قال: (وكذلك قوله:﴿ إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ﴾([1]) ليس معناه أن يحدث له سمعاً ولا تكلف بسمع ما كان من قولهم وقد ذهب قوم من " أهل السنة " أن الله استماعاً في ذاته فذهبوا إلى أن ما يعقل من أنه يحدثمنهم علم سمع لما كان من قول؛ لأن المخلوق إذا سمع حدث له عقل فهم عما أدركته أذنه منالصوت. وكذلك قوله:﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾([2])لا يتحدث بصراً محدثاً في ذاته وإنما يحدث الشيء فيراه مكوناً كما لم يزل يعلمه قبل كونه. إلى أن قال: " وكذلك قوله تعالى﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾([3]) وقوله:﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾([4])وقوله:﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾([5])وقوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾([6])وقال:﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾([7])وقال:﴿تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾([8])وقال لعيسى:﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾([9])وقال:﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾([10])وقال:﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ وذكر الآلهة: أن لو كان آلهة لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا حيث هو فقال:﴿ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً﴾([11]) أي طلبه وقال:﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى﴾([12]) قال أبو عبد الله: فلن ينسخ ذلك لهذا أبدا. كذلك قوله:﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ﴾([13])وقوله:﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾([14])وقوله:﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾([15]) وقوله:﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ ﴾([16])الآية فليس هذا بناسخ لهذا ولا هذا ضد لذلك.
هذا النقل عن الحارث المحاسبي صلة ما تقدم من النقل السابق الذي بدأه رحمه الله بقوله: (وأن النسخ لا يجوز في الأخبار)وسبب سياق هذه القاعدة أن بعض المشبهين يتمسكون ببعض النصوص التي يضربون بعضها ببعض ويحتجون بها على إبطال ما أثبته الله تعالى لنفسه من الصفات. فذكر رحمه الله : ﴿إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ﴾([17])وقوله :﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾([18]) ثم ذكر آيات العلو الثابت التي يثبت بها علو الله سبحانه وتعالى وما قد يشكل عليها من الآيات التي فيها أن الله سبحانه و تعالى كقوله﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ﴾([19])﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾([20])التي يستدل بها من يستدل على أنه سبحانه وتعالى في كل مكان.
قال إن هذه الآيات ليست بناسخة للآيات التي فيها إثبات العلو أو فيها إثبات أنه سبحانه وتعالى بصير وأنه سميع. فإذا كانت ليست بناسخة فيجب أن تفهم على الوجه الذي وردت به. فصفة السمع والبصر صفات ذاتية له سبحانه وتعالى فهو ما زال سميعاً بصيراً أزلاً وأبداً. فهو سبحانه و تعالى السميع البصير في الأزل والأبد وهو لا ينفك عن هذه الصفة.
وما أخبر به من استماعه سبحانه وتعالى لحديث معين كقوله ﴿إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ﴾وكقوله جل و علا في سورة المجادلة ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ﴾([21])فهذه كما تقدم بيانه أن السمع حادث عند حدوث المسموع. فالسمع صفة ذاتية باعتبار الأصل وأما باعتبار أفراد المسموعات وأفراد المبصرات فإن السمع صفة فعلية و قررنا مثل هذا أيضاً في الإرادة ونحوها من الصفات الذاتية ولا تنافي بين هذا وبين ما أثبته الله لنفسه مطلقاً يعني من دون تقييد كقوله : ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾([22])فلا تنافي بين التقييد في قوله: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ﴾وفي قوله: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ﴾ وفي قوله : ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم﴾([23])و في قوله أيضاً:﴿ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾([24])و ما إلى ذلك من الآيات فلا تعارض وأما الآيات التي ذكرها بخصوص العلو فالآيات الدالة على علوه كثيرة وقد تقدم ذكر أدلة العلو وأن العلو دل عليه الكتاب والسنة و الإجماع والعقل والفطرة وأما الآيات التي شغبوا بها على هذه الصفات كقوله ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾([25])فلا تعارض فهو جل وعلا إله من في السماوات وإله من في الأرض و قوله ﴿في﴾هنا ليست مكانية يعني لا تدل على أن الله سبحانه وتعالى حال في الأرض تعالى الله جل وعلا عن ذلك علواً كبيراً فأنت تقول: زيد أمير البصرة وأمير الكوفة وهو في إحدها. ولا يفهم من قولك: إنه أمير للبصرة والكوفة إنه حال في البصرة وحال في الكوفة وهذا أسلوب عربي لا إشكال فيه ولا يبطل ما ثبت في النصوص من أن الله سبحانه وتعالى عال على عرشه بائن من خلقه. كذا ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾([26])هذه الآيات تقدم لنا في شرح الواسطية أن أهل التفسير اختلفوا في مرجع الضمير هنا هل هو عائد إلى الله جل وعلا أم إلى ملائكته وذكرنا أن الراجح عوده إلى الملائكة وأن قوله: ﴿ونحن﴾ هنا للتعظيم وهو قرب العبيد كقوله سبحانه وتعالى في الآيات التي أخبر فيها سبحانه وتعالى بإرجاع الضمير إليه والفاعل فيها غيره سبحانه وتعالى و أيضاً: يدل على هذا التوجيه أن القرب هنا مقيد فالآية التي سبقتها قال الله تعالى فيها: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾([27])أي و العامل في الظرف إذ هو في الجملة ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾فإذا كان كذلك فإن هذا القرب قرب خاص وهو قرب الملائكة الذين أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم أنهم يكتبون على العبد ويحصون عليه أعماله.
