×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

المكتبة المقروءة / دروس / دروس العقيدة / رسالة العبودية / الدرس (7) من شرح رسالة العبودية

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis
الدرس (7) من شرح رسالة العبودية
00:00:01

بسم الله الرحمن الرحيم (قال الخليل –عليه السلام-: ﴿فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون (17)﴾([1]). فالعبد لا بدله من رزق، وهو محتاج إلى ذلك. فإذا طلب رزقه من الله صار عبدا لله فقيرا إليه، وإن طلبه من مخلوق صار عبدا لذلك المخلوق فقيرا إليه. ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة، وفيالنهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تزال المسألة بأحدكم، حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم))([2])،وقوله: ((من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا، أو خموشا، أو كدوشا في وجهه))([3])،وقوله: ((لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع، أو دم موجع، أو فقر مدقع))([4])،وهذا المعنى في الصحيح، وفيه أيضا: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب؛ خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه))([5]). وقال: ((ما أتاك من هذا المال، وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه، ومالا فلا تتبعه نفسك))([6]).فكره أخذه مع سؤال اللسان، واستشراف القلب. وقال في الحديث الصحيح: ((من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطيأحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر))([7])).                                                                                                                                                   بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فكل هذه الأحاديث تدور على معنى واحد، ذكره المؤلف -رحمه الله- في أول الكلام، وهو قوله: (ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل) يعني: الأصل فيها التحريم، فإذا شككت: هل يجوز لك أن تسأل أو لا تسأل، فارجع إلى الأصل، والأصل التحريم. يقول:(وإنما أبيحت للضرورة). ثم ذكر الأحاديث الواردة في ذلك، وكلها تحذر وتنهى عن المسألة: ((لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة، وليس في وجهه مزعة من لحم)). وذلك أن السائل يكد وجهه، ويريق ماء وجهه للمسؤول؛ فلذلك كان محل العقوبة في السؤال المحرم الوجه الذي تحصل به مواجهة الناس، وطلبهم والإلحاح عليهم. ثم قال:((من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا، أو خموشا، أو كدوشا في وجهه)). كل هذا يبين ما مر في الحديث السابق، حيث إنه في الحديث السابق بين لنا منتهى ما تبلغ به المسألة من صاحبها، إذا كانت غير جائزة، وفي هذا بين لنا أن الأمر يبدأ خدوشا، و هي أشياء يسيرة، وخموشا وكدوشا في الوجه. ثم بعد ذلك ينتهي الحال ويؤول الأمر بصاحب المسألة المحرمة إلى أن يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة من لحم. والظاهر في التفاوت بين هذين، هو تفاوت الناس في المسألة: فمن أكثر بلغ به الحال ما ذكره في الحديث الأول، ومن كانت مسألته قليلة لكنها محرمة فإن له نصيبا من المؤاخذة، في قوله: خدوشا، أو خموشا، أو كدوشا. ثم قال: ((لأن يأخذ أحدكم حبله؛ فيذهب فيحتطب، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)). وذلك أن المتطلع إلى ما في أيدي الناس، بين أن يمنع، وبين أن يعطى، فهو دائر بين أمرين، حاله حال مظنون الحصول. بينما أخذه الحبل واحتطابه، ثم بيعه لهذا الاحتطاب، طريق مؤكد لتحصيل الرزق. فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالطريق المتأكد في حصول النتيجة، أو المتيقن نتيجته، ونهاه عن سلوك ما هو مظنون؛ لما فيه من المذلة، ولما فيه من احتمال حصول المطلوب وعدم حصول المطلوب. ثم قال: ((ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل)) يعني: لا تسأل بلسانك، لم تسأل المال بلسانك ((ولا مشرف فخذه))يعني: وما أتاك وأنت غير مشرف، يعني متطلع بقلبك، ولو لم يتكلم لسانك فخذه. وفي غير هاتين الحالين، ينبغي لك الامتناع. وهذا يا أخي يدلك على قطع المسألة، وأن قطعها ابتداء بالقلب، وانتهاء باللسان. فينبغي للمؤمن أن يقطع المسألة، وأن لا يجعل لها سبيلا، ولا طريقا إلى لسانه، ولا إلى قلبه. و يؤكد هذا ما في الحديث الآخر، حيث قال:((من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله)). وعلى هذين يكمل الغنى: من يستغن بقلبه فلا ينظر إلى ما عند غيره، ومن يستعفف بلسانه فيحفظه عن السؤال والطلب. وهذان الوصفان هما القيدان في الحديث السابق: وأنت غير سائل، ولا مشرف، فغير سائل يقابله قوله: ((من يستعفف يعفه الله))؛ لأن العفاف في اللسان، يستعفف بلسانه أن يسأل ويطلب، ومن ((يستغن)) والغنى في القلب. ((فمن يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله)). وانظر كيف بدأ بالغنى؛ لأن الأصل فيه، وهو غنى القلب، فإنه إذا اغتنى القلب، امتنع اللسان من السؤال. لكن إذا افتقر القلب فلا بد أن تظهر فلتات المسائل على الألسنة. ولذلك ينبغي للإنسان أن يعتني بقلبه، فيغلق عليه التشوف، والتطلع إلى ما في يد غيره. وقد أمر الله -جل وعلا- أطهر الناس قلبا بذلك فقال: ﴿ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه﴾ ثم قال: ﴿ورزق ربك خير وأبقى﴾([8]). فنهاه عن النظر إلى ما في أيدي الناس، وأمره بالنظر إلى ما في يده -جل وعلا- قال: ﴿ورزق ربك خير وأبقى﴾. خير في الحال والمآل، وهو أبقى في المآل؛ لأن الله -جل وعلا- ينعم على من لم يمد عينه إلى ما في أيدي الناس بالقناعة، ويمن عليه بعظيم الأجر في الآخرة. ولذلك يا إخواني لا بد أن نربي أنفسنا على هذا، وأن نأخذها بالحزم