بسم الله الرحمن الرحيم
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
مُتَّفِقٌ لَفْظًا وَخَطّاً مُتَّفِقْ*** وَضِدُّهُ فِيْمَا ذَكَرْنَا الْمُفْتَرِقْ
مُؤْتَلِفٌ مُتَّفِقُ الْخَطِّ فَقَطْ*** وَضِدُّهُ مُخْتَلِفٌ فَاخْشَ الْغَلَطْ
وَالْمُنْكَرُ الْفَرْدُ بِهِ رَاوٍ غَدَا*** تَعْدِيْلُه ُ لا يَحْمِلُ التَّفَرُّدَا
مَتْرُوكُهُ مَا وَاحِدٌ بِهِ انْفَرَدْ*** وَأَجْمَعُوا لِضَعْفِهِ فَهْوَ كَرَدْ
وَالْكَذِبُ الْمُخْتَلَقُ الْمَصْنُوعُ*** عَلى النَّبيْ فَذَلِكَ الْمَوْضُوعُ
وَقَدْ أَتَتْ كَالْجَوْهَرِ الْمَكْنُونِ*** سَمَّيْتُهَا مَنْظُوْمَةَ الْبَيْقُوني
فَوْقَ الثَّلاثِينَ بِأَرْبَعٍ أَتَتْ*** أَبْيَاتُهَا ثُمَّ بِخَيْرٍ خُتِمَتْ
يقول المؤلف رحمه الله في هـٰذه الأبيات التي ختم بها هـٰذه المنظومة في درسنا، هي آخر ما نتكلم عليه من هـٰذه المنظومة، يقول رحمه الله:
مُتَّفِقٌ لَفْظًا وَخَطّاً مُتَّفِقْ*** وَضِدُّهُ فِيْمَا ذَكَرْنَا الْمُفْتَرِقْ
وهـٰذا البيت يشير إلىٰ فن من الفنون التي يعتني بها أهل الاصطلاح، وهي ما يعرف بالمتفق والمفترق.
المتفق هو: اتفاق أسماء الرواة وأسماء آبائهم فصاعداً، يعني وآباء آبائهم خطّاً ولفظاً وأشخاصهم مختلفة.
هـٰذا تعريف هـٰذا الفن المتفق والمفترق هو: أن يتفق أسماء الرواة وأسماء آبائهم فصاعداً خطّاً ولفظاً، فالاتفاق في الخط وفي اللفظ يعني في التكلم؛ لكن الافتراق في أي شيء؟ في الأشخاص، وأشخاصهم مفترقة مختلفة.
مثاله الليث، إذا قال الراوي: حدثني الليث، فالليث يحتمل أنه ابن سعد وهو ثقة من الحفاظ الثقات، ويحتمل أنه الليث بن أبي سليم وهو من أهل التدليس.
فإذا أطلق الراوي قال: حدثني الليث فيحتمل أنه الليث بن سعد، ويحتمل أنه الليث بن أبي سليم؛ لأنهما متعاصران، وفهم من هـٰذا أنه في الاتفاق والافتراق اتفاق في أسماء من تعاصروا، أو تشتبه بسبب الاتفاق الرواية.
والاتفاق إما أن يكون في الاسم فقط كما مثلنا بالليث، أو بالاسم واسم الأب كالخليل بن أحمد، فإن ستة اسمهم الخليل بن أحمد، أشهرهم شيخ سيبويه.
كذلك تتفق أسماؤهم وأسماء آبائهم وأسماء أجدادهم، مثل أحمد بن جعفر بن حمدان، فهناك أربعة متعاصرون في طبقة واحدة كلهم يسمى هـٰذا الاسم.
فهـٰذا يسمى بأي شيء؟ المتفق والمفترق، المتفق في اللفظ والخط والمفترق في الأشخاص والمعنيين.
