بسم الله الرحمـٰن الرحيم
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
وَالْفَرْدُ مَا قَيَّدْتَه بِثِقَةِ*** أَوْ جَمْعٍ أوْ قَصْرٍ عَلَى رِوَايَةِ
وَمَا بِعِلَّةٍ غُمُوضٍ أَوْ خَفَا***مُعَلَّلٌ عِنْدَهُمُ قَدْ عُرِفَا
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلىٰ يوم الدين.
أما بعد:
فنواصل ما ذكره المؤلف رحمه الله في هـٰذه المنظومة من أنواع الحديث.
يقول رحمه الله:
وَالْفَرْدُ مَا قَيَّدْتَه بِثِقَةِ*** أَوْ جَمْعٍ أوْ قَصْرٍ عَلَى رِوَايَةِ
هـٰذا هو تعريف الفرد، وهو نوع من أنواع الحديث، يفهم من إطلاق هـٰذا الوصف على هـٰذا النوع أنه حديث انفرد به رواته أو راويه عن غيرهم.
فالفرد هو: ما استقل به راويه عن غيره، أو استقلت به جهة انفردت به عن غيرها، هـٰذا ما يفهم من هـٰذا الاسم.
والفرد ينقسم إلىٰ أقسام: فرد مطلق وفرد نسبي.
الفرد المطلق: هو أن ينفرد راو واحد عن غيره من رواة الحديث ونقلته فيما روى ونقل. ولا فرق في موضع الانفراد، هل هو في أول السند أو آخره، هل هو في الصحابي أو فيمن دونه، هـٰذا يسمى الفرد المطلق.
ومثاله الحاضر في الذهن حديث عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في النية: ((إنما الأعمال بالنيات)). فقد انفرد به عن سائر الصحابة في النقل، وانفرد عنه علقمة بن وقاص في روايته، وكذلك انفرد محمد بن إبراهيم التيمي، كذلك انفرد عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، فهنا الانفراد في عدة طبقات.
قد يكون الانفراد في طبقة واحدة، وقد يكون في أكثر من طبقة. هـٰذا يسمى الفرد المطلق.
وهناك انفراد نسبي، وهو: أن ينفرد الراوي لا بأصل الرواية إنما في الرّواية عن شيخ من الشيوخ، فينفرد بالنقل عنه دون غيره، مع أنّ الحديث جاء من طرق أخرى؛ لكن من هـٰذا الطريق لم ينقله إلا هـٰذا الراوي، ويسمى هـٰذا فرداً، وهو الأكثر في الاستعمال.
ولا يعد هـٰذا طعناً في الحديث، سواء كان فرداً مطلقاً أو فرداً نسبيّاً.
من أنواع الفرد وأقسامه: انفراد جهة من الجهات برواية الحديث، كأن ينفرد أهل بلد برواية حديث من الأحاديث.
مثل ما ذكرنا سابقاً في حديث أبي ذر: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً))([1])في الحديث الإلهي، هذا انفرد به أهل الشام، فهو شامي في جميع رواته.
كذلك من الأمثلة حديث عائشة في صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سهل بن بيضاء في المسجد، فقد انفرد بهذا الحديث أهل المدينة، فالحديث مدني في جميع طبقاته، هـٰذا مثال من الأمثلة التي يذكرها العلماء لانفراد جهة من الجهات بالحديث.
ذكر المؤلف رحمه الله في الفرد الصور الثلاث كلها التي ذكرناها قبل قليل: الفرد المطلق، والفرد النسبي، قال:
وَالْفَرْدُ مَا قَيَّدْتَه بِثِقَةِ
يعني ما انفرد بروايته ثقة من الثقات في أي طبقة من الطبقات، سواء في طبقة أو في طبقتين أو في ثلاث أو في أربع، المهم أنه في طبقة انفرد راو عن كل أحد بروايته.