في هذا الأمر، فإن النفس كالطفل تماما: إذا لم تهذبه، وتشذبه، وتمنعه مما يضره شب على العوائد القبيحة، ونشأ على الاستجابة لدواعي النفس، من الميل إلى الشهوات والملذات. لكن إذا حزمت نفسك وربيتها، وحملتها على أطايب الأقوال والأعمال أعانك الله -جل وعلا-، فإنه من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف طلبا لرضا الله يعفه الله-جل وعلا-  ويحفظ لسانه من المسألة. ثم قال: ((ومن يتصبر يصبره الله)). بعد أن ذكر غنى القلب، وعفاف اللسان، ذكر الحامل عليهما، وهو الصبر. ثم بين عظيم منزلة الصبر، فقال: ((وما أعطي أحد عطاء خيرا ولا أوسع من الصبر)). الصبر رأس الدين؛ لأن به يحصل للإنسان كمالات الدنيا وفوز الآخرة: ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب (10)﴾([9]). فقد جاز أجرهم قانون التقدير والحساب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، سبحانه وبحمده، فينبغي للمؤمن أن يعود نفسه على الصبر. ((من يتصبر)) معنى هذا: أنه يتحمل ويأتي على نفسه. ليس أمر الصبر سهلا يدركه كل أحد، إنما فيه معاناة، وفيه ما تكرهه النفس وتأنف منه، لكن عواقبه أحلى من العسل، كما قال الشاعر: الصبر مثل اسمه مر مذاقته*** لكن عواقبه أحلى من العسل فإذا نظر الإنسان إلى العاقبة والمآل استعان الله -جل وعلا- وأعانه على تحصيل أسباب الصبر فإنه خير عطاء؛ لأن الإنسان مهما فتح عليه في الدنيا، لن يدرك ما يريد وما يشتهي. خذ مثلا مطالب الإنسان في المال، كلما أعطيت طلبت الزيادة، مطالب الإنسان في النكاح، كلما تمكن من ملاذ المناكح، تشوفت نفسه للزيادة، وهلم جرا، لا تنتهي الرغبات والشهوات، إلا في الدار التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. عند ذلك يدرك الإنسان مشتهاه ومنيته ومبتغاه. فينبغي للمؤمن أن ينفذ بصره هذه الدنيا، وأن يخلفها وراءه، وهذا الكلام نحسن أن نتكلم به، لكن نسأل الله أن يعيننا عليه؛ لأنه في الحقيقة عنوان سعادة العبد إذا تحقق له الصبر، كما قال الله -جل وعلا- في سورة العصر في بيان منزلة الصبر، قال: ﴿إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (3)﴾([10]). فينبغي لنا أن نستعين الله في ذلك، وليبشر من استعان الله؛ فإنه موعود بالإعانة، كما في هذا الحديث. ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- وجها ثانيا، استدل به على أن الأصل في المسألة النهي، فقال -رحمه الله-: (وأوصى خواص أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئا، وفيالمسند أن أبا بكر-رضي الله عنه- كان يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحد: ناولنيإياه، ويقول:إن خليلي أمرني أن لا أسأل الناس شيئا))([11]). رضي الله عنهم، ما أعظم امتثالهم لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. هذا أبو بكر –رضي الله عنه- ولعل هذا في وقت خلافته، ما ندري، الرواية لم تبين متى كان ذلك، والظاهر فيما يبدو أنه بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- (كان يسقط السوط من يده)ولعله راكب، أو ماش (فلا يقول لأحد: ناولني إياه)أي أعطني إياه، مع أنه لو قال ذلك، وهو خليفة، لفرح الناس وتسابقوا لامتثال أمره، مع ذلك كان يأنف عن المسألة، ويستغني عنها (ويقول: إن خليلي)يعني رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- (أمرني أن لا أسأل الناس شيئا). و(شيئا)نكرة في سياق النهي، فتعم كل شيء، وهذا مما يؤكد أن النكرة في سياق النهي تفيد العموم، حيث فهمها أفصح الناس بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابته، فهموا منها العموم. نعم. (وفيصحيح مسلم وغيره عن عوف بن مالك-رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-بايعه في طائفة، وأسر إليهم كلمة خفية: أن لا تسألوا الناس شيئا، فكان بعض أولئك النفر يسقط السوط من أحدهم، ولا يقول لأحد:ناولنيإياه)([12]). وإذا عود الإنسان نفسه على هذا أعين واستغنى عن الناس؛ لأنه في الحقيقة إذا قام الإنسان بشؤون نفسه، ولم يطلب من أحد شيئا، لا في الدقيق، ولا في الجليل كف الله قلبه عن النظر إلى الناس، وكف لسانه عن مسألتهم. وشهادة نثني بها على شيخنا الشيخ محمد العثيمين -رحمه الله- هو من أشد الناس امتثالا لهذا الأمر، كان في دروسه، وفي حياته التي عاشرناه فيها -رحمه الله- من أقل الناس سؤالا، يقوم بالأشياء بنفسه، ويذهب ويأتي، مع أن الناس قد يتسابقون إلى خدمته، من طلابه ومحبيه، ومع ذلك كان -رحمه الله- يعمل بهذا التوجيه النبوي وهو أن لا يسأل الناس شيئا. إذا جاء أحد وقدم إليه أو أخذ منه، فهذا فضل وإحسان؛ لكنه ليس من المسألة، يعني: لم يكن هذا من سؤاله وطلبه. ومن عاشر الشيخ واقترب منه أدرك هذا من شأنه -رحمه الله- نسأل الله -عز وجل- أن يقدس روحه في جنات النعيم، وأن يتبعنا وإياكم أثر الصالحين.  (وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق، والنهي عن مسألة المخلوق، في غير موضع، كقوله تعالى: ﴿ فإذا فرغت فانصب (7) وإلى ربك فارغب (8)﴾([13]). وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-لابن عباسرضي الله عنهما:((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله))([14]).ومنه قول الخليل-عليه السلام-: ﴿فابتغوا عند الله الرزق﴾([15]).ولم يقل:فابتغوا الرزق عند الله؛ لأن تقديم الظرف، يشعر بالاختصاص والحصر، كأنه قال:لا تبتغوا الرزق إلا عند الله، وقد قال تعالى:﴿واسألوا الله من فضله﴾([16])). لما ذكر الله -جل وعلا- ما فضل به الرجال على النساء، قال -سبحانه وتعالى-:﴿ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن﴾([17]).  