والقرب المذكور في كتابه سبحانه و تعالى و في سنة رسوله ليس كالمعية فالمعية معية عامة كما جاء ذلك في قوله تعالى:﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ﴾([28])وأما القرب فهو قرب خاص وهو قرب في أحوال محددة وفي أوصاف محددة فمن الأحوال التي يكون فيها جل وعلا قريباً لعبيده كقربه سبحانه وتعالى من أهل الموقف يوم عرفة وأما قرب الأوصاف كقربه من الداعي في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾([29])فهو قريب من الداعي وكقربه أيضا من الساجد كقوله صلى الله عليه وسلم: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد))([30])وكقربه أيضاً من المستغفر ﴿فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾([31])فهذه الآيات كلها وهذه النصوص كلها تدل على أن القرب الذي أثبته لنفسه قرب خاص وليس قرباً عاماً. وهذه الآية فيها أنه قرب عام وهذا ليس له سبحانه وتعالى وإنما لجنده من الملائكة الذين يحصون ويكتبون ما يحصل ويكون من الخلق فلا تعارض هذه الآية دلالة النصوص الأخرى الدالة على علوه جل وعلا وكذلك قوله:﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾([32]) على القول بوصل القراءة وان الوقف فيها في آخرها ليس في قوله:﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ لأن بعض القراء يقف على قوله: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ثم يقول ﴿وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾ وبعضهم يقول : الوقفين على قوله : ﴿وَجَهْرَكُمْ﴾وعلى كلا القراءتين لا إشكال. أما على الأول فلا إشكال وأما على الثاني فأيضاً لا إشكال فهو قد بين معنى كونه جل وعلا في الأرض وأنه مع الخلق في الأرض بعلمه جل وعلا وأما هو سبحانه وتعالى فهو العالي على خلقه البائن منهم. وكذا في قوله:﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾([33])هذه آية المعية وهي معية العلم كما فسرها بذلك سلف الأمة.
قال:(واعلم أن هذه الآيات ليس معناها أن الله أراد الكون بذاته فيكون في أسفل الأشياء أو ينتقل فيها لانتقالها ويتبعض فيها على أقدارها ويزول عنها عند فنائها جل وعز عن ذلك)هذا مقتضى كونه جل وعلا في كل مكان أن يكون متبعضاً وأن ينتقل فيها بانتقالها ويتبعض فيها على أقدارها ويزول عنها عند فناءها. هذا من لوازم القول بأنه سبحانه وتعالى في كل مكان تعالى الله عن ما يقولون علواً كبيراً ولذلك أشتد نكير أئمة السلف على من قال: إن الله جل وعلا في كل مكان وجعلوه من الأقوال الكفرية البينة لتكذيبه ما في القرآن وما في السنة ولما يلزم عليه من اللوازم الباطلة .
قال:(وقد نزع بذلك بعض أهل الضلال؛ فزعموا أن الله تعالى في كل مكان بنفسه كائنا كما هو على العرش؛ لا فرقان بين ذلك ثم أحالوا في النفي بعد تثبيت ما يجوز عليه في قولهم ما نفوه؛ لأن كل من يثبت شيئا في المعنى ثم نفاه بالقول لم يغن عنه نفيه بلسانه واحتجوا بهذه الآيات أن الله تعالى في كل شيء بنفسه كائنا ثم نفوا معنى ما أثبتوه فقالوا: لا كالشيء في الشيء).يقولون: إن الله في كل مكان ثم يقولون : هو في كل مكان لا كالشيء في الشيء حتى يتخلصوا من أن تحله الحوادث أو أن يحل الحوادث. ولذلك لما تناقضوا في قولهم كان تناقضهم دليلاً على فساد قولهم.
