الآن الشيخ رحمه الله سيشرع في ذكر النقول الكثيرة المستفيضة التي تدل دلالة لا مرية فيها على أن أهل السنة والجماعة كانوا يثبتون الأسماء و الصفات وسائر ما يتعلق بالله عز وجل من العلوم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل وأنهم فهموا وعقلوا معاني الكتاب والسنة.
(ونحن نذكر من " ألفاظ السلف " بأعيانها " وألفاظ من نقل مذهبهم " - إلى غير ذلك من الوجوه بحسب ما يحتمله هذا الموضع - ما يعلم به مذهبهم. روى أبو بكر البيهقي في " الأسماء والصفات " بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: كنا - والتابعون متوافرون -: نقول إن الله - تعالى ذكره - فوق عرشه ونؤمن بما وردت فيه السنة من صفاته. وقد حكى الأوزاعي - وهو أحد " الأئمة الأربعة " في عصر تابع التابعين: الذين هم " مالك " إمام أهل الحجاز و " الأوزاعي " إمام أهل الشام و " الليث " إمام أهل مصر و " الثوري " إمام أهل العراق - حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش وبصفاته السمعية. وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون الله فوق عرشه والنافي لصفاته؛ ليعرف الناس أن مذهب السلف خلاف ذلك. وروى أبو بكر الخلال في " كتاب السنة " عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: - أمروها كما جاءت. وروى أيضا عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي: عن الأخبار التي جاءت في الصفات. فقالوا: أمروها كما جاءت. وفي رواية: فقالوا أمروها كما جاءت بلا كيف. فقولهم - رضي الله عنهم - " أمروها كما جاءت " رد على المعطلة وقولهم: " بلا كيف " رد على الممثلة. والزهري ومكحول: هما أعلم التابعين في زمانهم والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين ومن طبقتهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهما. وروى أبو القاسم الأزجي بإسناده عن مطرف بن عبد الله قال سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول: قال " عمر بن عبد العزيز ": سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سننا. الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد من خلق الله تعالى تغييرها ولا النظر في شيء خالفها من اهتدى بها فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا. وروى الخلال بإسناد - كلهم أئمة ثقات - عن سفيان بن عيينة. قال: سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾([1])كيف استوى. قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ المبين وعلينا التصديق. وهذا الكلام مروي عن " مالك بن أنس " تلميذ ربيعة بن أبي عبد الرحمن من غير وجه. (منها: ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني وأبو بكر البيهقي عن يحيى بن يحيى؛ قال: كنا عند مالك بن أنس؛ فجاء رجل فقال يا أبا عبد الله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء ثم قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. وما أراك إلا مبتدعا؛ ثم أمر به أن يخرج. فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة. ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه - على ما يليق بالله - لما قالوا: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما بل مجهولا بمنزلة حروف المعجم. وأيضا: فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى؛ وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات. وأيضا: فإن من ينفي الصفات الخبرية - أو الصفات مطلقا - لا يحتاج إلى أن يقول بلا كيف فمن قال: إن الله ليس على العرش لا يحتاج أن يقول بلا كيف فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا بلا كيف. وأيضا: فقولهم: أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه فإنها جاءت ألفاظ دالة على معان؛ فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد؛ أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت ولا يقال حينئذ بلا كيف؛ إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول).
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين أما بعد:
ففي هذا الذي سمعناه ذكر الشيخ رحمه الله نقولا عن السلف يستبين بها لكل من نظر فيها مذهبهم وطريقهم في باب الأسماء والصفات وإنما احتاج إلى هذه النقول وإلى ما سيأتي من النقول لقطع كل ريبة أو شك في أن السلف رحمهم الله أثبتوا الصفات على الوجه الذي جاء في الكتاب وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل وفي ثنايا نقله نقل قول ربيعة ومالك في الاستواء وهو أن الاستواء غير مجهول و الكيف غير معقول والإيمان به واجب ونقل أيضا قول بعض السلف في الصفات: أمروها كما جاءت. فلما كان في هذين القولين متمسك لبعض الذين قالوا إن السلف لم يثبتوا الصفات وإنما مذهبهم التفويض استدل بهذا القول على أن السلف ليسوا من أهل التجهيل الذين يقولون أن نصوص الصفات لا معنى لها.