ثم قال جل وعلا- في التوجيه إلى تحصيل الفضائل، قال سبحانه وتعالى-: ﴿واسألوا الله من فضله﴾يعني: لا ينبغي لكم أن تمتلئ قلوبكم رغبة فيما عند الناس من الفضائل التي من الله بها عليهم، بل توجهوا إلى الله الذي بيده الخير، وإليه الخير،وإليه يرجع الأمر كله -سبحانه وتعالى-، الخير كله في يديه -جل وعلا-، فمن رغب في خير من خير الدنيا والآخرة فليلجأ إلى الله -سبحانه وتعالى- وليتوجه إليه، فإنه -سبحانه وتعالى- قريب مجيب، وهذا سر التوجيه في آخر الآية، بعد ذكر التفاضل، قال: ﴿واسألوا الله من فضله﴾. فإن الفضل بيد الله، ولا تمتلئ قلوبكم تشوفا وتطلعا إلى ما من الله به على بعضكم دون بعض. وهذا يشمل تفضيل الرجال على النساء، ويشمل أيضا مما يشمل تفضيل بعضنا على بعض في علم، أو مال، أو جاه، أو منصب، أو غير ذلك مما يحصل به التفاضل والتسابق في الدنيا. فإنه ينبغي لك، إذا رأيت ما يعجبك في أخيك- من علم، أو مال، أو حفظ، أو فهم، أو بيان، أو غير ذلك مما تتطلع إليه نفسك- أن تلجأ إلى الله الذي وهبه، فإنه قادر على أن يهبك -جل وعلا-. وإذا عودت نفسك على ذلك لن تجد في نفسك غلا، أو حسدا، أو ضغينة على أخيك المسلم؛ بل على العكس، ستجد أنك تفرح بمنة الله على غيرك؛ لأن منة الله على غيرك تظهر عظمة الرب الذي من على هذا، ووهب هذا. فإن الله -جل وعلا- من أسباب الاستدلال عليه، عطاياه -سبحانه وتعالى- التي لا ينفك عنها الخلق. والإنسان إذا ربى نفسه على التعلق بالله -جل وعلا- والنظر إلى ما عنده، كفي شرا عظيما، وهدي إلى راحة، وطمأنينة، وسكون بال، وأصبحت علاقاته، أخذه وعطاؤه، منعه وهبته، كلها منظورا فيها إلى الله -عز وجل- ،كلها وفق أمر الله -جل وعلا-. وقد قال شيخنا مرة من المرات، في مسألة الحسد: أنا أعجب ممن يحسد أخاه على العلم، كيف يتحاسدون، وهم كلهم خدام للشريعة؟ يعني: هذه كلمة في الحقيقة تقضي على ما في نفس الإنسان من تطلع، يعني: إذا نظرت إلى ما عند أخيك من علم، ما عنده من فضل، ما عنده من نفع للناس، فلا تجد في صدرك عليه، بل افرح بذلك. هو يا أخي يخدم الشريعة، كما أنك تؤمل وتسعى إلى خدمة الشريعة. فكلنا خدام للشريعة، والواجب على من كان صادقا في خدمة الشرع، أن يفرح بأن يخدم غيره الشريعة، وأن ينصر غيره دين رب العالمين، وأن لا يكون ذلك وقفا على نفسه، حكرا عليه؛ بل يفرح بكل من يدعو الناس إلى بر، إلى خير، إلى هدى، إلى طاعة، ويكون ذلك مما يسر به، ويدعو به لصاحبه، لا يكون على العكس من هذا، يوغر صدره عليه،  ويجد في نفسه من الضغينة والحقد عليه ما الله به عليم. (والإنسان لا بد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه، ودفع ما يضره، وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه لله، فلا يسأل رزقه إلا من الله، و لا يشتكي إلا إليه، كما قال يعقوب -عليه السلام-: ‏﴿‏ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله‏﴾([18]). والله تعالى ذكر في القرآن الهجر الجميل، و الصفح الجميل، و الصبر الجميل. وقد قيل: إن الهجر الجميل هو هجر بلا أذى، والصفح الجميل صفح بلا معاتبة، والصبر الجميل صبر بغير شكوى إلى المخلوق. ولهذا قرئ على أحمد بن حنبل في مرضه: إن طاووسا كان يكره أنين المريض، ويقول: إنه شكوى، فما أن أحمد حتى مات. وأما الشكوى إلى الخالق، فلا تنافي الصبر الجميل. فإن يعقوب قال: ‏﴿‏ فصبر جميل﴾‏([19])، وقال: ‏﴿‏إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ‏﴾‏‏([20])). قيل: إن البث هو الحزن العميق، أشد من الحزن، فيكون من باب عطف العام على الخاص. يعني: البث حزن مع تألم، وأما الحزن فهو حزن مجرد. هكذا فرق بعضهم بين البث والحزن، وبعضهم قال: هو واحد، ويكون من أمثلة وشواهد عطف المتماثلات. (وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقرأ في الفجر بسورة يونس ويوسف والنحل، فمر بهذه الآية في قراءته، فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف. ومن دعاء موسى-عليه السلام-:اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك. وفيالدعاء الذي دعا به النبي -صلى الله عليه وسلم- لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا:((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، اللهم إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري. إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله)).وفيبعض الروايات: ((ولا حول ولا قوة إلا بك))([21])). هذا الدعاء فيه أعظم التضرع لله -عز وجل- من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد جمع هذا التضرع أنواعا من التوسل: جمع أولا وصف حال السائل، فإن التضرع إلى الله -عز وجل- يكون بوصف حال السائل، ومنه قوله: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس)). هذا تضرع وتوسل إلى الرب -جل وعلا- بأي شيء؟ بوصف حال السائل. ويكون التضرع أيضا بوصف حالالمسؤول، وذلك في قوله: ((يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي)). ثم عاد في السؤال والطلب إلى وصف حاله، وشدة افتقاره: ((اللهم إلى من تكلني؟)) يعني: إلى من تكل أمري؟ ((إلى بعيد يتجهمني)) وهم أهل الطائف(( أم إلى عدو ملكته أمري )) وهم أهل مكة، فكلهم آذاه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-. ثم رجع وأظهر التجلد والصبر لقضاء الله وقدره، فقال:((إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي)). يعني: إن لم يكن هذا الذي نزل بي، وهذا البلاء الذي حل بي، سببه غضبك علي؛ فلا أبالي، فهو من جملة ما ترتفع به الدرجات، وتعلو به، وتكفر به الخطايا. وهذا فيه غاية التسليم لقضاء الله وقدره، وأن العبد لا ينظر إلى المصيبة على أنها مصيبة نالته، وأصابت منه، إنما ينظر: هل هذه مصيبة سببها غضب وسخط، فعند ذلك تكون النقمة، عند ذلك تكون البلية. أما إذا كان هذا الذي نزل به تكفيرا، أو لم يقترن بغضب وسخط، فالأمر سهل؛ لأنه لا يخرج عن أن يكون تكفيرا للذنب، أو رفعا للدرجات. ثم قال: ((غير أن عافيتك أوسع لي)). وهذا