الثاني الذي ذكره المؤلف رحمه الله: انفراد الجمع، وهو انفراد أهل الجهات و البلدان، بأن ينفرد أهل بلد برواية فقال: (أَوْ جَمْعٍ) هنا انفرد جمع؛ لكن انفرادهم نسبي أو مطلق؟ انفراد نسبي، حيث انفرد أهل الشام برواية حديث أبي ذر ، وانفرد أهل المدينة برواية حديث عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها في المثال الذي ذكرناه قبل قليل.
ذكر المؤلف رحمه الله النوع الثالث من الانفراد، وهو مندرج في الانفراد النسبي (اوْ قَصْرٍ عَلَى رَاوِيه([2])) يعني لم يروه عن فلان إلا فلان، فهو أن ينفرد راو من الرواة عن شيخ من الشيوخ، مع أنه قد جاء الحديث من رواية غيره؛ لكن هـٰذا الطريق انفرد به هـٰذا الراوي، وكثيراً ما يشير الترمذي إلىٰ هـٰذا فيقول: هـٰذا الحديث لا نعرفه من هـٰذا الوجه إلا من حديث فلان. فهـٰذا مثال للفرد المطلق أو الفرد النسبي؟ الفرد النسبي.
من أشهر من ألف في الفرد الدارقطني رحمه الله، فقد ألف كتاباً أسماه الأفراد، وممن ألف فيه أيضاً ابن حبان والنسائي.
ومن أمثلة الأفراد التي تستقل بالرواية عن شيخ واحد ما ألفه الدارقطني في غرائب مالك، وله عن غير مالك في غرائب الزهري وغيره.
المهم غرائب مالك هل هي الأحاديث التي انفرد بها مالك؟ لا، غرائب مالك هي الأحاديث التي انفرد بنقلها عن مالك راوٍ واحد، انفرد راو واحد في نقلها عن الإمام مالك رحمه الله، فأضاف الغرائب إلىٰ مالك؛ لأن الرواة عنه انفردوا بما رووه، لا أنه هو الذي انفرد رحمه الله.
أيضاً من المؤلفات في انفراد أهل الجهات فيما رووا: ما كتبه أبو داوود رحمه الله في رسالة مختصرة سماها (السنن الني تفرد بها أهل كل بلد)، فهـٰذا مثال لما ألف في هذا الشأن .
هل هـٰذا مما يفيد في الحديث صحة أوضعفاً؟ الجواب: قد يفيد صحة وضعفاً وقد لا يفيد، فالفرد لا يلزم منه الضعف، لا يلزم أن يكون الفرد ضعيفاً.
قال رحمه الله:
وَمَا بِعِلَّةٍ غُمُوضٍ أَوْ خَفَا***مُعَلَّلٌ عِنْدَهُمُ قَدْ عُرِفَا. هـٰذا نوع من أنواع الحديث، وهو الحديث المعلل، أو المعَل، أو المعلول، كل هـٰذه الأسماء تطلق على هـٰذا النوع من أنواع الأحاديث، وهو من أنواع الحديث الضعيف، وهو من غوامض العلم وخَفِيِّهِ، وذلك أن التوصل إليه يحتاج إلىٰ رسوخ قدم في هـٰذا الشأن؛ معرفة بالرواة ومعرفة بالمرويات، فالحكم على الأحاديث بالعلة لا يتجاسر عليه إلا أهل الرسوخ في العلم.
ومن دخل هـٰذا المجال مع ضعف البضاعة وقلتها فإنه قد أدخل نفسَه فيما لا يُحمد؛ لأنّه من الدخول في العلم الذي يخفى على كثير من الناس؛ ولذلك الدارقطني مع أنه من الأئمة في هـٰذا يقول: علمنا في علم من قبلنا في هـٰذا الشأن، إذا قارنا علمنا في علم من قبلنا في هـٰذا الشأن لم نجد شيئاً، مع أنه رحمه الله من أعظم المؤلفين في العلل، حتى إن كتابه (كتاب العلل) من أشهر المؤلفات في هـٰذا الفن.
المُعَل أو المعلول أو المعلل هو: الحديث الذي ظاهره السلامة والصحة؛ إلا أن فيه علة خفية غامضة تقدح في صحته.
إذاً هو عند النظر الأول حديث صحيح؛ لكن أهل السَّبْر والنظر، أهل المعرفة بالأثر تأملوا في هـٰذا المروي المنقول إما في سنده وإما في متنه، فوجدوا فيه ما يوجب رده وعدم قبوله.
وأمثلة هـٰذا عند العلماء قد لا يُتّفق عليها؛ لأن العلماء يجتهدون في هـٰذه الأحاديث فينظرون فيها، فقد يتبين لعالم من العلماء علة في الحديث يضعّف بها الحديث تخفى على غيره، بينما غيره من العلماء يصحح هـٰذا الحديث؛ لكن هـٰذا العلم من أشكل أنواع العلم فيما يتعلق بعلم الحديث، أي من أصعبه وأشده إشكالاً، السبب أنه يتطرّق إلىٰ رواية الثقات، فعلم العلل أكثر ما يتطرّق إلىٰ الأحاديث التي رواها الثقات.
أما الأحاديث التي رواها الضعفاء فهي واضحة، ما تحتاج إلىٰ سبر ونظر ودقة فقه وعلم فيما يتعلق بالرواية؛ لكن الحديث المعل أو المعلول النظر في أصله إلىٰ أحاديث أهل الثقة والضبط والحفظ والإتقان؛ لتمييز ما دخل عليهم من وهم، أو ما دخل في راويتهم من دخن.
ولذلك يقع الخلاف في التصحيح والتضعيف في هـٰذا في شيء كثير مما يمثل به ويذكر.
والناظر إلىٰ كلام العلماء قد يستغرب تضعيف إمام من الأئمة أو عالم من العلماء لحديث ظاهره الصحة؛ لكن ينبغي أن نذكر لمثل هـٰذا ما ذكره عبد الرحمـٰن بن مهدي وأبو حاتم حيث قالا رحمهما الله: معرفتنا بهذا كهانة عند الجاهل؛ يعني معرفتنا بالحديث المعلول من غيره كهانة في الحقيقة عند الجاهل؛ لأن الجاهل لا يدرك لماذا ضعف العالم هـٰذا الحديث ولماذا أعله؟ ولماذا رده مع أن ظاهره الصحة؟
مثاله تماماً ما يقع عند الإنسان إذا ذهب إلىٰ الصاغة أصحاب الصيارف والصرف الذين يميزون جيد النقد من رديئه، تذهب له بقطعتين معدنيتين متساويتين في المظهر والشكل، فيقول: هـٰذا ذهب وهـٰذا نحاس، هـٰذا ذهب خالص وهـٰذا مغشوش، ولا تستطيع أن ترد قوله، السبب:أنه عرف ذلك بالخبرة، وقد لا يتمكن من إيصال سبب التمييز، هـٰذا علم لا يتلقى بالخبر، إنما يتلقى بالتجربة والمراس وإطالة النظر في هـٰذا الشأن.
فكذلك الأحاديث عاش لها الأئمة النقّاد فميزوها، لا سيما النقاد الذين هم في عصر الرواية، وعصر الرواية ينتهي في أوائل القرن الرابع الهجري، هٰؤلاء إذا سمعت منهم كلاماً في تعليل حديث ورده إياك أن تستهين به وتغفل عنه؛ بل ينبغي لك أن تفرح به وأن تنظر إليه وأن تضعه موضع الاعتبار، فإن كلامهم في العلل قد لا تقف عليه في كلام غيرهم.
من المؤلفات في هـٰذا الشأن، أبرز من ألف فيه شيخ البخاري: علي بن المديني رحمه الله الذي قال فيه البخاري: ما استصغرت نفسي بين يدي أحد من أهل العلم كما استصغرتها بين يدي علي بن المديني رحمه الله، وذلك لدقة فقهه، له كتاب اسمه العلل؛ إلا أن هـٰذا الكتاب أكثره مفقود، لا يوجد منه إلا الشيء القليل وقد طبع مرات، وهـٰذا الشيء ينمّ الموجود منه ويظهر به دقة علم هـٰذا العالم وعظيم فقهه في هـٰذا الشأن وفي هـٰذا الباب من أبواب العلم.