قال:(قال: " أبو عبد الله لنا قوله: ﴿حَتَّى نَعْلَمَ﴾ وقوله: ﴿فَسَيَرَى اللَّهُ﴾وقوله:﴿إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ﴾فإنما معناه حتى يكون الموجود فيعلمه موجودا ويسمعه مسموعا ويبصره مبصرا لا على استحداث علم ولا سمع ولا بصر) هذا معناه لا على استحداث علم ولا سمع ولا بصر.
ثم قال: (وأما قوله:﴿وإذا أردنا﴾ إذا جاء وقت كون المراد فيه. وإن قوله:﴿على العرش استوى﴾ ﴿وهو القاهر فوق عباده﴾([34]) الآية. ﴿أأمنتم من في السماء﴾([35]) ﴿ إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً﴾([36]) فهذا وغيره مثل قوله:﴿تعرج الملائكة والروح إليه﴾([37]) ﴿إليه يصعد الكلم الطيب﴾([38])هذا منقطع يوجب أنه فوق العرش فوق الأشياء كلها منزه عن الدخول في خلقه لا يخفى عليه منهم خافية؛ لأنه أبان في هذه الآيات أنه أراد أنه بنفسه فوق عباده؛ لأنه قال: ﴿أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض﴾([39]) يعني فوق العرش والعرش على السماء؛ لأن من قد كان فوق كل شيء على السماء في السماء).يريد أن يبين أن ﴿في﴾في قوله : ﴿أأمنتم من في السماء﴾بمعنى (على).
قال (وقد قال مثل ذلك في قوله:﴿فسيحوا في الأرض﴾([40]) يعني على الأرض؛ لا يريد الدخول في جوفها وكذلك قوله:﴿يتيهون في الأرض﴾([41]) يعني على الأرض؛ لا يريد الدخول في جوفها وكذلك قوله:﴿ولأصلبنكم في جذوع النخل﴾([42]) يعني فوقها عليها. وقال:﴿أم أمنتم من في السماء﴾ ثم فصل فقال: ﴿أن يخسف بكم الأرض﴾ ولم يصل فلم يكن لذلك معنى - إذا فصل قوله: ﴿من في السماء﴾ ثم استأنف التخويف بالخسف - إلا أنه على عرشه فوق السماء) لو كان في الأرض كما هو في السماء يعني على قولهم و أنه في كل مكان لكان مخسوفا به تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. هذا معنى قوله:﴿أأمنتم من في السماء﴾ ثم فصل فقال : ﴿أن يخسف بكم الأرض﴾فذكر جل وعلا علوه ثم ذكر تهديده وهو خسفه سبحانه وتعالى لمن خالف أمره.
قال: وقال تعالى:﴿ يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه﴾([43]) وقال:﴿ تعرج الملائكة والروح إليه﴾([44])فبين عروج الأمر وعروج الملائكة ثم وصف وقت صعودها بالارتفاع صاعدة إليه فقال:﴿في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة﴾([45])فقال: صعودها إليه وفصله من قوله إليه كقول القائل: أصعد إلى فلان في ليلة أو يوم وذلك أنه في العلو وإن صعودك إليه في يوم فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى الله عز وجل وإن كانوا لم يروه ولم يساووه في الارتفاع في علوه فإنهم صعدوا من الأرض وعرجوا بالأمر إلى العلو قال تعالى:﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾([46])ولم يقل عنده).
لو كان سبحانه في غير العلو لما احتاجت الملائكة إلى الصعود ولا الأعمال إلى صعود و لا أن يقول جل و علا :﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾([47])إذا كان في كل مكان.