استدراك، حتى يتبرأ من حوله وقوته، ولا يتعرض للبلاء، بعد أن بين أنه يصبر على قضاء الله، خشي أن يكون هذا من الاعتداد بقوة النفس، والاعتداد بما عند الإنسان من قدرة، فقال: ((غير أن عافيتك أوسع لي)) يعني: أوسع وأرحب من أن ينزل بي غضبك، أو أن ينالني سخطك، أو أن تشدد علي في البلاء. ((أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة)). ولا شك أن كل نور فهو من نور الله -جل وعلا-، كل نور يضيء السبيل، ويهدي الطريق، فهو من نور الله -جل وعلا- ولذلك وصف الله نفسه بالنور، ووصف كتابه بالنور، ووصف أولياءه بأنه آتاهم نورا، وأنهم على نور: ﴿أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات﴾‏‏([22]). والناس يتفاوتون في هذا النور تفاوتا عظيما، بقدر ما يكون معهم من التصديق، والإيمان، والقبول لما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما قال الله -جل وعلا-:﴿وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا﴾([23]).﴿ولكن جعلناه﴾أي هذا الروح، وهو ما أنزله -سبحانه وتعالى- إلى نبيه، من الهدى، ودين الحق ﴿ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا﴾.يقول: ((أن ينزل بي سخطك)). هذا المستعاذ منه، يعني المطلوب من هذه الاستغاثة، وهذه الاستعاذة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك. ثم قال:((لك العتبى حتى ترضى)). لك العتبى، أي: لك الاعتذار، وطلب الرضا حتى يحصل رضاك((لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)) أي: لا تحول من هذه الحال الشديدة، التي أنا فيها، إلا بتحويلك وقوتك، فيه التبرؤ التام من كل حول وقوة، وكلة الأمر إلى الله -جل وعلا-. وهذا يا إخواني، يحتاجه الإنسان، يحتاج الإنسان إلى أن يبث شكواه إلى رب العالمين، ومن بث شكواه إلى رب العالمين، فقد بثها إلى من بيده الأمر، الذي أمره إذا أراد شيئا إنما يقول له: كن فيكون: ﴿إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون﴾([24]).فسرعان ما يحصل له الفرج، وتنكشف عنه سدف الظلام التي أحاطت به، وتنكشف عنه الكروب، لكن الناس يغفلون عن هذا، وتجد أنهم يشكون إلى غير الله -جل وعلا- ما نزل بهم، يشكون الله إلى خلقه، ولو أنهم شكوا إلى ربهم، لوجدوا ربا برا، رؤوفا، رحيما، قريبا، مجيبا، سبحانه وبحمده.   ثم قال -رحمه الله-: (وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته، قويت عبوديته له، وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه. كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره. فكذلك طمع العبد في ربه، ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق، بحيث يكون قلبه معتمدا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه، كمالكه وملكه وشيخه ومخدومه، وغيرهم ممن هو قد مات أو يموت. قال تعالى: ﴿وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا (58)﴾([25]). وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه؛ خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميرا لهم، مدبرا لهم، متصرفا بهم. فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة، ولو كانت مباحة له، يبقى قلبه أسيرا لها، تحكم فيه، وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها أو مالكها، و لكنه في الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، ولا سيما إذا درت بفقره إليها، وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها؛ فإنها حينئذ تتحكم فيه تحكم السيد القاهر الظالم، في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه بل أعظم، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق وأسر لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقا، مستعبدا، متيما لغير الله؛ فهذا هو الذل، والأسر المحض، والعبوديةالذليلةلما استعبد القلب. وعبودية القلب وأسره، هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب. فإنالمسلم لو أسره كافر، أو استرقه فاجر بغير حق، لم يضره ذلك، إذا كان قائما بما يقدر عليه من الواجبات. ومن استعبد بحق، إذا أدى حق الله، وحق مواليه فله أجران. ولو أكره على التكلم بالكفر، فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضره ذلك. وأما من استعبد قلبه، فصار عبدا لغير الله؛ فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر ملك الناس. فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس. قال النبي -صلى الله عليه وسلم:((ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس))([26])‏. وهذا لعمر الله، إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة. فأما من استعبد قلبه صورةمحرمة، امرأة أوصبي؛ فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب، وهؤلاء من أعظم الناس عذابا وأقلهم ثوابا، فإن العاشق لصورة، إذا بقي قلبه متعلقا بها، مستعبدا لها؛ اجتمع له من أنواع الشر والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى، فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة، أشد ضررا عليه ممن يفعل ذنبا ثم يتوب منه، ويزول أثره من قلبه). ولذلك يجب على المؤمن أن يعلق قلبه بالله-سبحانه وتعالى-. القلب يا إخواني وعاء، إذا ملئ بمحبة الله -جل وعلا- لم يكن فيه مكان لغيره، وإذا خلط فيه الإنسان اضطربت حاله، وأصبح نهبا لكل ما يتعلق به، من صورة، أو مال، أو غير ذلك مما يتعلق به الناس. فالواجب على المؤمن أن يملأ قلبه بمحبة الله، ومن ملأ قلبه بمحبة الله فرغ الله قلبه من كل شيء؛ لأن محبة الله تملأ القلب، وتمنع تعلقه بغيره، قال الله -جل وعلا-:﴿الله نور السماواتوالأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجةالزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونةلا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نارنور