الخطبة الأولى
إِنَّ الْحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ.
فَيا أَيُّها المؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ، وَلا تُمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ..
اشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالانْتِسابِ إِلَى الإِسْلامِ، الَّذِي هُوَ دِينُ اللهِ، وَبِأَنْ جَعَلَكُمْ مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فَإِنَّ هَذِهِ أَجَلُّ النِّعَمِ وَأَعْظَمُها.
أَيُّها المؤْمِنُونَ.
إِنَّ خَيْرِيَّةَ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَىَ سائِرِ الأُمَمِ لَيْسَتْ نابِعَةً عَنْ مُجامَلَةٍ، أَوْ مُحاباةٍ، أَوْ اخْتِصاصٍ بِلا مُسَوِّغٍ، بَلْ هِيَ مُنْبَثِقَةٌ عَمَّا ذَكَرَهُ اللهُ تَعالَىَ عَنْها في كِتابِهِ، حَيْثُ قالَ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )سُورَةُ آلِ عِمْرانَ: 110.
فَمَناطُ الخَيْرِيَّةِ في أُمَّةِ الإِسْلامِ يا عِبادَ اللهِ مَوْصُولُ العُرَىَ بِالأَمْرِ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنْكَرِ، المنْبَثِقِ مِنَ الإيمانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنِ اتَّصَفَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ بِهَذِهِ الصَّفاتِ تَحقَّقَتْ فِيهِ الخَيْرِيَّةُ وَإِلَّا فَلا، قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَما قَرَأَ هَذِهِ الآيَةِ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ فَلْيُؤَدِّ شَرْطَ اللهِ فِيها جامِعُ البَيانِ 7 / 102.
أَيُّها المؤْمِنُونَ.
إِنَّ الأَمْرََ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المنْكَرِ هُوَ القُطْبُ الأَعْظَمُ لِلدِّينِ، وَهُوَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ بَعَثَ اللهُ المرْسَلِينَ، وَهُوَ مُهِمَّةُ وَوَظِيفَةُ خاتَمِ النَّبِيِّينَ، قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ)سُورَةُ الأَعْرافِ: 157، فاللهُ تَعالَىَ بَعَثَ مُحَمَّداً ناهِياً عَنِ المنْكَرِ، دَاعِياً إِلَىَ المعْرُوفِ، عَلَىَ هُدَىً وَبَصِيرَةٍ.
عِبادَ اللهِ.
إِنَّ الأَمْرَ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المنْكَرِ شَعِيرَةٌ دِينِيَّةٌ، أَمَرَ اللهُ بِها المؤْمِنينَ، فَقالَ تَعالَى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)سُورَةُ آلِ عِمْرانَ: 104. وَقَدْ قالَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ رَأَىَ مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (34) مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
أَيُّها المؤْمِنُونَ.
إِنَّ الأَمْرَ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المنْكَرِ مِنْ أَبْرَزِ صِفاتِ المؤْمِنينَ؛ وَلِذَلِكَ قالَ سُبْحانَـهُ: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)سُورَةُ التَّوْبَةِ: 71.
أيها المؤمنون.
لَقَدْ لَعَنَ اللهُ عَلَىَ لِسانِ رُسُلِهِ قَوْماً، تَرَكُوا الأَمْرَ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المنْكَرِ، فَقالَ تَعالَى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)سورة المائدة: 78 -79
عِبادَ اللهِ، أَيُّها المؤْمِنُونَ..
إِنَّ الأَمْرَ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المنْكِرِ مِنْ أَعْظَمِ الواجِباتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالشَّعائِرِ الدِّينِيَّةِ، قالَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ: "إِنَّ الأَمْرَ بِالمعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ المنْكَرِ مِنْ أَوْجَبِ الأَعْمالِ وَأَفْضَلِها، وَأَحْسَنِها عِنْدَ اللهِ" الاسْتِقامَةَ 2/226
أيها المؤمنون.
إِنَّ هَذِهِ المنْزِلَةَ العالِيَةَ، الَّتِي جَعَلَها اللهُ لِلأَمْرِ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المنْكَرِ، إِنَّما هِيَ لأَجْلِ ما يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الفَوائِدِ الكِبارِ، وَالمصالِحِ العِظامِ، الَّتِي تَعُودُ عَلَىَ الآمِرِ وَالنَّاهِيَ، وَعَلَىَ المأْمُورِ وَالمنْهِيِّ، بَلْ يَعُودُ خَيْرُها عَلَىَ الأُمَّةِ بِأَسْرِها.
