الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
الحمدُ للهِ الَّذِي مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلقَ مِنَ الماءِ بَشَراً، فَجَعَلَهُ بِحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ نَسَباً وَصِهْراً، أَحْمَدُهُ جَلَّ وَعَلا حَمْداً يَلِيقُ بِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَبالِغِ حِكْمَتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَاحِبُ المقامِ المحْمُودِ وَالحَوْضِ الموْرُودِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعْدُ .
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ بِامْتِثالِ شَرْعِهِ وَتَرْكِ مَغاضِبِهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيَّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً.
عِبادَ اللهِ، إِنَّ مِنْ آياتِ اللهِ العَظِيمَةِ وَنِعَمِهِ الجَلِيلَةِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، فَفِي النَّكِاحِ يا عِبَادَ اللهِ خَيْراتٌ كَثِيَرةٌ، وَمَصالِحُ عَظِيمَةٌ؛ وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ تَعالَىَ بِهِ، فَقالَ تَعالَى ذِكْرُهُ:﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ سُورَةُ النِّساء (3).
وَحَثَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقالَ: (يا مَعْشَرَ الشَّبابِ، مَنِ اسْتَطاعَ مِنْكُمُ الباءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلفَرْجِِ) أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (4677) ، وَمُسْلِمٌ (2485) مَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، وَالباءَةُ هِيَ القُدْرَةُ عَلَى التَّزَوُّجِ بِالمالِ وَالبَدنِ.
فالنكاحُ يا عبادَ اللهِ سُنَّةُ الأَنْبِياءِ، وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالاقْتِداءِ بِهِمْ، فَقالَ تَعالَى: ﴿فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ﴾ سُورَةُ الأَنْعامِ (90) ، وَقالَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(إِنِّي أَقُومُ وَأَنامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتي فَلَيْسَ مِنِّي) أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (4675) وَمُسْلِمٌ (24117) مِنْ حَدِيثُ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ .
وَقَدْ شَدَّدَ السَّلَفُ رَحِمَهُمُ اللهُ في تَرْكِ النِّكاحِ من غيرِ عذرٍ، فقال عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه: "لا يمنعُ من النكاحِ إلا عجْزٌ أو فُجورٌ" أخرجه سعيد بن منصور في سننه (491)، فبيَّن رضي اللهُ عنه أنه لا يمنعُ من النكاحِ، إلا أحدُ هذين الأمرين المذمومين.
فللنكاحُ منزلةٌ عظيمةٌ، لما له من العوائدِ الجميلةِ والفوائدِ الجليلةِ.
والنكاحُ يا عبادَ الله حصنٌ حصينٌ، يتَّقي به المرءُ والمجتمعُ شرًّا كثيراً وفساداً عريضاً، لا سيما في مثل هذه الأيامِ، التي كثُرت فيها الفتنُ والشهواتُ، فالنكاحُ مُعينٌ على الاستقامةِ والدِّينِ، وهو مبطلٌ لكيدِ الشيطانِ الرجيمِ، وجنودِهِ المفسدين، الساعين في الغوايةِ والضلالِ المبينِ، قال الله تعالى بعدَ ذكرِه لآياتِ النكاحِ : ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً . يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾ سورة النساء (27-28).
فالإِنْسانُ أَيُّها المؤْمِنُونَ ضَعِيفٌ مِنْ جَمِيعِ الوُجُوهِ، وَلا يَتَخَلَّصُ مِنْ عاقِبَةِ هَذا الضَّعْفِ الخُلُقِي، إِلَّا بِالْتِزامِ الشَّرْعِ وَاتِّباعِ الأَمْرِ.
أيها المؤمنون.
إِنَّ مِنَ الواجِبِ عَلَيْنا جَمِيعاً الاهْتِمامَ بِمَوْضُوعِ النِّكاحِ، وَالتَّعاوُنَ عَلَى تَسْهِيلِهِ وَتَحْقِيقِهِ، وَإِزالَةَ العَوائِقِ مِنْ طَرِيقِهِ، وَإِنَّ مِمَّا يُحْزِنُ القَلْبَ ما نُشاهِدُهُ في واقَعِ النَّاسِ اليَوْمَ، مِنْ كَثْرَةِ العَراقَيلِ وَالعَقباتِ، الَّتي وُضِعَتْ في طَرِيقِهِ، مَعَ كَثْرَةِ الفِتَنِ وَقِيامِ سُوقِ الشَّهَواتِ، فَمِنَ العَقَباتِ الَّتِي يَجِبُ حَلُّها وَإِزالَتُها غَلاءُ المهُورِ، وَارْتِفاعُها إِلَى حَدٍّ أَصْبحَ النِّكاحُ مَعَهُ عَسِيراً عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ.
فاتَّقُوا اللهَ أَيُّها الأَوْلِياءُ، يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، فَإِنَّ قِلَّةَ المهْرِ أَدْعَى لِحُصُولِ البَرَكَةِ وَالخَيْرِ، قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : "لا تُغالُوا في صُدُقِ النِّساءِ –أَيْ: في مُهُورِهِنَّ- فَإِنَّها لَوْ كانَتْ مكرُمةً في الدنيا، أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ما أصدقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائِه، ولا امرأةً من بناتِه أكثرَ من ثنتي عشرة أوقيةً" أخرجه أحمد (285)، والترمذي(1114)، ابن حبان (4620)، الحاكم (2/191)، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم، يعني ما يساوي اليومَ مائةً وعشرين ريالاً سعودياً، فهذا صداقُ خيرِ الأزواجِ وخيرِ البناتِ.
