الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد: -
(فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف: إنما أتوا من حيث ظنوا: أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم:﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾([1]) وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات. فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر وقد كذبوا على طريقة السلف وضلوا في تصويب طريقة الخلف؛ فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم. وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف. وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين؛ فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى - وهي التي يسمونها طريقة السلف - وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف - وهي التي يسمونها طريقة الخلف - فصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل والكفر بالسمع؛ فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه. فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين الكاذبتين: كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين بمنزلة الصالحين من العامة؛ لم يتبحروا في حقائق العلم بالله ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله)
تقدم لنا في الدرس السابق حكاية قول بن القيم ـ رحمه الله ـ حول زبدة الرسالة التي جاءت بها الرسل جميعاً وذكرت لكم أنه تكلم عن هذا كلاما طيبا في مدارج السالكين([2]) فهذا هو الموضع الذي تكلم به رحمه الله. (والرسل من أولهم إلى خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أرسلوا بالدعوة إلى الله وبيان الطريق الموصل إليه وبيان حال المدعوين بعد وصولهم إليه فهذه القواعد الثلاث ضرورية في كل ملة على لسان كل رسول فعرفوا الرب المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفا مفصلا حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه يكلم ملائكته ويدبر أمر مملكته ويسمع أصوات خلقه ويرى أفعالهم وحركاتهم ويشاهد بواطنهم كما يشاهد ظواهرهم يأمر وينهى ويرضى ويغضب ويحب ويسخط ويضحك من قنوطهم وقرب غيره ويجيب دعوة مضطرهم ويغيث ملهوفهم ويعين محتاجهم ويجبر كسيرهم ويغني فقيرهم ويميت ويحيي ويمنع ويعطي يؤتى الحكمة من يشاء مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير كل يوم هو في شأن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويفك عانيا وينصر مظلوما ويقصم ظالما ويرحم مسكينا ويغيث ملهوفا ويسوق الأقدار إلى مواقيتها ويجريها على نظامها ويقدم ما يشاء تقديمه ويؤخر ما يشاء تأخيره فأزمة الأمور كلها بيده ومدار تدبير الممالك كلها عليه وهذا مقصود الدعوة وزبدة الرسالة). انتهى كلامه رحمه الله.
هذا كلام بديع يزيد في الإيمان ويبين عظم ووجوب الاهتمام بما ذكر الله سبحانه وتعالى عن نفسه في كتابه وستجد أن الشيخ رحمه الله وافق شيخ الإسلام في هذه العبارة حيث قال: وهذا مقصود الدعوة وزبدة الرسالة ، أي ما تقدم من التعريف بالله جل وعلا وبيان أوصافه وأفعاله وما يجب له في هذا كله هذا هو زبدة الرسالة ومقصود الدعوة التي جاءت بها الرسل ، ولذلك قال الشيخ رحمه الله في الكلام السابق: (فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب) يعني باب أسماء الله عز وجل وصفاته (والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه)ثم ذكر بعد ذلك أن هذا هو الذي يعد زبدة الرسالة ومقصودها فهذا يبين وجوب الاهتمام بهذا الباب وأن الاهتمام بباب الأسماء والصفات ليس لمجرد الرد على قول المبتدعين والمخالفين من المتكلمين وغيرهم بل الاهتمام بباب الأسماء والصفات ليزداد الإيمان ولتتم معرفة العبد بربه جل وعلا ليحصل له كمال العبودية ولذلك ذكرنا لكم في الدرس السابق أنه لما كان أكثر الخلق علما بالله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان أعبد الخلق لربه ولذلك قال ((والله إني لأعلمكم بالله وأخشاكم))([3]) فالعبادة والخشية وسائر المقامات هي فرع عن تمام العلم به سبحانه وتعالى أما كلام الشيخ رحمه الله مما قرأه علينا في أول الدرس فهو في تفنيد هذه العبارة التي يذكرها المتكلمون في بيان اعتذارهم عن مخالفة طريق السلف الصالحين وسلوكهم طريق المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في باب أسماء الله وصفاته فكان في الرد عليهم أول ما بدأ الشيخ بين سبب هذا الضلال الذي وقعوا فيه فقال: (فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذوا حذوهم على طريق السلف إنما أتوا)يعني أنما وقعوا فيما وقعوا فيه لأنهم ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير تفسير ذلك هذا السبب الأول الذي أوقع المتكلمين في الضلال في باب الأسماء والصفات أنهم ظنوا أن السلف رحمهم الله لم