فَمِنْ أَبْرَزِ فَوائِدِ الأَمْرِ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنْكَرِ: القِيامُ بما أمرَ اللهُ سبحانه وتعالى به، فإن اللهَ َسبحانه أمرَ به، كما قال جل ذكره: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)سُورَةُ آلِ عِمْرانَ: 104، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَأَىَ مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُغَيِّرْهُ بِلِسانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمانِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (34) مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فَبِالأَمْرِ بِالمعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ المنْكَرِ تَقُومُ الحُجَّةُ عَلَىَ الخَلْقِ، وَالشَّهادةُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ اللهََ بَعَثَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرينَ، آمِرينَ بِالمعْرُوفِ ناهِينَ عَنِ المنْكَرِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَىَ اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، قالَ الإِمامُ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ: "وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَأْمُروا بِطاعَةِ اللهِ، فَإِنَّ عُصُوا كانُوا شُهُوداً عَلَىَ مَنْ عَصاهُمْ" الذَّخِيرَةُ 13/304.
أَيُّها المؤْمِنُونَ.
إِنَّ مِنْ فَوائِدِ الأَمْرِ بِالمعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ المنْكَرِ إِقامَةَ الملَّةِ وَالشَّرِيعَةَ، وَحِفْظَ الدِّينِ وَالشَّعائِرِ، قالَ تَعالَى: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)سُورَةُ البَقَرَةِ: 251، فَبِالأَمْرِ بِالمعْرُوفِ تَقُومُ الشَّرِيعَةُ، وَبِالنَّهْيِ عَنِ المنْكَرِ تَنْدَثرُ الرَّذِيلَةُ وَالمعْصِيَةُ.
وَمِنْ فَوائِدِ الأَمْرِ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنْكَرِ الكِبارِ، وَحَسناتِهِ العِظامِ يا عِبادَ اللهِ: أَنَّ اللهَ جَعَلَهُ سَبَباً لِدَفْعِ العُقوباتِ العامَّةِ وَرَفْعِها، فَإِنَّ تركَ هذه الشعيرةِ العظيمةِ من أهم أسبابِ وقوعِ العقوباتِ، فالأمرُ بالمعروف سياجُ الإيمان، والعصامُ من وقوع غضب اللهِ الواحدِ الدَّيَّانِ، قال الله تعالى: ﴿فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ)سُورَةُ هُود: 116، وَقالَ سُبْحانَهُ: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)سُورَةُ هُود: 117، وَفِي مُسْنَدِ الإِمامِ أَحْمدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ حُذَيْفةَ رَضِيَ اللهُ عنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتَدْعُوُنَّهُ فَلاَ يَسْتَجِيبُ لَكُمْ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ (22790)، وَالتِّرْمِذِيُّ (2196) وَحَسَّنَهُ..
قال ابنُ العربي رحمه الله: "وهذا فقهٌ عظيمٌ، وهو أن الذنوبَ منها ما يعجِّلُ اللهُ عقوبتَه، ومنها ما يمهلُ به إلى الآخرةِ، والسُّكُوتُ عَنِ المنْكَرِ تَتَعَجَّلُ عُقُوبَتُهُ في الدُّنْيا، بِنَقْصِ الأَمْوالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ، وَرُكُوبِ الذُّلِّ مِنَ الظَّلَمَةِ لِلخَلْقِ".
وَهَذا يُبَيِّنُ يا عِبادَ اللهِ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعالَىَ في الأُمَمِ وَالمجْتَمعاتِ، فَإِنَّ الأُمَّةَ الَّتي يَقَعُ فِيها الظُّلْمُ وَالفَسادُ، فَيَنْهَضُ لَهُما مَنْ يَدْفعُهُما وَيُنْكرُهُما، هِيَ أُمَّةٌ ناجِيَةٌ، لا يَأْخُذُها اللهُ بِالعَذابِ وَالتَّدْمِيِرِ، أَمَّا الأُمَّةُ الَّتِي يَظْلِمُ فِيها المسْتَبِدُّونَ، وَيَفسْدُ فِيها المفْسِدُونَ، فَلا يَكُونُ فِيها مَنْ يُنْكِرُ المنْكِرَ، وَيُجابِهُ الفَسادَ، أُمَّةٌ مُهَدَّدَةٌ بِالدَّمارِ وَالعِقابِ العامِ، فَالأَخْذُ بِالأَمْرِ باِلمعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنْكَرِ صِمامُ أَمانٍ، وَسَببُ نَجِاةٍ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ.