ممن كتب في هـٰذا أيضاً وألف الدارقطني رحمه الله في كتابه العلل، وكذلك الترمذي، ومن أصحاب المسانيد البزار، فإنه ذكر في مسنده شيئاً كثيراً من الأحاديث وبين عللها.
العلة كما ذكرنا يمكن أن تكون في السند ويمكن أن تكون في المتن. نعم.
وَذُو اخْتِلافِ سَنَدٍ أَوْ مَتْنِ***مُضْطَرِبٌ عِنْدَ أُهَيْلِ الْفَنِّ.
وَالْمُدْرَجَاتُ في الْحَدِيْثِ مَا أَتَتْ***مِنْ بَعْضِ أَلْفَاظِ الرُّواةِ اتَّصَلَتْ.
طيب يقول المؤلف رحمه الله في هـٰذا النوع من أنواع الحديث:
وَذُو اخْتِلافٍ سَنَدٍ أَوْ مَتْنِ***مُضْطَرِبٌ ....................
ذكر المؤلف رحمه الله في هـٰذا الشطر وبعض الشطر نوعاً من الحديث الحديث يسمى المضطرب، وهو من أنواع الأحاديث المعلة؛ لكنه اختص بهذا الاسم لكون العلة فيه الاضطراب، والمعلول والمضطرب من أنواع الحديث الضعيف؛ فهي من جملة الأحاديث الضعيفة.
يقول: (وَذُو اخْتِلافٍ)، (ذُو) أي صاحب (اخْتِلافٍسَنَدٍ أَوْ مَتْنِ)يعني سواء كان الاختلاف في السند أو كان الاختلاف في المتن (مُضْطَرِبٌ) أي هو المضطرب، فالمضطرب هو: ما وقع الخلاف في سنده أو متنه.
قال المؤلف رحمه الله:
وَذُو اخْتِلافٍِ سَنَدٍ أَوْ مَتْنِ***مُضْطَرِبٌ عِنْدَ أُهَيْلِ الْفَنِّ
من أمثلة الحديث المضطرب حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الذي رواه الإمام أحمد في السترة، حيث قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إذا صلى أحدكم فليجعل شيئاً تلقاء وجهه)). ثم في آخر الحديث قال: ((فإذا لم يجد عصاً ينصبها بين يديه فليخط خطّاً))([3]).فإنه قد وقع اضطراب في إسناده، على أن بعض أهل الحديث يقول: ومن قال: إنه مضطرب فقد أخطأ، فنفى الاضطراب.
والسبب في النفي والإثبات اختلافهم في الاجتهاد، هل هـٰذا مضطرب أو ليس مضطرباً؟ هـٰذا سبب الاضطراب فيه اختلافهم على إسماعيل بن أمية وهو أحد رواة الحديث، فقد اختلف عليه.
ومن أمثلة المضطرب في المتن ما جاء في جامع الترمذي([4])وغيره أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الزكاة؟ فقال: ((إن في المال حقّاً سوى الزكاة)). وفي رواية أخرى هي رواية ابن ماجه([5])قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ليس في المال حق سوى الزكاة)). هكذا مثّل بعض أهل العلم للاضطراب في المتن، حيث نقل بعض الرواة أنه ليس في المال حق سوى الزكاة، ونقل آخرون أن في المال حقّاً سوى الزكاة؛ ولكن بعضهم انتقد هـٰذا التمثيل، وقال: إنه قد صح إسناد: ((ليس في المال حق سوى الزكاة))، وأما حديث: ((إن في المال حقّاً سوى الزكاة)) حديث ضعيف.
وعلى كل حال هـٰذا مثال بغض النظر عن الصحة والضعف، والإشكال في الأمثلة مثل ما ذكرنا قبل قليل أنها لا تستقيم عند كل أحد، والمقصود من التمثيل هو التبيين وليس المناقشة في صحة المثال أو عدمه؛ لأنه لا يخلو مثال من الأمثلة التي يمثل بها أهل الاصطلاح وأهل الفن من أن يدخل عليهم داخل في مناقشة هـٰذا المثال.