على نور﴾([27]). هذا المثل الذي ضربه الله -جل وعلا- هو مثل نوره -سبحانه وتعالى- في قلب عبده المؤمن، فإذا ملأ العبد قلبه بالرب، نظرا في صفاته، وتأملا في أفعاله، ونظرا في أسمائه، وتدبرا في كتابه؛لم يبق فيه تعلق لغيره، وهذا هو السعادة التامة. أسعد الناس أعظمهم تعلقا بالله، أسعد الناس أقلهم تعلقا بالمخلوقين، على اختلاف ما يتعلق به الناس. من الناس من يتعلق بالمال، منهم من يتعلق بالولد، منهم من يتعلق بالزوجة، ومنهم من يتعلق بالصور المحرمة، من النساء المحرمات أو المردان، أو غير ذلك. كل هذا مما يشغل القلب، ويشتته، ويضعف قوته، ويكون له أثر على عمل الإنسان، وتقواه، وصلاحه. فينبغي للمؤمن أن يخلي قلبه من هذا. المسألة تحتاج إلى مقاومة، إلى مجاهدة، إلى دوام نظر، إلى ما يملأ القلب. إذا حصل للعبد ذلك؛ فإنه سيوفق، ويصرف عنه هذه الأمور، أما إذا أطلق في نفسه الهوى، وتعلق بكل آت وذاهب؛ فإنه سيشتت قلبه في أودية كثيرة، ثم لا يجتمع على حق، ولا يقوم بخير، بل هو موتور، فاتر القوى؛ لتشتت همومه وتعلقاته. والعبودية الحقيقية في عبادة الله -عز وجل-، كل من ظن أنه يتحرر بالتخفف من شريعة الله -عز وجل- فهو واهم، فإنه من تخفف من شريعة الله؛ وقع في عبادة الشيطان، كما قال ابن القيم رحمه الله:        فروا من الرق الذي خلقوا له               وبلوا برق النفس والشيطان (فروا من الرق الذي خلقوا له). ما هو الرق الذي خلقوا له؟ الرق لرب العالمين (وبلوا)أي وامتحنوا (برق النفس والشيطان). نعوذ بالله من الخذلان. (وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين،كما قيل: سكران سكر هوى وسكر مدامة*** ومتى إفاقة من به سكران وقيل: قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم***العشق أعظم مما بالمجانين. العشق لا يستفيق الدهر صاحبه***وإنما يصرع المجنون في الحين ومن أعظم أسباب هذا البلاء إعراض القلب عن الله، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله، والإخلاص له؛ لم يكن عنده شيءقط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب، والإنسان لا يترك محبوبا إلا بمحبوب آخر، يكون أحب إليه منه، أو خوفا من مكروه، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر، قال تعالى في حق يوسف:‏﴿‏كذلكلنصرفعنهالسوء والفحشاءإنهمنعبادناالمخلصين‏﴾([28]). فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله. ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له، تغلبه نفسه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعم الإخلاص، وقويفي قلبه انقهر له هواهبلا علاج. قال تعالى:﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر﴾([29]). فإن الصلاة فيها دفع للمكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب، وهو ذكر الله،وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع ذلك المكروه. فإن ذكر الله عبادة لله، وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها، وأما اندفاع الشر عنه فهو مقصود لغيره على سبيل التبع. والقلب خلق يحب الحق ويريده ويطلبه، فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك؛ فإنها تفسد القلب، كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل، ولهذا قال تعالى: ﴿قد أفلح من زكاها (9) وقد خاب من دساها(10)﴾([30]). وقال تعالى: ‏﴿‏ قد أفلح من تزكى (14) وذكر اسم ربه فصلى(15)‏﴾([31]).وقال: ‏﴿‏قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم‏﴾([32]). وقال تعالى: ‏﴿‏ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا‏﴾([33]). فجعل -سبحانه- غض البصر، وحفظ الفرج، هو أقوى في تزكية النفس، وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور: من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك.وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض، قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم؛ فيبذل لهم الأموال والولايات، ويعفو عما يجترحونه ليطيعوه ويعينوه. فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفيالحقيقة عبد مطيع لهم.والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للآخر، وكليهما تارك لحقيقة عبادة الله، وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرضبغير الحق؛ كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق، فكل واحد من الشخصين- لهواه الذي استعبده واسترقه- مستعبد للآخر. وهكذا أيضا طالب المال؛ فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان: منها ما يحتاج العبد إليه، كما يحتاج إليه من طعامه، وشرابه، ومسكنه، ومنكحه، ونحو ذلك. فهذا يطلبه من الله، ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته، بمنزلة حماره الذي يركبه،وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضيفيه حاجته، من غير أن يستعبده فيكون هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا. و منها ما لا يحتاج العبد إليه، فهذا لا ينبغيله أن يعلق قلبه بها. فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدا لها،وربما صار معتمدا على غير الله، فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله، ولا حقيقة التوكل عليه،بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله،وهذا من أحق الناس بقوله -صلى الله عليه وسلم-:((تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة))([34]).وهذا هو عبد هذه الأمور، فلو طلبها من الله فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإذا منعه إياها سخط. وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله،ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورس

المشاهدات:4776


بسم الله الرحمن الرحيم



(قال الخليل –عَلَيْهِ السَّلاَمُ-: ﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)﴾([1]). فالعبد لا بدله من رزق، وهو محتاج إلى ذلك. فإذا طلب رزقه من الله صار عبداً لله فقيراً إليه، وإن طلبه من مخلوق صار عبداً لذلك المخلوق فقيراً إليه. ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة، وفيالنهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد، كقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لا تزال المسألة بأحدكم، حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم))([2])،وقوله: ((من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً، أو خموشاً، أو كدوشاً في وجهه))([3]وقوله: ((لا تحل المسألة إلا لذي غُرْمٍ مفظع، أو دم موجع، أو فقر مدقع))([4]وهذا المعنى في الصحيح، وفيه أيضاً: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب؛ خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه))([5]).



وقال: ((ما أتاك من هذا المال، وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه، ومالا فلا تتبعه نفسك))([6]).فكره أخذه مع سؤال اللسان، واستشراف القلب.



وقال في الحديث الصحيح: ((من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفُّه الله، ومن يتصبّر يصبره الله، وما أعطيأحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر))([7])).                                                                                                                  



                                بسم الله الرحمن الرحيم



الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.



أما بعد:



فكل هذه الأحاديث تدور على معنى واحد، ذكره المؤلف -رحمه الله- في أول الكلام، وهو قوله: (ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل) يعني: الأصل فيها التحريم، فإذا شككت: هل يجوز لك أن تسأل أو لا تسأل، فارجع إلى الأصل، والأصل التحريم.



يقول:(وإنما أبيحت للضرورة). ثم ذكر الأحاديث الواردة في ذلك، وكلها تحذر وتنهى عن المسألة: ((لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة، وليس في وجهه مُزْعة من لحم)). وذلك أن السائل يَكُدُّ وجهه، ويريق ماء وجهه للمسؤول؛ فلذلك كان محل العقوبة في السؤال المحرم الوجه الذي تحصل به مواجهة الناس، وطلبهم والإلحاح عليهم. ثم قال:((من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً، أو خموشاً، أو كدوشاً في وجهه)). كل هذا يبين ما مر في الحديث السابق، حيث إنه في الحديث السابق بين لنا منتهى ما تبلغ به المسألة من صاحبها، إذا كانت غير جائزة، وفي هذا بيّن لنا أن الأمر يبدأ خدوشاً، و هي أشياء يسيرة، وخموشاً وكدوشاً في الوجه. ثم بعد ذلك ينتهي الحال ويؤول الأمر بصاحب المسألة المحرمة إلى أن يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة من لحم.



والظاهر في التفاوت بين هذين، هو تفاوت الناس في المسألة: فمن أكثَرَ بلغ به الحال ما ذكره في الحديث الأول، ومن كانت مسألته قليلة لكنها محرمة فإن له نصيباً من المؤاخذة، في قوله: خدوشاً، أو خموشاً، أو كدوشاً.



ثم قال: ((لأن يأخذ أحدكم حبله؛ فيذهب فيحتطب، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)). وذلك أن المتطلع إلى ما في أيدي الناس، بين أن يُمْنَعَ، وبين أن يعطى، فهو دائر بين أمرين، حاله حال مظنون الحصول. بينما أخذه الحبل واحتطابه، ثم بيعه لهذا الاحتطاب، طريق مؤكد لتحصيل الرزق. فأمره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالطريق المتأكد في حصول النتيجة، أو المتيقن نتيجته، ونهاه عن سلوك ما هو مظنون؛ لما فيه من المذلة، ولما فيه من احتمال حصول المطلوب وعدم حصول المطلوب.