(وقال فرعون:﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً﴾([48]) ثم استأنف الكلام فقال:﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً﴾ فيما قال لي إن إلهه فوق السموات. فبين الله سبحانه وتعالى أن فرعون ظن بموسى أنه كاذب فيما قال: وعمد لطلبه حيث قاله مع الظن بموسى أنه كاذب ولو أن موسى قال: إنه في كل مكان بذاته لطلبه في بيته أو في بدنه أو حشه. فتعالى الله عن ذلك ولم يجهد نفسه ببنيان الصرح. قال أبو عبد الله: وأما الآي التي يزعمون أنها قد وصلها - ولم يقطعها كما قطع الكلام الذي أراد به أنه على عرشه - فقال:﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾([49]) فأخبر بالعلم ثم أخبر أنه مع كل مناج ثم ختم الآية بالعلم بقوله:﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾([50])هذه الآية فيها أنه سبحانه وتعالى أخبر عن نفسه بأنه مع كل مناج ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾([51]) فبدأ هذه الآية التي فيها الأخبار بمعيته سبحانه وتعالى لكل مناج بدأها بالعلم فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ وختمها بقوله:﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فدل ذلك على أن المعية المذكورة في هذه الآية هي معية العلم.
قال:(فبدأ بالعلم وختم بالعلم: فبين أنه أراد أنه يعلمهم حيث كانوا؛ لا يخفون عليه ولا يخفى عليه مناجاتهم. ولو اجتمع القوم في أسفل وناظر إليهم في العلو. فقال: إني لم أزل أراكم وأعلم مناجاتكم لكان صادقاً - ولله المثل الأعلى أن يشبه الخلق) إذا كان هذا ليس ممتنعاً في حق الخلق فكيف نقول: إنه يمتنع في حق الخالق.
قال:(فإن أبوا إلا ظاهر التلاوة وقالوا: هذا منكم دعوى خرجوا عن قولهم في ظاهر التلاوة) الآن يلزمهم على قولهم بأن الآية تدل على أنه في كل مكان. فبعد أن أجاب بالمنع الآن يجيب بالتسليم يقول :نسلم أن الآية تدل على ما تقولون ثم يناقشهم فيقول:(لأن من هو مع الاثنين فأكثر؛ هو معهم لا فيهم ومن كان مع شيء خلا جسمه وهذا خروج من قولهم) أن كونه مع الشيء لا يستلزم أن يخالطه وأن يكون ممازجاً له قد يكون مع الشيء وهو بعيد عنه فعلى قولكم بأن الآية تدل على هذا نقول: إن ظاهر التلاوة يدل على أنه سبحانه وتعالى في كل مكان بل هو سبحانه وتعالى مع كل أحد إلا أنه خال عنه بعيد عنه سبحانه وتعالى.
قال: (وكذلك قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾([52]) لأن ما قرب من الشيء ليس هو في الشيء ففي ظاهر التلاوة على دعواهم أنه ليس في حبل الوريد) قرب الشيء من الشيء لا يلزم حلوله فيه. ففي ظاهر التلاوة على دعواهم يعني على ما أدعوا من أن ظاهر التلاوة يدل على أنه في كل شيء دعواهم أنه ليس في حبل الوريد بل هو قد أخبر سبحانه وتعالى على القول بأن المقصود بالضمير هو الله جل وعلا أنه أقرب إليه من حبل الوريد لا أنه هو سبحانه وتعالى في حبل الوريد كما يزعمون لأن من لازم قولهم: إنه في كل شيء أن يكون في حبل الوريد أيضاً.
قال:(وكذلك قوله :﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ﴾([53])لم يقل ﴿فِي السَّمَاءِ﴾ ثم قطع كما قال:﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾([54]) ثم قطع فقال :﴿أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ﴾ فقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ﴾ يعني إله أهل السماء وإله أهل الأرض وذلك موجود في " اللغة " تقول: فلان أمير في خراسان وأمير في بلخ وأمير في سمرقند؛ وإنما هو في موضع واحد ويخفى عليه ما وراؤه فكيف العالي فوق الأشياء لا يخفى عليه شيء من الأشياء يدبره فهو إله فيهما إذ كان مدبراً لهما وهو على عرشه وفوق كل شيء تعالى عن الأشباه والأمثال " ا هـ.
تبين بهذا أن الآيات التي شبهوا بها في إنكار ما أثبته الله لنفسه لا تدل على ما ذهبوا إليه من التأويل وإنما هي خيالات تمسكوا لتقريرها بشبه
وقد قال الله عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾([55]) فالواجب التمسك بالمحكم وحمل المتشابه عليه لا الإعراض عن المحكم والتمسك بالمتشابه فإن هذا سبيل الذين زاغت قلوبهم ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ﴾([56]).