يفقهوا آيات الصفات ولم يعلموا ما فيها وأن غاية ما عندهم هو المعرفة لألفاظها دون الوقوف على حقائقها ومعانيها ولا شك أن ما ظنوه من طريقة السلف خطأ وضلال وجهل فإن السلف هم أعلم الناس بالله عز وجل لأنهم تلقوا ذلك عمن لا ينطق عن الهوى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن السلف لم يدخلوا في باب الأسماء والصفات وفي باب ما يتعلق بالله عز وجل بآرائهم وخيالاتهم وعقولهم بل قبلوا ما جاء عن الله وعن رسوله على ما تقتضيه اللغة دون الدخول في تكييف ذلك والبحث عن كنهه وحقيقته لأن الباب قد أغلق بقوله جل وعلا: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾([4])فهذا هو السبب الأول الذي بنى عليه المتكلمون مخالفتهم لطريق أهل السنة والجماعة أنهم ظنوا أن عقيدة السلف التفويض ولذلك هم يرون أن التفويض هو عقيدة القرون المفضلة وهو أنهم يؤمنون بالألفاظ ويقفون عن المعاني فلا يقولون فيها شيئا بل يقولون : أمروها كما جاءت والسلف لاشك أنهم يقولون أمروها كما جاءت ولكن هذا اللفظ أو هذا القول المنقول عنهم لا يدل على ما ذهبوا إليه من أنهم لم يقفوا على معاني هذه الأسماء والصفات بل وقفوا على معانيها وأجروها على ظاهرها ولم يدخلوا فيها بالرأي والخيال والقول على الله بغير علم ولا شك أن القول بنسبة السلف رحمهم الله إلى التفويض من أسوأ النِسب ومن أردئها ومن سوء الظن بهم رضي الله عنهم لأن مقتضى التفويض التجهيل ولذلك سيشير الشيخ رحمه الله إلى رداءة هذا القول وإلى بيان ضلاله وأن السلف لم يكونوا على هذه الطريقة ثم قال : (بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم) أي إن السلف كانوا بمنزلة الأميين الذين قال فيهم:﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ﴾([5])الأميون : جمع أمي وهو ما انتسب إلى أمه لعدم قراءته وكتابته وقد اختلف المفسرون في معنى الأميين في هذه الآية على قولين:
القول الأول: أن الأميين في هذه الآية هم من لا يقرأ ولا يكتب فيكون معنى الآية ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾يعني : لا يقرؤون ولا يكتبون ﴿لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ﴾يعني إلا بالخرص والكذب واختلاق القول على الله عز وجل .
والقول الثاني: أن معنى الأميين في هذا هم : من يقرؤون الكتاب لفظا دون فهم معناه وهذا القول أشار إليه ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة وهو ظاهر مراد الشيخ رحمه الله لأن المتكلمين يقرؤون الكتاب ويقرون أن السلف كانوا يقرؤون الكتاب لكنهم يقولون أنهم يقرأونه دون فهم لمعانيه ثم قال: (وإن طريقة الخلف هي استخراج المعاني النصوص المصروفة عن حقيقتها بأنواع المجازاتوغرائباللغات)ظنوا لما فضلوا طريقة الخلف على طريقة السلف أن طريقة الخلف هي الوقوف على المعاني ولكن الحقيقة أن وقوفهم على المعاني ليس على ما تقتضيه الألفاظ من المعاني الظاهرة المتبادرة إلى الأذهان إنما هـو صرف لهـذه المعاني عن حـقائقها والمتبادر منها وسلكـوا في هذا الصرف طريقين: (المجازات) فيحملون الآيات على المجاز ، وعلى غرائب اللغة ، وسيمر معنا نماذج لتأويلاتهم الباطلة وشبههم المنحرفة التي حرفوا فيها الكلم عن مواضعه وحملوا ظواهر النصوص إلى معان غريبة ومجازات بعيدة قال: (فهذا الظن الفاسد)أي ظنهم أن السلف لم يقفوا على المعاني إنما وقفوا وأجروا الألفاظ دون النظر إلى معانيها وهذا الظن الفاسد (أوجـب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء والظهر)لأن حقيقة الأمر أن يكون الإسلام له ظاهر وباطن ظاهر يشغى وباطن يختلف الناس في الوقوف عليه وفي بيان حقيقته ومقتضاه أيضا أن الله سبحانه وتعالى خاطب الخلق وخاطب الناس بما لا يعقلون خاطبهم بألفاظ مجردة عن معانيها وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله في مواطن كثيرة عن سوء بدعة التفويض وأنها من شر البدع لأن فيها التهمة لله جل وعلا وفيها التهمة للنبي صلى الله عليه وسلم بعدم البيان (وقد كذبوا على طريقة السلف وضلوا في تصويبهم طريقة الخلف فجمعوا بين) سوءتين : الكذب والضلال ؛ الكذب على السلف بأن طريقهم لم يكن فيه الوقوف على المعاني والضلال في تصويب طريقة الخلف وأنها أصوب من طريقة السلف (فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف بالكذب عليهم وبين الجهل والضلال في تصويب طريقة الخلف) (وسبب ذلك)يعني سبب هذا القول وهذا ثاني ما بنى عليه المتكلمون طريقتهم وتصويبهم لهذه الجملة أنهم قالوا :(إنهليس في نفس الأمر صفة)يعني أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بصفة ؛ فلما اعتقدوا أن الصفات ممتنعة على الله جل وعلا وأنه لا يوصف بصفة احتاروا في النصوص التي أُثبتت فيها الصفات فذهبوا إلى تأويلها وصرفها عن ظاهرها فاجتمع عندنا أمران سبّبا الضلال عند المتكلمين:
الأمر الأول: طعنهم وجهلهم بطريقة السلف .