وقد اعتنى أهل الحديث بهذا وحُقّ لهم أن يعتنوا به؛ لأن الاختلاط والاشتباه في هـٰذا ينجم عنه أمر جلل وهو تصحيح الضعيف أو تضعيف الصحيح، بناء على من المراد بصاحب الاسم، هل هو فلان أو فلان؟ فاتفاق الأسماء يورد اشتباهاً، هـٰذا الاشتباه قد يؤول بالإنسان إلىٰ تضعيف الصحيح أو تصحيح الضعيف.
ولذلك اعتنى أهل الحديث بهذا الفن، فألّفوا فيه مؤلفات ليبينوا المفترق والمتفق من الأسماء.
وفُهم من هـٰذا أن المتفق والمفترق هو مما يتعلق بأسماء الرواة؛ أي بأسماء نقلة الحديث، فليس له شأن في المتن.
النوع الثاني: الذي ذكره المؤلف رحمه الله في المنظومة:
مُؤْتَلِفٌ مُتَّفِقُ الْخَطِّ فَقَطْ*** وَضِدُّهُ مُخْتَلِفٌ فَاخْشَ الْغَلَطْ
هـٰذا النوع الثاني الذي ذكره رحمه الله مما يقع فيه الوهم بسبب الأسماء، مؤتلف متفق الخط فقط، المؤتلف من الأسماء هو: ما اتفقت فيه الأسماء أو الألقاب أو الكنى أو الأنساب خطّاً دون الاتفاق في اللفظ.
فيتفق في اللفظ؛ لكن يختلف في النطق، مثاله عِمَارَة، فإن أهل الحديث يقولون: إنّ كل راوٍ اسمه (عين ميم ألف راء تاء-ع م ا ر ة-) فإنه مضموم الأول ما عدا الصحابي، فكلهم ينطقون بـ(عُمارة) إلا الصحابي فهو (عِمارة) هكذا قالوا، مع أن هـٰذا ليس بالأمر المتفق عليه، يعني ليست قاعدة متفقاً عليها بين المحدثين؛ لكن مما ذكر من القواعد المتعلقة بالأسماء.
كذلك يقولون: كل مادة (الحاء والباء والألف والنون-ح ب ا ن-) فإنها مفتوحة الأول في أسماء الرجال، فتقول: حَبّان ما عدا صاحب الصحيح فهو حِبّان، وهـٰذا مما وقع فيه الخلاف بينهم أيضاً.
ومثاله أيضاً من المؤتلف والمختلف الاختلاف في النَّقط لا سيما في الوقت الأول لما كانوا ما ينقطون وأيضاً ما يشكلون.
مثل سَلاَم وسَلاَّم هـٰذا مؤتلف ومختلف.
ومثل البزاز والبزار، فهـٰذا من جملة ما يعرف من هـٰذا العلم الذي هو علم المؤتلف والمختلف.
وقد ألف فيه أهل الحديث مؤلفات عديدة، من أبرزها وأشهرها: (تبصير المنتبه بتحرير المشتبه) أي المشتبه من الأسماء، وقد ألّفه الحافظ ابن حجر رحمه الله.
ثم قال:
وَالْمُنْكَرُ الْفَرْدُ بِهِ رَاوٍ غَدَا***تَعْدِيْلُهُ لا يَحْمِلُ التَّفَرُّدَا
المؤلف رحمه الله عرف لنا الحديث المنكر بأنه: الحديث الذي تفرد بروايته من لا يُحتمل تفرده:
إما لاتهامه بالكذب.
وإما لكثرة غلطه.
وإما لغفلته، أو غير ذلك من الأسباب التي يذكرها العلماء في سبب رد الحديث.
هكذا عرفه رحمه الله.
وهـٰذا التعريف خلاف ما هو مشهور عند أكثر المحدثين، حيث عرَّفوا المنكر بأنه: رواية غير الثقة؛ أي رواية الضعيف التي يخالف بها الثقة.
فالمنكر هو: ما رواه الضعيف مخالفاً لمن هو أوثق منه، أو مخالفاً لما رواه الثقة، وهـٰذا أضبط.
وقد قال الناظم السيوطي في بيان المنكر: (المنكر الذي روى غير الثقه مخالفاً) أي مخالفاً من؟ الثقة (في نخبة قد حققه) يشير بذلك إلىٰ أن هـٰذا الذي حققه ابن حجر في نخبة الفكر، وهو المشهور عند أهل الحديث لا سيما المتأخرين منهم.
إذاً المنكر ما هو؟ ما رواه الضعيف مخالفاً فيه الثقة.
ومثّلوا له بما رواه ابن أبي حاتم من طريق حبيب المقري عن أبي إسحاق بسنده إلىٰ ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من أقام الصلاة وآتى الزكاة وحج وصام وقرى الضيف دخل الجنة)). فهـٰذا الحديث تفرد به حُبيب، وقد قال أبو حاتم: إنه منكر؛ لأن غيره من الثّقات لم يذكره، ما ذكر في هـٰذا الحديث من قرى الضيف.
على كل حال يهمّنا معرفة القاعدة في المنكر، المنكر هو: ما رواه الضعيف مخالفاً ما رواه الثقة.
قال رحمه الله:
مَتْرُوكُهُ مَا وَاحِدٌ بِهِ انْفَرَدْ
(مَتْرُوكُهُ) أي متروك الحديث
.....مَا وَاحِدٌ بِهِ انْفَرَدْ***وَأَجْمَعُوا لِضَعْفِهِ فَهْوَ كَرَدْ
عرّف رحمه الله المتروك بأنه: الحديث الذي انفرد بروايته من تركت روايته: إما لضعفه، وإما لسوء حفظه، وإما لاتهامه بالكذب، وإما لغفلته، أو فحش روايته، أو فحش خطئه.
فهـٰذا قد يكون الراوي حافظاً؛ لكنه يطرأ عليه ما يوجب رد روايته.
ومثلوا لهذا بما أخرجه الترمذي([1]) من حديث عمرو بن هارون، وفيه قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذ من لحيته من عرضها وطولها.
فهـٰذا من الأمثلة التي ذكرها أهل العلم للمتروك؛ لكون عمرو بن هارون متروكاً وقد قال عنه بعض المحدثين: إنه واهٍ متهم، ولا يلزم أن يكون متهماً بالكذب في هـٰذا الحديث بعينه، إنما قد يكون متهماً بالكذب في غيره، أو أنه متهم بالكذب فيما لم يروه من الأحاديث، كأن يكون كذّاباً معروفاً بالكذب.
فهـٰذا يسمى حديثاً متروكاً، ومرتبة الحديث المتروك أنه من الأحاديث الضعيفة جدّاً، ومنه ما يقول الحافظ مثلاً لما يتكلم في البلوغ: هـٰذا حديث ضعيف جدّاً أو حديث واهٍ جدّاً فإنه لأجل أن في رواته متروكاً.
قوله: (وَأَجْمَعُوا لِضَعْفِهِ فَهْوَ كَرَدْ) يعني فهو كالمردود لا يقبل ولا يأخذ.
قال رحمه الله :
وَالْكَذِبُ الْمُخْتَلَقُ الْمَصْنُوعُ***عَلى النَّبيْ فَذَلِكَ الْمَوْضُوعُ
هـٰذا فيه تعريف الحديث الموضوع، الحديث الموضوع هو: الحديث المكذوب على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال المؤلف: (الْمُخْتَلَقُ) الاختلاق هو: إيجاد ما لم يكن من قول أو فعل.
والموضوع هو: الحديث الذي نسب إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأضيف إليه، ولم يتكلم به ولم يصدر عنه، وهو من الأحاديث التي لا يحتج بها، ولا تجوز روايتها بحال من الأحوال؛ لأن الراوي للحديث الموضوع أحد الكذّابين، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من روى حديثاً يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين))([2]).وهـٰذا يدل على غلظ رواية الأحاديث الموضوعة، إلا إذا كان الراوي يرويها وينقلها لأجل أن يبين ما فيها من ضعف ويحذّر منها.