فاتقوا اللهَ أيها الأولياءُ، فإن نساءَكم أمانةٌ في أيديكم، واللهُ سائلُكم عنها، فأَعِدُّوا للسؤالِ جواباً.
أيها المؤمنون.
إنَّ مِمَّا بُلِيَ بِهِ بَعْضُ مَنْ خانَ الأَمانَةَ مِنَ الأَوْلِياءِ عَضْلَ البَناتِ، الَّذِي نَهَى اللهُ عَنْهُ حَيْثُ قال: ﴿ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ سُورَةُ البَقَرَةِ (232) ، فإِنَّ بَعْضَ ضِعافِ العُقُولِ وِالنُّفُوسِ مِنَ الأَوْلِياءِ يِمْنَعُ نِساءَهُ مِنَ النِّكاحِ، لأَسْبابٍ واهِيَةٍ، وَحُجَجٍ باطِلَةٍ، فَيَكُونُ سَبَباً في فَسادِهِنَّ أَوْ فَواتِهِنَّ، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ مِنْ هَذا الفِعْلِ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، فَقالَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذا أَتاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهِ وَأَمانَتَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنةٌ في الأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ (1108) وَحَسَّنَهُ.
أَتَدْرُونَ ما الفِتْنَةُ وَالفَسادُ الكَبِيرُ يا عِبادَ اللهِ؟ إِنَّهُ ظُهُورُ الزَّنَى وَالفاحِشَةِ، الَّذِي قالَ اللهُ فِيهِ : ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾ سُورَةُ الإِسْراءِ (32).
فِإيَّاكُمْ أَيُّها الأَوْلِياءُ مِنَ العَضْلِ وَالمنْعِ، فَإِنَّهُما مِنْ أَعْظَمِ الخِيانَةِ لِهَذِهِ الأَمانَةِ.
أيها المؤمنون.
إِنَّ مِنَ العَقباتِ الَّتِي احْتَفَتْ بِالنِّكاحِ في هَذِهِ العُصُورِ المتَأَخِّرَةِ الإِسْرافَ البالغَ في أُمُورِ النِّكاحِ، في الوَلائِمِ وَالهَدايا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلا يَشُكُّ عاقِلٌ أَنَّ هَذا الأَمْرَ لَهُ عَواقِبُ وَخِيمَةٌ، مِنَ الإِسْرافِ وَالتَّبْذِيرِ وَالمباهاةِ والمفاخَرَةِ، وَالتَّعْقِيدِ لأُمُورِ الزَّواجِ، وَعَجْزِ الكَثِيريِنِ عَنْهُ.
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَاقْتَصِدُوا في هَذِهِ الأُمُورِ، فَلَيْسَ هَذا الفِعْلِ وَاللهِ مِنَ الكَرَمِ وَالإِحْسانِ، بَلْ هُوَ مِنَ البَطَرِ وَالطُّغْيانِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ الجَلِيلِ مِنَ الخُسْرانِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الكُفْرِ وَالفُسُوقِ وَالعِصْيانِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ البِرَّ وَالإِحْسانَ وَالصَّالحَ مِنَ الأَعْمالِ
الخطبة الثانية
أما بعد.
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَقُومُوا بِما فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنْ حِفْظِ الأَمانَةِ وَأَدائِها، وَاعْلَمُوا أَنَّ نِساءَكُمْ أَمانَةٌ في أَيْدِيكُمْ، فاتَّقُوا اللهَ فِيهِنَّ، مُرُوهُنَّ بِالمعْرُوفِ وَانُهَوْهُنَّ عَنِ المنْكَرِ، رغِّبُوهُنَّ في الخَيْراتِ، وَحَذِّرُوهُنَّ مِنَ السَّيِّئاتِ، بَادِرُوا في إِعْفافِهِنَّ بِتَزْويِجِهِنَّ الصَّالحِينَ مِنْ إِخْوانِكُمْ، لا تَمْنَعُوهُنَّ الزَّواجَ مِنْ أَجْلِ الدِّراسَةِ أَوِ الوَظِيفَةِ، وَلَوْ رَغِبْنَ في ذَلِكَ فَإِنَّ ذلِكَ لا يَفُوتُ، وَلَكِنَّ سِنُّ الزَّواجِ إِذا فاتَ فَإِنَّهُ لا يُمْكِنُ إِدراكُهُ، وَيَصْعُبُ تَعْوِيضُهُ.
عِبادَ اللهِ أَيُّها الأَوْلِياءُ، إِنَّ مَسْؤُولِيَّتَكُمْ عَظِيمَةٌ، فاتَّقُوا اللهَ وَاسْتَعِينُوا بِهِ في القِيامِ بِهِذهِ الأَمانَةِ، فَإِنَّهُ جَلَّ وَعلا نِعْمَ الموْلَى وَنِعْمَ المعينُ.