ومن الأمثلة التي سمعناها من بعض شيوخنا: النقاش في المثال ليس من شيم الرجال. على أن هـٰذا يمكن أن يُناقش، هـٰذه المقولة يمكن أن تناقش،إن كانت المناقشة في أصل التمثيل فصحيح، وأما إن كانت المناقشة في صدق انطباق القاعدة على المثال فهـٰذه قد يناقش فيها؛ لأنه قد يقعّد الإنسان قاعدة ويمثل فتكون هـٰذه القاعدة ناشئة عن هـٰذا المثال ويكون المثال خطأ، فإذا انهدم المثال انهدمت القاعدة؛ لكن إذا كانت القاعدة مستقرة وصحيحة ثم مثل بمثال؛ لكن هـٰذا المثال ما يركب، فيه إشكال، فإذا كانت القاعدة مستقرة فلا تناقش في المثال؛ لأن النقاش في المثال في مثل هـٰذا ليس من شيم الرجال، فيفصل في هـٰذا المثل المذكور.
قال المؤلف رحمه الله:
وَالْمُدْرَجَاتُ في الْحَدِيْثِ مَا أَتَتْ***مِنْ بَعْضِ أَلْفَاظِ الرُّواةِ اتَّصَلَتْ
المدرجات جمع مدرج، وهو نوع من أنواع الحديث.
والمدرج هو: الزيادة في لفظ الحديث أو متنه من بعض الرواة التي يتوّهم السامع أنها من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو أنها من إسناد الحديث.
فُهم من هـٰذا التعريف أنّ الإدراج يكون في السند ويكون في المتن؛ لكن الإدراج في السند قليل؛ غالب من يتكلم عن الإدراج يتكلم عن الإدراج الذي يكون في المتن، وهو أن يزيد الراوي أو بعض الرواة -سواء كان الصحابي أو من دونه- زيادة في الحديث يتوهم السّامع أنها من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي ليست كذلك.
ويتبين هـٰذا، كيف يتبين أن هـٰذه الزيادة ليست من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ يتبين هـٰذا من الروايات الأخرى، وقد يتبين هـٰذا من الزيادة المذكورة، فإن الزّيادة قد تُبيّن أنه ليس من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كأن يذكر الرّاوي شيئاً لا يمكن أن يصدق على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مثاله ما رواه غير واحد من أصحاب السنن والمسانيد أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((إن للعبد المملوك أجرين)). ثم قال: (ولولا الجهاد في سبيل الله، والحج، وبر أمي لتمنيت أن أموت مملوكاً)([6]).هكذا جاء الحديث، هـٰذا مثال للمدرج، كيف تبين الإدراج في هـٰذا الحديث؟ تبين من سياق الحديث، لا يمكن أن يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ولولا الجهاد في سبيل الله، والحج، وبر أمي)) لأن أمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماتت وهو صغير، فلا يمكن أن يكون هذا من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل هو من قول غيره، فهـٰذا مثال للمدرج الذي تبين وجه إدراجه من أي شيء؟ من أن اللفظ لا يمكن أن يكون صادراً عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذاً هـٰذا طريق يتبين به الإدراج: أن يستحيل أن يكون قد قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثاني من الطرق: أن يتبين من الروايات الأخرى أنه ليس من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثاله حديث: (أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار)([7]).فهـٰذا الحديث قد رواه أبو هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بهذا اللفظ،([8])ورواه غيره: روته عائشة([9])،ورواه عبد الله بن عمرو([10])،وليس فيه: (أسبغوا الوضوء). فتبين من الروايات الأخرى أن قول الراوي: (أسبغوا الوضوء) ليس من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.([11])
أيضاً يمكن أن يتبين الإدراج من طريق ثالث، وهو: أن يصرّح الراوي بأن هـٰذا من عنده، أي من قوله وليس من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وبه يُعلم أن الإدراج زيادة في المتن يتوهم السامع أنها من لفظ الحديث أو أصله؛ لكن يتبين بالطرق التي يتبيّن بها الزيادة أنها ليست من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهـٰذا النوع من الحديث يشتبه بزيادة الثقة، ما يعرف بزيادة الثقة؛ وهو: أن يروي الثقة حديثاً يزيد فيه ما ليس في رواية غيره؛ ولكن الذي يميز بين هـٰذا وذاك إنما هم أهل الاختصاص والفن الذين يعرفون ويميزون بين أقوال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره.
