيق أحمد شاكر وحمزة الزين)، حديث رقم (14753).
([6]) سنن الترمذي: كتاب مواقيت الصلاة، باب ما يقول الرجل إذا أذن المؤذن من الدعاء، حديث رقم (211).
سنن أبي داوود: كتاب الصلاة، باب ما جاء في الدعاء عند الأذان، حديث رقم (529).
سنن النسائي: كتاب الأذان، باب الدعاء عند الأذان، حديث رقم (680).
سنن ابن ماجه: كتاب الأذان والسنة فيها، باب ما يقال إذا أذن المؤذن، حديث رقم (722).
([7]) سنن البيهقي: كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا فرغ من ذلك (المؤذن)، حديث رقم (1933).
([8]) رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي من السبعة. وانظر الإرواء (887).
([9]) مسلم: كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، حديث رقم (1031).
([10]) البخاري: كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، حديث رقم (660).
([11]) البخاري: كتاب التفسير، باب قوله: ﴿وتقول هل من مزيد﴾، حديث رقم (4850).
مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث رقم (2846، 2848).
([12]) سورة : الإسراء (15).
([13]) سنن أبي داوود: كتاب الصلاة، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه، حديث رقم (840)، قال الشيخ الألباني: صحيح.
ونقل في الإرواء أن إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات.