(ومما نعتقده أن الله أباح المكاسب والتجارات والصناعات وإنما حرم الله الغش والظلم وأما من قال بتحريم تلك المكاسب فهو ضال مضل مبتدع؛ إذ ليس الفساد والظلم والغش من التجارات والصناعات في شيء إنما حرم الله ورسوله الفساد؛ لا الكسب والتجارات؛ فإن ذلك على أصل الكتاب والسنة جائز إلى يوم القيامة وإن مما نعتقد أن الله لا يأمر بأكل الحلال ثم يعدمهم الوصول إليه من جميع الجهات؛ لأن ما طالبهم به موجود إلى يوم القيامة؛ والمعتقد أن الأرض تخلو من الحلال والناس يتقلبون في الحرام؛ فهو مبتدع ضال إلا أنه يقل في موضع ويكثر في موضع؛ لا أنه مفقود من الأرض. ومما نعتقده أنا إذا رأينا من ظاهره جميل لا نتهمه في مكسبه وماله وطعامه؛ جائز أن يؤكل طعامه والمعاملة في تجارته؛ فليس علينا الكشف عما قاله. فإن سأل سائل على سبيل الاحتياط؛ جاز إلا من داخل الظلمة. ومن ينزع عن الظلم وأخذ الأموال بالباطل ومعه غير ذلك: فالسؤال والتوقي؛ كما سأل الصديق غلامه؛ فإن كان معه من المال سوى ذلك مما هو خارج عن تلك الأموال فاختلطا فلا يطلق عليه الحلال ولا الحرام إلا أنه مشتبه؛ فمن سأل استبرأ لدينه كما فعل الصديق. وأجاز ابن مسعود وسلمان الأكل منه وعليه التبعة والناس طبقات والدين الحنيفية السمحة).
هذا المقطع فيه بيان ما يعتقد في المكاسب و التجارات وأن الله سبحانه وتعالى أباحها ولا شك في هذا. و الأصل في المعاملات الحل , دل على ذلك الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم و مصادر التحريم في المعاملات ثلاثة: الربا ، والغرر ، و الظلم ويضاف أمر رابع وهو ما أدى إلى هذه الأمور. كل ما أدى على هذه الأمور من المعاملات فإنه يمنع لأنه وسيلة إلى المحرم ووسيلة المحرم محرمة. وإنما ذكر الشيخ رحمه الله هذا ليرد على بعض الصوفية الذين يتورعون عن أكل أموال الناس إذا جاءت من سبيل مشروع أي من سبيل مباح. ويعتذرون في التنزه عن أموال الناس و أنها محرمة أنه امتنع الحلال في هذه الأعصار لكثرة المعاملات المحرمة في زمانه وفي زماننا من باب أولى ولكن هذا الكلام غير صحيح لأن الأصل في أموال الناس الإباحة أي أنها مباحة ويباح التعامل معهم فيها بالتجارات و بغيرها. ولكن إذا علم أن المال الفلاني محرم كأن يكون قد غصبه أو سرقه فهنا لا يجوز التعامل معه لعلمه بتحريم هذا المال وأما من اشتبه ماله فاختلط فيه الحلال والحرام فالأصل إباحة معاملته إلا إذا علم أن المعاملة تقوم على محرم كأن يدفع إليه عوضاً من مال يعلم أنه كسبه من محرم فهنا يمتنع من أخذه على أن بعض أهل العلم كما ذكر الشيخ رحمه الله أجاز معاملاتهم حتى فيما علم أنهم كسبوه من محرم لأن الكسب عليهم وتبعة ذلك وأثم الكسب المحرم عليهم وأما هذا فقد أخذه من طريق مباح وهي المعاملة والتجارة التي قال الله سبحانه وتعالى فيها :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾([1])فلم يشترط للتجارات وسائر المعاوضات إلا أن تكون عن تراض وذكر هذا في هذه الرسالة استطراداً و إلا فليس له صلة بباب الاعتقاد إلا في الرد على من اعتقد تحريم المكاسب فهنا يبين له أنه مخطئ.
قال : (وإن مما نعتقد أن العبد ما دامت أحكام الدار جارية عليه فلا يسقط عنه الخوف والرجاء وكل من ادعى " الأمن " فهو جاهل بالله وبما أخبر به عن نفسه: ﴿فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ وقد أفردت كشف عورات من قال بذلك. ونعتقد: أن العبودية لا تسقط عن العبد ما عقل وعلم ما له وما عليه ((فيبقى)) على أحكام القوة والاستطاعة؛ إذ لم يسقط الله ذلك عن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ومن زعم أنه قد خرج عن رق العبودية إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية والخروج إلى أحكام الأحدية المسدية بعلائق الآخرية: فهو كافر لا محالة؛ إلا من اعتراه علة أو رأفة؛ فصار معتوها أو مجنونا أو مبرسماً).
الشيخ رحمة الله في هذا المقطع يتكلم في الرد على الصوفية الغلاة الذين يقولون : إن الإنسان يبلغ درجة من العبودية يسقط فيها عنه التكليف وهذا كذب وبهتان فالتكليف لا يسقط عن أحد بل قد قال الله جل وعلا لنبيه الذي غفر له من ذنبه ما تقدم وما تأخر : ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾([2])أي حتى يأتيك الموت فالعبادة لا تنقطع إلا بانقطاع الأجل. أما ما دام العرق ينبض والعين تلحظ والنفس يتردد فإن العبادة لازمة للعبد لا ينفك عنها بحال ومن أدعى أنه يخرج عن العبودية إلى فضاء الحرية يعني إلى عدم العبادة فهو كافر بإجماع أهل العلم وأما قوله (إلى أحكام الأحدية) فهذا ما يعتقده بعض الصوفية من اتحاد الله جل وعلا لبعض خلقه فيكون العابد معبودا والمعبود عابدا وهذا كذب وبهتان وضلال مبين.
(وقد اختلط عقله أو لحقه غشية يرتفع عنه بها أحكام العقل وذهب عنه التمييز والمعرفة؛ فذلك خارج عن الملة مفارق للشريعة.ومن زعم الإشراف على الخلق: يعلم مقاماتهم ومقدارهم عند الله - بغير الوحي المنزل من قول رسول صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الملة)ولا شك أنه كفر لأن من ادعى علم مقامات الخلق ومقادير هم فقد ادعى علم الغيب وقد قال الله جل وعلا : ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾([3])فعلم الغيب لله وحده لا شريك له فيه إلا ما أظهره سبحانه وتعالى وبينه فهذا يرجع فيه إلى بيانه وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فالواجب الوقوف في ذلك على ما أخبر سبحانه وتعالى.
قال: (ومن ادعى أنه يعرف مآل الخلق ومنقلبهم وعلى ماذا يموتون عليه ويختم لهم - بغير الوحي من قول الله وقول رسوله - فقد باء بغضب من الله. و " الفراسة " حق على أصول ما ذكرناه)هذا المقطع ذكره الشيخ هنا لأنهم يدعون أنهم يقفون على هذه الأمور كمعرفة مقامات الخلق ومقاديرهم ومنقلبهم ومآلهم بالفراسة والفراسة أمر غير علم الغيب. فعلم الغيب لا يعلمه إلا الله جل وعلا و أما الفراسة فهي تأمل ونظر وكشف يأتيه الله سبحانه وتعالى بعض خلقه ولكنهم لا يجزمون ولا يدعون علم ما لم يعلمون بل يستأنسون بها ويعرفون بها بعض أحوال الرجال وأحوال الناس فهو معرفة الشيء بمقدماته بخلاف الغيب فانه لا مقدمات له هو علم استأثر الله به ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا زراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها))([4])وذكر العكس صلى الله عليه وسلم فعلم الغيب أمره إلى الله لا يعلمه أحد والفراسة هي نظر في أحوال الناس بمقدمات يستأنس بها لكن لا يجزم بها وقد ذكرت في كتاب الله كما في قوله تعالى :﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾([5])قال المفسرون : للمتفرسين أي أهل الفراسة و ذكرت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما رواه الترمذي ((اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله))([6])وبه تعلم أن الفراسة أمر غير علم الغيب لأنها مستمدة من الهام الله عز وجل وما يقذفه في قلب العبد ولا يجزم بها والحديث هذا اختلف أهل العلم في ثبوته على قولين منهم من ضعفه ومنهم من أثبته وقد حسنه الشوكاني لكثرة طرقه ويذكره ابن القيم رحمه الله استدلالاً.