إِنَّ مِنْ حَسناتِ الأَمْرِ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنْكَرِ انْقِماعَ الفَسادِ وَأَهْلِهِ، وَانْخِناسَ الشَّيْطانِ وَجُنْدِه وَانْدِحارَ الشَّرِّ وَحِزْبِهِ، فَكُلَّما نَشَطَ الخَيْرُ ضَعُفَ الباطِلُ، وَكُلَّما أَشْرَعَ المعْرُوفُ أَعْلامَهُ طُوِىَ الشَرُّ وَالفَسادُ شِراعَهُ.
قالَ الغَزَّالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في بَيانِ سوءِ عاقِبَةِ تَرْكِ الأَمْرِ بِالمعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ المنْكَرِ: "وَلَوْ طُوِي بُساطُهُ، وَأُهْمِلَ عِلْمُهُ وَعَمَلُهُ لَتَعَطَّلَتْ النُّبُوَّةُ، وَاضْمَحَلَّتْ الدِّيانَةُ، وَعَمَّتِ الفَتْرَةُ، وَفَشَتِ الضَّلالَةُ، وَشاعَتِ الجَهالَةُ، وَاسْتَشْرَىَ الفَسادُ، وَاتَّسَعَ الخَرْقُ، وَخَرِبتَ البِلادُ، وَهَلَكَ العِبادُ" إِحْياءُ عُلُومِ الدِّينِ 3/304.
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، فَإِنَّ الأَمْرَ بِالمعْرُوفِ عِزٌّ لأَهْلِ الإِيمانِ، وَذُلٌّ لِحِزْبِ الشَّيطانِ.
قالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: "إِذا أُمِرْتَ بِالمعْرُوفِ شَدَدْتَ ظَهَرَ المؤْمِنُ، وَإِذا نُهِيَتَ عَنْ المنْكَرِ أَرْغَمْتَ أَنْفَ المنافِقِ" الأَمْرِ بِالمعْرُوفِ لِلخِلالِ (48)؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الفَسادِ يُحبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا.
قالَ عُثْمانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَدَّتِ الزَّانِيَةُ لَوْ زَنَى النِّساءُ كُلُّهُنَّ".
فَظُهُورُ الأَمْرِ بِالمعْروفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنْكَرِ تُحاصَرُ بِهِ الرَّذِيلَةُ، وَتَنْقَمِعُ بِهِ المعْصِيَةُ، وَيَقَعُ الرُّعْبُ وَالخَوْفُ في قُلُوبِ أَرْبابِ الفَسادِ وَالمعاصِي، وَهَذا مَشاهَدٌ مَلْمُوسٌ، فَهَيْئاتُ الأَمْرِ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنْكَرِ عَلَىَ ما هِيَ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّ لَها مِنَ الهَيْبَةِ وَالرَّهْبةِ في صُدُورِ المفْسِدينَ، ما يَعْرِفُهُ المجَرِّبُونَ المطَّلِعُونَ.
* * *
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
أَمَّا بَعْدُ.
فَتِلْكَ أَيُّها المؤْمِنُونَ بَعْضُ فَوائِدِ الأَمْرِ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنْكَرِ وَفَضائلِهِ، وَلَنا مَعَ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ عَدَدٌ مِنَ الوَقفاتِ:
الوَقْفَةالأُولَى: أَنَّ الأَمْرَ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المنْكَرِ عِبادَةٌ، تَعَبَّدَ اللهُ بِها المؤْمِنَين، وَأَمْرَ بِها المسْلِمينَ، فَقالَ تَعالَى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)آلَ عِمْرانِ: 104 فَكُلُّ مَؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ مَأْمُورٌ بِالأَمْرِ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنْكُرِ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ الشَّعِيرَةُ وَظِيفَةَ فَئَةٍ مِنَ النَّاسِ، لا يَقُومُ بِها إِلَّا هُمْ، بَلْ هِيَ عِبادَةٌ، خُوطِبَ بِها الجَمِيعُ، قالَ الغَزَّالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " الحَسْبَةُ -أَيْ: الأَمْرُ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المنْكِرِ- وَظِيفَةٌ دِينِيَّةٌ اجْتِماعِيَّةٌ، قَبْلَ أَنْ تَكُونَ وَظِيفَةً حُكُومِيَّةً".
وَقالَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ: "وَكُلُّ بَشَرٍ عَلَىَ وَجْهِ الأَرْضِ، فَلا بُدَّ لَهُ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ لَوْ أَنَّهُ وَحْدَهُ لَكانَ يَأْمُرُ نَفْسَهُ وَيَنْهاها، إِمَّا بِمَعْرُوفٍ وَإِمَّا بِمُنْكَرٍ" الاسْتِقامَةُ 2/292.
وَمِنْ هَذا يَتَّضِحُ أَنَّ هَذِهِ الشَّعِيرَةَ يَحْتاجُها كُلُّ أَحَدٍ، يَحْتاجُها المرْءُ مَعَ نَفْسِه، وَالرَّجُلُ مَعَ أَوْلادِه وَأَهْلِهِ، وَالمدَرِّسُ مَعَ طُلَّابِهِ، وَالأَمِيرُ مَعَ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّعِيَّةُ مَعَ حُكَّامِها، وَيَحْتاجُها كُلُّ صاحِبِ مَسْؤُولِيَّةٍ في مَسْؤُولِيَّتِهِ.
أَعانَنا اللهُ وَإِيَّاكُمْ عَلَىَ الأَمْرِ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنْكَرِ.
الوَقْفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَذِهِ الشَّعِيرَةَ لما كانَتْ تَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ وَشَهواتِهِمْ وَرَغَباتِهِمُ، الَّتي يُزيِّنُها لَهُمْ شَياطِينُ الِإْنسِ وَالجِنِّ، فَإِنَّها تَلْقَىَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ تَنْقُّصاً وَهَمْزاً وَلَمْزاً وَنَقْداً، مُجْحِفاً أَوْ باطِلاً، يَنْصَبُّ غالِباً عَلَىَ الآمِرِين بِالمعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ المنْكَرِ، وَعَلَىَ هَيْئاتِهِ الخاصَّةِ بِهِ، وَهَؤُلاءِ النَّاقِدُونَ وَالمتَكَلِّمُونَ في الآمِرِينَ بِالمعْرُوفِ، وَالنَّاهِينَ عَنِ المنْكَرِ أَحَدُ صِنْفَيْنِ:
الأَوَّلُ: صِنْفٌ مَرَدَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَىَ الذُّنُوبِ وَالمعاصِي، وَعَشَّشَتْ الشَّهَواتُ في قُلُوبِهِمْ، وَأُشْرِبَتْ حُبَّ الفَسادِ، فَهُمْ سَماسِرةُ الفَسادِ وَأَرْبابُهُ، لا يَعِيشُونَ إِلَّا بِهِ، فَهَؤُلاءِ لا غَرابَةَ في حِقْدِهِم وَحَنَقِهمْ، وَوَقِيعَتِهِمْ في الآمِرِينَ بِالمعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ المنْكَرِ، فَإِنَّهُمْ شجى حلوقهمْ، وَنَكد عيشِهم، فَهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِأَهْلِ الحِسْبَةِ الدَّوائِرَ، يَلْتَقِطُونَ السَّقْطةَ، وَيُضَخِّمُونَ الهفْوَةَ، وَيَجْعَلُونَ مِنَ الحَبَّةِ قُبَّةً، فَهَؤُلاءِ لا حِيلَةَ لَنا فِيهِمْ، إِلَّا أَنْ نَقُولَ، كَما قالَ اللهُ تَعالَى لأَسْلافِهِمْ: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ)سُورَةُ آلِ عِمْرانَ: 119