ثم قال: ((ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل)) يعني: لا تسأل بلسانك، لم تسأل المال بلسانك ((ولا مشرف فخذه))يعني: وما أتاك وأنت غير مشرف، يعني متطلع بقلبك، ولو لم يتكلم لسانك فخذه. وفي غير هاتين الحالين، ينبغي لك الامتناع.



وهذا يا أخي يدلك على قطع المسألة، وأن قطعها ابتداء بالقلب، وانتهاء باللسان. فينبغي للمؤمن أن يقطع المسألة، وأن لا يجعل لها سبيلاً، ولا طريقاً إلى لسانه، ولا إلى قلبه. و يؤكد هذا ما في الحديث الآخر، حيث قال:((من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يُعِفَّهُ الله)). وعلى هذين يكمل الغنى: من يستغن بقلبه فلا ينظر إلى ما عند غيره، ومن يستعفف بلسانه فيحفظه عن السؤال والطلب. وهذان الوصفان هما القيدان في الحديث السابق: وأنت غير سائل، ولا مشرف، فغير سائل يقابله قوله: ((من يستعفف يعفه الله))؛ لأن العفاف في اللسان، يستعفف بلسانه أن يسأل ويطلب، ومن ((يستغن)) والغنى في القلب. ((فمن يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله)). وانظر كيف بدأ بالغنى؛ لأن الأصل فيه، وهو غنى القلب، فإنه إذا اغتنى القلب، امتنع اللسان من السؤال. لكن إذا افتقر القلب فلا بد أن تظهر فلتات المسائل على الألسنة. ولذلك ينبغي للإنسان أن يعتني بقلبه، فيغلق عليه التشوف، والتطلع إلى ما في يد غيره. وقد أمر الله -جل وعلا- أطهر الناس قلباً بذلك فقال: ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ ثم قال: ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾([8]). فنهاه عن النظر إلى ما في أيدي الناس، وأمره بالنظر إلى ما في يده -جل وعلا- قال: ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾. خير في الحال والمآل، وهو أبقى في المآل؛ لأن الله -جل وعلا- يُنعم على من لم يمد عينه إلى ما في أيدي الناس بالقناعة، ويمن عليه بعظيم الأجر في الآخرة.



ولذلك يا إخواني لا بد أن نربي أنفسنا على هذا، وأن نأخذها بالحزم في هذا الأمر، فإن النفس كالطفل تماماً: إذا لم تهذبه، وتشذبه، وتمنعه مما يضره شب على العوائد القبيحة، ونشأ على الاستجابة لدواعي النفس، من الميل إلى الشهوات والملذات. لكن إذا حزمت نفسك وربيتها، وحملتها على أطايب الأقوال والأعمال أعانك الله -جل وعلا-، فإنه من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف طلباً لرضا الله يعفه الله-جل وعلا-  ويحفظ لسانه من المسألة.



ثم قال: ((ومن يتصبر يصبره الله)). بعد أن ذكر غنى القلب، وعفاف اللسان، ذكر الحامل عليهما، وهو الصبر. ثم بين عظيم منزلة الصبر، فقال: ((وما أعطي أحد عطاءً خيراً ولا أوسع من الصبر)). الصبر رأس الدين؛ لأن به يحصل للإنسان كمالات الدنيا وفوز الآخرة: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)([9]). فقد جاز أجرهم قانون التقدير والحساب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، سبحانه وبحمده، فينبغي للمؤمن أن يعود نفسه على الصبر. ((من يتصبر)) معنى هذا: أنه يتحمل ويأتي على نفسه. ليس أمر الصبر سهلاً يدركه كل أحد، إنما فيه معاناة، وفيه ما تكرهه النفس وتأنف منه، لكن عواقبه أحلى من العسل، كما قال الشاعر:



الصبر مثل اسمه مر مذاقته*** لكن عواقبه أحلى من العسل



فإذا نظر الإنسان إلى العاقبة والمآل استعان الله -جل وعلا- وأعانه على تحصيل أسباب الصبر فإنه خير عطاء؛ لأن الإنسان مهما فتح عليه في الدنيا، لن يدرك ما يريد وما يشتهي. خذ مثلاً مطالب الإنسان في المال، كلما أعطيت طلبت الزيادة، مطالب الإنسان في النكاح، كلما تمكن من ملاذَّ المناكح، تشوفت نفسه للزيادة، وهلم جرًّا، لا تنتهي الرغبات والشهوات، إلا في الدار التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. عند ذلك يدرك الإنسان مشتهاه ومنيته ومبتغاه.



فينبغي للمؤمن أن ينفذ بصره هذه الدنيا، وأن يخلفها وراءه، وهذا الكلام نحسن أن نتكلم به، لكن نسأل الله أن يعيننا عليه؛ لأنه في الحقيقة عنوان سعادة العبد إذا تحقق له الصبر، كما قال الله -جل وعلا- في سورة العصر في بيان منزلة الصبر، قال: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾([10]). فينبغي لنا أن نستعين الله في ذلك، وليبشر من استعان الله؛ فإنه موعود بالإعانة، كما في هذا الحديث.



ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- وجهاً ثانياً، استدل به على أن الأصل في المسألة النهي، فقال -رَحِمَهُ اللهُ-:



(وأوصى خواص أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئاً، وفيالمسند أن أبا بكر-رضي الله عنه- كان يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحد: ناولنيإياه، ويقول:إن خليلي أمرني أن لا أسأل الناس شيئاً))([11]).