قال: (وليس ذلك مما رسمناه في شيء ومن زعم أن صفاته تعالى بصفاته - ويشير في ذلك إلى غير آية العظمة والتوفيق والهداية - وأشار إلى صفاته عز وجل القديمة: فهو حلولي قائل باللاهوتية والالتحام وذلك كفر لا محالة). و من زعم أن صفاته جل وعلا مشتركة بصفاته أي بصفات البشر فالضمير الأول مرجعه إلى الله والثاني إلى البشر. و يشير بذلك إلى آية العظمة و التوفيق و الهداية و أشار إلى صفاته عز وجل القديمة فهو حلولي يعني ومن قال : إن صفاته تحل فيه فهو حلولي قائل باللاهوت والالتحام وهو قول النصارى الذين يقولون بأن الله يحل ببعض خلقه وذلك كفر لا محالة. نعوذ بالله من ذلك.
قال: (ونعتقد أن الأرواح كلها مخلوقة. ومن قال إنها غير مخلوقة فقد ضاهى قول النصارى - النسطورية - في المسيح وذلك كفر بالله العظيم) النسطورية : فرقة من فرق النصارى عدلت أئمتهم و بدلت في الإنجيل على حسب آرائهم و أهوائهم وهم من جملة النصارى الكفار الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ومن قال: إن شيئا من صفات الله حال في العبد؛ أو قال بالتبعيض على الله فقد كفر؛ والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ولا حال في مخلوق؛ وأنه كيفما تلي وقرئ وحفظ: فهو صفة الله عز وجل؛ وليس الدرس من المدروس ولا التلاوة من المتلو لأنه عز وجل بجميع صفاته وأسمائه غير مخلوق ومن قال بغير ذلك فهو كافر. ونعتقد أن القراءة " الملحنة " بدعة وضلالة. وأن " القصائد " بدعة).
الشيخ رحمه الله في هذه الرسالة يجيب عن كثير من بدع الصوفية ومنها ما ذكره هنا القراءة الملحنة وهي التي يعتاضون بها عن كلام الله وعن كلام رسوله وهي أيضاً القراءة التي يتكلف لها التلحين فتكون على إيقاعات معينة و حركات مدروسة ويتفرغون لذلك ويتعلمونه وليس المراد القراءة الملحنة التي ليس فيها تكلف ولا تعلم وقد تكلم على هذه المسألة ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد كلاماً مطولاً وانتهى في نهاية بحثه إلى أن القراءة الملحنة قسمان: -
الأول : ما لم يكن فيه تكلف ولا تعلم وإنما هو موافق للسجية والطبيعة فهذا لا بأس به.
والثاني : ما فيه تكلف وتعلم وتحديد إيقاعات وحركات معينة فهذا ممنوع. وقد تكلم على هذا في المجلد الأول وبحثه فيه مفيد.
([6]) أخرجه : الترمذي (3127) من طريق محمد بن إسماعيل البخاري عن أحمد بن أبي الطيب عن مصعب بن سلام عن عمرو بن قيس عن عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري . قال الترمذي: هذا حديث غريب إنام نعرفه من هذا الوجه . وضعفه الألباني ، فيه : عطية العوفي ضعفه أحمد وأبو حاتم وغيرهما ، وكذا مصعب بن سلام ضعفه ابن معين وابن المديني .