الثَّانِي: قَوْمٌ فِيهِمْ خَيْرٌ وَصَلاحٌ وَحُبٌّ لأَهْلِ الإِصْلاحِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يُصْغُونَ لِتَشْوِيهِ أَهْلِ الرَّيْبِ وَالفَسادِ، وَيُنْصِتُونَ لِوَقِيعَةِ أَهْلِ المعْصِيَةِ وَالنِّفاقِ، وَما يَنْشُرُونَ عَن أَهْلِ الحِسْبَةِ مِنَ الإِشاعاتِ وَالمبالَغاتِ، كَما قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)سُورَةُ التَّوْبَةِ: 47 فَضْلاً عَنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ لِبَعْضِهِمْ مَوقْفٌ مَعَ أَهْلِ الحِسْبَةِ، يَجْعَلُهُ مُبَرِّراً لِوَقِيعتِهِ، وَشاهِداً لِسماعِه، فَهؤلاءِ لَيسَ لنا مَعهمْ قَضِيةٌ، إِلَّا أَنَّنا نُذَكِّرُهُمْ بِاللهِ، الَّذِي رَضَوْا بِهِ رَبًّا، وَبِرَسُولِهِ نَبِيًّا، وَبِإِسْلامِهِ دِيناً، وَنَقُولُ لَهُمْ: إِيَّاكُمْ أَنْ تَكُونُوا أَعْواناً لأَهْلِ الفَسادِ وَالنِّفاقِ عَلَىَ إِخْوانِكُمْ، فَأَهْلُ الحِسْبَةِ إِخْوانُكُمْ، وَإِنْ بَغَىَ بَعْضُهُمْ عَلَيْكُمْ فانْصَحُوا لَهُمْ بِالحُسْنَى، وَبَيِّنوا أَخْطاءَهُمْ بِالمعْرُوفِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّشْهِيرَ وَالتَّعْمِيمَ وَالمبالَغةَ، وَلا تَنْسَوْا في غَمْرةِ ذَلِكَ ضَرُورةَ الأُمَّةِ إِلَى الأَمْرِ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المنْكَرِ، وَذَلِكَ مِنْ مَحاسِنِ القَوْمِ، فَواللهِ وَبِاللهِ وَتَاللهِ إِنَّهُمْ لمَِمَّا يَحْفِظُ اللهُ بِهِ العِبادَ وَالبِلادَ، فَكَمْ مِنْ شَرٍّ قَدْ رَدُّوهُ، وَكَمْ مِنْ عِرْضٍ حَفِظُوهُ، وَكَمْ مِنْ شابٍّ عَنِ الضَّلالِ حَجَبُوهُ، وَكَمْ مِنْ مُفْسَدٍ مُخَرِّبٍ قَدْ فَضَحُوهُ وَكَشَفُوهُ، فالآمِرُونَ بِالمعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المنْكَرِ حُرَّاسُ الدِّينِ وَحُماتُهُ، عَنِ الدِّينِ يُنافِحُونَ، وَدُونَهُ يُجاهِدُونَ، يَنْفُون فَسادَ المفْسِدِينَ، وَيُبْطِلُونَ سَعْيَ المخَرِّبِينَ، فَجَزاهُمُ اللهُ خَيْر ما جَزَىَ عِبادَهُ المؤْمِنينَ، وَقَدْ أَجادَ مَنْ قالَ:
أَقِلُّوا عَلَيْهِمْ لا أَبا لأَبِيكُــــمُ مِنَ اللَّوْمِ أَوْ سُدُّوا المكانَ الَّذِي سَدُّوا
أُولَئِكَ هُمْ خَيْرٌ وَأَهْدَى لأَنَّهُمْ عَنِ الحَقِّ ما ضَلُّوا وَعَنْ ضِدِّه صَدُواالأغاني 2/191
الوَقْفَةُ الأَخِيرَةُ:هِيَ مِنَ الآمِرينَ بِالمعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ المنْكَرِ، قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)سُورَةُ لُقْمانَ: 17.
فَعَلَىَ كُلِّ آمرٍ وَناهٍ أَنْ يَصْبِرَ عَلَىَ ما يَلْقاهُ، وَأَنْ يُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَىَ ذَلِكَ، وَلْيُوقِنْ بِثَوابِ اللهِ تَعالَىَ، فَإِنَّهُ مَنْ يَثِقْ بِالثَّوابِ مِنَ اللهِ لا يَجِدْ مَسَّ الأَذَىَ.
اللَّهُمِّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَنا مِنَ الآمِرِينَ بِالمعْرُوفِ، وَالنَّاهِينَ عَنِ المنْكَرِ.
¹