السبب الثاني:اعتقادهم أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بصفة لأن الصفة تقتضي التجدد والحدوث والله سبحانه وتعالى لا تحله الحوادث . وسنتعرض لهذه الشبه في تفصيل ما يثبت من الأجوبة على أعيان المسائل التي سأل عنها السائل في سؤاله للشيخ .
قال: (وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدةالتي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين)الذين عطلوا الله سبحانه وتعالى عن أوصافه فقالوا : لا يوصف بصفة فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى بقوا مترددين بين أمرين:
بين أن يسيروا على طريقة السلف فيجروا الألفاظ دون الوقوف على معانيها كما زعموا وبين أن يدخلوا في هـذه الألفاظ التي وردت والنصوص التي وردت بآرائهم فيؤلـولها ويصرفوها عن ظاهرها (مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض هذا المعنى) وهذا بزعمهم طريقة السلف (و هي التي يسمونها طريقة السلف وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع التكلف وهي التي يسمونها طريقة الخلف فصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل و الكفر بالسمع)
و هذا (من فساد العقل) لأنهم قالوا: - إنه لا يوصف بصفة أي إن الله لا يتصف بصفات ومن الكفر بالسمع : إذ إنهم اعتقدوا أن ظاهر الألفاظ ظاهر النصوص كفر لأنها تثبت الصفات فاجتمع عندهم باطلان : فساد العقل حيث ظنوا أن الله لا يوصف بصفة ، والكفر بالسمع حيث قالوا: إن ظاهر القرآن و ظاهر النصوص كفر لأنها تثبت الصفات التي يحيلها العقل .
قال: (فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه فلما انبنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين الكاذبتين كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم) فاستبلهوا السلف واستجهلوهم بناء على أن السلف لم يقفوا على المعاني إنما أجروا الألفاظ وظنوا أن طريقتهم هي الطريقة الصواب فلما أصبح عندهم مفترق الطرق : إما أن يسيروا على طريق السلف وهي طريق الجهال والبلهاء ، أو طريق الخلف التي هي طريق العلماء والحكماء سلكوا طريق الخلف وذموا طريق السلف وقالوا إن طريق السلف أسلم لأن حقيقتها الإيمان الخالي عن المعاني وطريقة الخلف وأحكم وأعلم لأنها تؤدي إلى الإيمان المبني على العلم والحكمة وكذبوا في ذلك وضلوا (واعتقاد أنهم كانوا قوماً أميين بمنزلة الصالحين من العامة لم يتبحروا في حقائق العلم بالله ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي و أن الخلف الفضلاء حازوا على قصب السبق في هذا كله) ثم قال الشيخ رحمه الله في بيان ضلال هذه النتيجة وخطورتها قال رحمه الله
(ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة؛ بل في غاية الضلالة) الآن الشيخ رحمه الله يبين ضلال هذه النتيجة بأوجه هذه الأوجه متعددة منها وأولها وأبينها وأظهرها في إبطال هذه الطريقة وأنها لا تؤدي إلى العلم والحكمة قال رحمه الله (كيف يكون هؤلاء المتأخرون - لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم وغلظ عن معرفة الله حجابهم وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه أمرهم)إذا أول استدلال استدل به الشيخ رحمه الله على إبطال هذه الطريقة هي النظر إلى ما أوصلته طريقتهم وبدعتهم طريقتهم التي يقولون ويزعمون ويقولون : إنها أعلم وأحكم لم توصلهم إلا إلى اضطراب وضلال وحيرة وجهل بالله سبحانه وتعالى فإذا كانت كذلك فإنها طريقة ضالة لا توصل إلى المقصود بخلاف طريقة السلف التي توصل إلى العلم والحكمة والخشية وكمال العبادة.
([1]) سورة : البقرة (78)
([2]) مدارج السالكين ( 3/248-249 )
([3]) أخرجه : أحمد (23798) ، والبخاري (6101)
([4]) سورة : الشورى : آية (11)
([5]) سورة : البقرة : آية (78)