فقال رحمه الله: (فقول ربيعة ومالك : الاستواء غير مجهول و الكيف غير معقول والإيمان به واجب)موافق لقول الباقين : أمروها كما جاءت بلا كيف فلا تعارض بينهما. يقول: (فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة) فهذه الأقوال إنما نفى فيها السلف رحمهم الله علم الكيفية لأن العلم بكيفية الشيء فرع عن العلم به فلما كان العلم بالذات ممتنعا فكذلك العلم بكيفية الصفات إذ إن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد أي بألفاظ نصوص الصفات من غير فهم لمعناه يعني معاني هذه النصوص و هذه الألفاظ على ما يليق بالله لما قالوا الاستواء غير مجهول لأن مقتضى قولهم: إن الاستواء غير مجهول أنهم علموا المراد بقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾([2])وآيات الاستواء الأخرى فلما قالوا غير مجهول دل أنهم يثبتون معنى لهذه الألفاظ وأن هذه الألفاظ مرادة المعاني.
ثم قال: و الكيف غير معقول ولما قالوا أمروها كما جاءت بلا كيف)ويدلل لذلك بما يأتي قال: (فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما بل مجهول)يعني على قول من قال بأنها نصوص لا معاني لها (يكون الاستواء غير معلوم بل مجهول بمنزلة حروف المعجم)يعني كما لو أنك صففت ألفا وباء وجيما ودالا صففتها صفا أو أنك نظرت في أفرادها لا معنى لها، الألف إذا جاءت مجردة عن الكلمة لم يعرف لها معنى إنما تعرف بما انضافت إليه مما تتركب منه الألفاظ التي تدل على المعاني.
قال: (وأيضا فانه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ المعنى)وهذا مهم أيضا هذا وجه آخر من الأوجـه التي تدل على أن هذه العبـارات تدل على أن السلف رحمهم الله أثبتوا الصفات (فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إلا إذا كان للفظ معنى)و إلا لما احتجنا إلى أن ننفي الكيفية.
قال: (إنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات)ثم قال في وجه آخر: (وأيضا فإن من ينفي الصفات الجزئية أو الصفات مطلقا لا يحتاج إلى أن يقول : بلا كيف) لأنها لا حقيقة لها حتى يحتاج أن ينفي الكيف فإذا كانت الصفات غير مرادة وهي منفية إما نفيا جزئيا أو نفيا مطلقا لا يحتاج إلى أن يقيد ما جاء في الكتاب والسنة بلا كيف لا يحتاج أن يقول: أمروها كما جاءت بلا كيف ولا يحتاج أن يقول الاستواء غير مجهول و الكيف غير معقول لأن مقتضى قوله هذا أن يكون للصفات معان وأنها ثابتة. قال: (فمن قال أن الله ليس على العرش لا يحتاج أن يقول: بلا كيف)لأنه لا يثبت أصلا استواءه على العرش حتى يحتاج إلى التكييف فنفي التكييف فرع عن إثبات الصفة فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا بلا كيف فرد الشيخ بهذا على المؤولة وعلى المفوضة.
قال: (و أيضا فقولهم أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه)وإبقاء دلالتها على ما هي عليه يقتضي ماذا؟ يقتضي إثبات الصفات لأن دلالة الألفاظ تدل على أن لله سبحانه وتعالى صفات ثابتة.
قال: (فإنها جاءت ألفاظ دالة على معاني فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقول: أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد) وهذا لم ينقل عن أحدهم مع كثرة النقل عنهم في هذا الباب فدل ذلك على أن مراد الألفاظ مقصود وأن اعتقادها هو الذي كان عليه سلف الأمة.
قال: (أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة وحينئذ تكون قد أمرت كما جاءت ولا يقال حينئذ بلا كيف إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول)وهذه أدلة قوية بينة في إبطال ما ادعاه هؤلاء من أن السلف رحمهم الله لم يثبتوا لله الصفات اللائقة به التي جاءت في الكتاب والسنة.