هـٰذا الفن من الفنون اهتم به العلماء رحمهم الله وبيّنوا فيه الأحاديث المدرجة من غيرها.
من أبرز من كتب في ذلك الخطيب البغدادي رحمه الله في كتاب سماه (فصل الوصل لما أدرج في النقل).
وأبرز وأشهر من ينقل عنه الإدراج الزهري رحمه الله، محمد بن شهاب الزهري، فإنه كثير الإدراج، كذلك عبد الله بن وهب.
أما من الصحابة فأبو هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ومن أمثلة إدراج أبي هريرة الحديث المشهور في الغرة والتحجيل، حيث قال في آخر الحديث: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)([12]). فإن هـٰذا من إدراج أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كما قال جماعة من المحدثين.
المراد أن الإدراج يكون من الصحابي ويكون ممن دون الصحابي.
قد يكون الإدراج تفسيراً لمعنى لفظ جاء في الحديث، وقد يكون الإدراج ناشئاً عن فهم الراوي، فيزيد ما هو من فهمه فيظن السامع أن ذلك من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ.
من أمثلة الإدراج المشهورة ما رواه الإمام مسلم([13])في قصة مجيء أبي قحافة إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث جيء به إليه ورأسه كالثغامة([14])أبيض، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((غيروا هـٰذا البياض)). وفي رواية: ((غيروه وجنبوه السواد)). قال جماعة من المحدثين: إن قوله: ((وجنبوه السواد)) مدرج من كلام الزهري، وهو الذي جعل كثيراً من المحدثين يذهبون إلىٰ أن الصبغ بالسواد لا بأس به وليس محرماً؛ لأن لفظة: ((وجنبوه السواد)) من إدراج الزهري، هكذا قال جماعة من العلماء في التمثيل لمدرجات الزهري.
وَما رَوَى كُلُّ قَرِينٍ عَنْ أَخِهْ***مُدَبَّجٌ فَاعْرِفْهُ حَقًّا وَانْتَخِهْ
مُتَّفِقٌ لَفْظًا وَخَطّاً مُتَّفِقْ***وَضِدُّهُ فِيْمَا ذَكَرْنَا الْمُفْتَرِقْ
يقول رحمه الله في بيان هـٰذا النوع، هـٰذا النّوع وما بعده هو من مُلح العلم، وليس من الأساسيات التي ينبغي أن تُضبط؛ لكن ذكرها المؤلف رحمه الله ونذكرها حتى يعرفها الطالب، يقول:
وَما رَوَى كُلُّ قَرِيْنٍ عَنْ أَخِهْ***مُدَبَّجٌ .......................
عرّف الحديث المدبج بأنه: ما رواه كل قرين عن أخه يعني عن أخيه عن قرينه، والقرين هنا هو ما اتفقت مرتبته.
فإذا روى الصحابي عن الصحابي يكون هـٰذا مدبجاً.
ما رواه التابعي عن التابعي يكون هـٰذا أيضاً مدبجاً.
ما رواه تابع التابعي عن تابع التابعي يكون مدبجاً.
وهـٰذا من ملح العلم، لا يتوقف عليه صحة ولا ضعف.
من أشهر مدبجات الصحابة ما يرويه أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن عائشة، وكذلك رواية عائشة عنه، فإنها من أمثلة المدبج، وابن عمر عن عمر من حيث الصحبة.
فالأمثلة في هـٰذا كثيرة، وفائدة هـٰذا الفن ليست بذاك الذي يُهم، إلا في معرفة مرسل الصحابي على القول بأن مرسل الصحابي بعضهم يشترط معرفة من أرسل عنه، فيكون هـٰذا مفيداً، وأما من عدا ذلك فإنه لا يفيد، يعني في رواية التابعي عن التابعي لا تفيد.