فهـٰذا أمر قد درج عليه عمل السلف.
والأحاديث الموضوعة كثيرة، منها مثلاً: ((المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء)). فهـٰذا من الأحاديث التي تذكر وهي ليست من الأحاديث، فهـٰذا من الكلام الذي يذكر ويضاف إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس بحديث. وكثير منها إما أن يكون من كلام بعض السلف، أو يكون من الحكم والأقوال المشهورة، ثم إذا استحسنها قائلها لا سيما من العوام قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فيضيفها إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظنّاً منه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تكلم بذلك.
وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من حدّث بحديث يَرى أنه كذب –أو: يُرى أنه كذب- فهو أحد الكاذبين))([3]). كما ذكرنا، وهـٰذا يدل على عظيم التحديث بالحديث الموضوع، فلا يجوز سياقه ولا ذكره إلا مقروناً ببيان حاله، حتى لا يغتر السامع بهذه الأحاديث ويبني عليها عقْداً أو عملاً.
ولو لم يبن عليها عقداً ولا عملاً؛ ولكن قد يعتقد أو يظن أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تكلم بها وهو لم يتكلم بها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد جعل المؤلف رحمه الله آخر ما ذكر من أقسام الحديث في هـٰذه المنظومة الحديث الموضوع؛ لأنه أنزل الأحاديث، وهـٰذا من بديع تأليفه حيث ابتدأ بالحديث الصحيح؛ فذكر في أقسام الحديث:
أَوَّلُها الصَّحِيحُ وَهْوَ ما اتَّصَلْ***إسْنادُه ولمْ يَشُذَّ أو يُعَلْ
ثم ذكر في آخره:
وَالْكَذِبُ الْمُخْتَلَقُ الْمَصْنُوعُ***عَلى النَّبيْ فَذَلِكَ الْمَوْضُوعُ
وهـٰذا من بديع التأليف وحسنه. ثم قال رحمه الله:(وَقَدْ أَتَتْ كَالْجَوْهَرِ الْمَكْنُونِ).
أي هـٰذه المنظومة أتت كالجوهر، المكنون أي المخفي، وإنما يخفى الجوهر صيانةً له وحفظاً له من أن يدنس أو أن تصل له أيدي من لا يقدره ولا يحفظه.
(سَمَّيْتُهَا مَنْظُوْمَةَ الْبَيْقُوْنِي) نسبة إليه، وهي مشهورة بالبيقونية، وأصل النسبة في البيقوني إلىٰ بلد في أي البقاع؟ أين بلدة بيقون؟ في مصر أو الشام؟ طيب.
فَوْقَ الثَّلاثِيْنَ بِأَرْبَعٍ أَتَتْ***أقسامها([4])تمتبِخَيْرٍ خُتِمَتْ
فوق الثلاثين بأربع؛ يعني أربعة وثلاثين بيتاً، أتت أقسامها تمت؛ يعني أقسام الحديث التي رغب في بيانها تمت بخير ختمت.
وبهذا تكون قد انتهت هـٰذه المنظومة المختصرة في علم مصطلح الحديث، وهي من أقصر وأخصر المنظومات، فيها فائدة لا سيما للمبتدئ الذي لم يسبق له دراسة ومعرفة وإحاطة بهذا الفن.
وتصلح أن تكون مقدمة لدراسة ما بعدها من المتون، كالموقظة والكافية ونخبة الفكر، وما أشبه ذلك من المتون، التي فيها توسع وبسط وتحقيق وتحرير أكبر من هـٰذا.
وبهذا نكون قد انتهينا من هـٰذا المتن، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.
([1])سنن الترمذي: كتاب الأدب، باب ما جاء في الأخذ من اللحية، حديث رقم (2762)، قال الشيخ الألباني: موضوع.
([2]) مسلم: مقدمة صحيحه، باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين.
([3]) تقدم تخريجه
([4])في نسخة: أَبْيَاتُهَا.