(وروى الأثرم في " السنة " وأبو عبد الله بن بطة في " الإبانة " وأبو عمرو الطلمنكي وغيرهم بإسناد صحيح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون - وهو أحد " أئمة المدينة الثلاثة " الذين هم مالك بن أنس وابن الماجشون وابن أبي ذئب - وقد سئل عما جحدت به الجهمية: " أما بعد: فقد فهمت ما سألت فيما تتابعت الجهمية ومن خلفها في صفة " الرب العظيم " الذي فاقت عظمته الوصف والتدبر وكلت الألسن عن تفسير صفته وانحصرت العقول دون معرفة قدرته وردت عظمته العقول فلم تجد مساغا فرجعت خاسئة وهي حسيرة. وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير وإنما يقال " كيف " لمن لم يكن مرة ثم كان. فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو. وكيف يعرف قدر من لم يبدأ ومن لا يموت ولا يبلى؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى - يعرفه عارف أو يحد قدره واصف؟ - على أنه الحق المبين لا حق أحق منه ولا شيء أبين منه. الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه لا تكاد تراه صغرا يجول ويزول ولا يرى له سمع ولا بصر؛ لما يتقلب به ويحتال من عقله أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين وخالقهم وسيد السادة وربهم ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾([3]).وهذا مأخوذ من قوله: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾فكلامه سليم صحيح لا يحيط المرء مهما بلغ بالله علما لا بأسمائه ولا بصفاته ولا بأفعاله جل وعلا. هذا من أعظم الأدلة على أن العقل لا يدرك صفات الله عز وجل ولا يحيط بها إذا كان المخلوق لا يدرك حقيقة بعض المخلوقات على صغرها وإحاطته بها فكيف بالله رب العالمين؟
هذا الكلام مهم جداً وينبغي الاهتمام به وهو أن دراسة الأسماء والصفات والنظر فيها إنما هو ليثمر العبادة فالرسل جاءت معرفة بالله عز وجل تمام التعريف حتى تقوم العبادة حق القيام ولذلك قال في من طلب صفات لم يصف الله سبحانه وتعالى بها نفسه قال: إذا لم تعرف قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف هل تستدل بذلك على شيء من طاعته؟ يعني هل بحثك في هذا يزيدك طاعة له أو تنزجر به عن شيء من معصيته؟ وهذا يفيد أن معرفة الأسماء والصفات إنما هي لأجل تحقيق كمال العبودية لله سبحانه وتعالى.
(اعرف - رحمك الله - غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها؛ إذا لم تعرف قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف؟ هل تستدل بذلك على شيء من طاعته أو تزدجر به عن شيء من معصيته؟ فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا فقد ﴿اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ﴾([4]) فصار يستدل - بزعمه - على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال: لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا) هذه من اللوازم التي يقولها المتكلمون إذا أثبتنا أنه سميع أو أنه بصير أو أثبتنا الصفات فهذا يقتضي الحدوث ويقتضي أن تحله الحوادث وما حلته الحوادث فهو حادث وما إلى ذلك من اللوازم الباطلة والخيالات الفاسدة.
البين هو ما أثبته الله لنفسه في كتابه والخفي هو هذه الخيالات والمقدمات الفاسدة التي تنقض من أصلها فعـموا عن البين يعني عما ذكره الله في كتابه ذكرا بينا بالخفـي الذي استندوا فيه إلى عقولهم الفاسدة. (فعمى عن البين بالخفي فجحد ما سمى الرب من نفسه لصمت الرب عما لم يسم منها فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله عز وجل: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾([5])جحد أن يرى سبحانه وتعالى جحد أن يراه أهل الإيمان وهذا عليه أكثر أهل الكلام(فقال: لا يراه أحد يوم القيامة فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ونضرته إياهم ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾([6]) قد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينضرون. إلى أن قال: - وإنما جحد رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة؛ لأنه قد عرف أنه إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين وكان له جاحدا. (وقال المسلمون: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب. قالوا: لا. قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك)([7]).