من أمثلة المدبج حديث النية فإنه رواه تابعي عن تابعي عن تابعي، هذا الحديث فيه يجتمع التمثيل به لعدة أنواع من أنواع المصطلح، فإن حديث النية رواه تابعي عن تابعي عن تابعي.
هـٰذه الأنواع تكفي عن الباقي (فَاعْرِفْهُ حَقًّا وَانْتَخِهْ) هـٰذا تتمة البيت.
ما معنى (وَانْتَخِهْ)؟ يعني افتخر بمعرفته، الانتخاء هو الافتخار بالشيء، انتخى بكذا أي افتخر بكذا، فقوله رحمه الله: (فَاعْرِفْهُ حَقًّا وَانْتَخِهْ) أي افتخر بمعرفته والإحاطة به.
ثم انتقل المؤلف إلىٰ ذكر نوعين من أنواع الحديث: المتفق والمفترق، نتركها إن شاء الله إلى الدرس القادم، الدرس القادم إن شاء الله سنتمكن بإذن الله من إنهاء ما تبقى من هـٰذه المنظومة.
([1]) مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث رقم (6577).
([2]) وفي نسخة: رِوَايَةِ.
([3]) مسند أحمد (تحقيق أحمد شاكر): حديث رقم (7386)، قال أحمد شاكر: إسناده ضعيف؛ لاضطرابه ولجهالة حال راويه.
سنن أبي داوود: كتاب الصلاة، باب الخط إذا لم يجد عصاً، حديث رقم (689). قال الشيخ الألباني: ضعيف.
([4]) سنن الترمذي: كتاب الزكاة، باب ما جاء في أن في المال حقّاً سوى الزكاة، حديث رقم (660)، قال الترمذي: هٰذا حديث إسناده ليس بذاك. قال الشيخ الألباني: ضعيف.
([5]) سنن ابن ماجه:كتاب الزكاة، باب ما أدي زكاته فليس بكنز، حديث رقم (1789)، قال الشيخ الألباني: ضعيف منكر.
([6]) البخاري: كتاب العتق، باب العبد إذا أحسن عبادة ربه ونصح لسيده، حديث رقم (2548).
مسلم: كتاب الإيمان، باب ثواب العبد وأجره إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله، حديث رقم (1665).
([7]) مسلم: كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكاملهما، حديث رقم (241). عن عبد الله بن عمرو بهذا اللفظ.
([8]) رواه الخطيب، كما ذكر ذلك السيوطي في تدريب الراوي ونقله عنه أحمد شاكر في الباعث الحثيث (1/225).
([9]) مسلم: كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكاملهما، حديث رقم (240).
([10])البخاري: كتاب العلم، باب من رفع صوته بالعلم، حديث رقم (60).
مسلم: كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكاملهما، حديث رقم (241).
([11])البخاري: كتاب الوضوء، باب غسل الأعقاب، حديث رقم (165).
([12]) البخاري: كتاب الوضوء، باب فضل الوضوء والغر المحجلون من آثار الوضوء، حديث رقم (136).
مسلم: كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، حديث رقم (246).
قال الشيخ ابن باز في تعليقه على فتح الباري (1/298): الأصح في هٰذه المسألة شرعية الإطالة في التحجيل خاصة، وذلك بالشروع في العضد والساق تكميلاً للمفروض من غسل اليدين والقدمين، كما صرح أبو هريرة برفع ذلك إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رواية مسلم. والله أعلم.
([13]) مسلم: كتاب اللباس والزينة، باب استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة وتحريمه بالسواد، حديث رقم (2102).
([14]) قال النووي (7/267): الثغامة بثاء مثلثة مفتوحة ثم غين معجمة مخففة، قال أبو عبيد: هو نبت أبيض الزهر والثمر شبه بياض الشيب به، وقال ابن الأعرابي: شجرة تبيض كأنها الملح.