رضي الله عنهم، ما أعظم امتثالهم لأمر رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. هذا أبو بكر –رضي الله عنه- ولعل هذا في وقت خلافته، ما ندري، الرواية لم تبيّن متى كان ذلك، والظاهر فيما يبدو أنه بعد وفاة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (كان يسقط السوط من يده)ولعلّه راكب، أو ماشٍ (فلا يقول لأحد: ناولني إياه)أي أعطني إياه، مع أنه لو قال ذلك، وهو خليفة، لفرح الناس وتسابقوا لامتثال أمره، مع ذلك كان يأنف عن المسألة، ويستغني عنها (ويقول: إن خليلي)يعني رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ- (أمرني أن لا أسأل الناس شيئاً). و(شيئاً)نكرة في سياق النهي، فتعم كل شيء، وهذا مما يؤكد أن النكرة في سياق النهي تفيد العموم، حيث فهمها أفصح الناس بعد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صحابته، فهموا منها العموم. نعم.



(وفيصحيح مسلم وغيره عن عوف بن مالك-رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-بايعه في طائفة، وأسر إليهم كلمة خفية: أن لا تسألوا الناس شيئاً، فكان بعض أولئك النفر يسقط السوط من أحدهم، ولا يقول لأحد:ناولنيإياه)([12]).



وإذا عوّد الإنسان نفسه على هذا أعين واستغنى عن الناس؛ لأنه في الحقيقة إذا قام الإنسان بشؤون نفسه، ولم يطلب من أحد شيئاً، لا في الدقيق، ولا في الجليل كف الله قلبه عن النظر إلى الناس، وكف لسانه عن مسألتهم.



وشهادة نثني بها على شيخنا الشيخ محمد العثيمين -رَحِمَهُ اللهُ- هو من أشد الناس امتثالاً لهذا الأمر، كان في دروسه، وفي حياته التي عاشرناه فيها -رحمه الله- من أقل الناس سؤالاً، يقوم بالأشياء بنفسه، ويذهب ويأتي، مع أن الناس قد يتسابقون إلى خدمته، من طلابه ومحبيه، ومع ذلك كان -رحمه الله- يعمل بهذا التوجيه النبوي وهو أن لا يسأل الناس شيئاً. إذا جاء أحد وقدم إليه أو أخذ منه، فهذا فضل وإحسان؛ لكنه ليس من المسألة، يعني: لم يكن هذا من سؤاله وطلبه. ومن عاشر الشيخ واقترب منه أدرك هذا من شأنه -رَحِمَهُ اللهُ- نسأل الله -عز وجل- أن يقدس روحه في جنات النعيم، وأن يتبِّعنا وإياكم أثر الصالحين.



 (وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق، والنهي عن مسألة المخلوق، في غير موضع، كقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)﴾([13]). وقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-لابن عباسرضي الله عنهما:((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله))([14]).ومنه قول الخليل-عليه السلام-: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾([15]).ولم يقل:فابتغوا الرزق عند الله؛ لأن تقديم الظرف، يشعر بالاختصاص والحصر، كأنه قال:لا تبتغوا الرزق إلا عند الله، وقد قال تعالى:﴿وَاسْأَلُوا اللّهَ مِن فَضْلِهِ﴾([16])).



لما ذكر الله -جل وعلا- ما فضل به الرجال على النساء، قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-:﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ﴾([17]).  ثم قال جل وعلا- في التوجيه إلى تحصيل الفضائل، قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿وَاسْأَلُوا اللّهَ مِن فَضْلِهِ﴾يعني: لا ينبغي لكم أن تمتلئ قلوبكم رغبة فيما عند الناس من الفضائل التي منَّ الله بها عليهم، بل توجهوا إلى الله الذي بيده الخير، وإليه الخير،وإليه يرجع الأمر كله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، الخير كله في يديه -جل وعلا-، فمن رغب في خير من خير الدنيا والآخرة فليلجأ إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وليتوجه إليه، فإنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قريب مجيب، وهذا سرّ التوجيه في آخر الآية، بعد ذكر التفاضل، قال: ﴿وَاسْأَلُوا اللّهَ مِن فَضْلِهِ﴾. فإن الفضل بيد الله، ولا تمتلئ قلوبكم تشوفاً وتطلعاً إلى ما منَّ الله به على بعضكم دون بعض. وهذا يشمل تفضيل الرجال على النساء، ويشمل أيضاً مما يشمل تفضيل بعضنا على بعض في علم، أو مال، أو جاه، أو منصب، أو غير ذلك مما يحصل به التفاضل والتسابق في الدنيا.



فإنه ينبغي لك، إذا رأيت ما يعجبك في أخيك- من علم، أو مال، أو حفظ، أو فهم، أو بيان، أو غير ذلك مما تتطلع إليه نفسك- أن تلجأ إلى الله الذي وهبه، فإنه قادر على أن يهبك -جل وعلا-. وإذا عوّدت نفسك على ذلك لن تجد في نفسك غلاًّ، أو حسداً، أو ضغينة على أخيك المسلم؛ بل على العكس، ستجد أنك تفرح بمنة الله على غيرك؛ لأنّ منة الله على غيرك تظهر عظمة الرب الذي منَّ على هذا، ووهب هذا. فإن الله -جل وعلا- من أسباب الاستدلال عليه، عطاياه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- التي لا ينفك عنها الخلق.



والإنسان إذا ربّى نفسه على التعلق بالله -جل وعلا- والنظر إلى ما عنده، كُفي شرّاً عظيماً، وهُدي إلى راحة، وطمأنينة، وسكون بال، وأصبحت علاقاته، أخذه وعطاؤه، منعه وهبته، كلها منظوراً فيها إلى الله -عز وجل- ،كلها وفق أمر الله -جل وعلا-.



وقد قال شيخنا مرة من المرات، في مسألة الحسد: أنا أعجب ممن يحسد أخاه على العلم، كيف يتحاسدون، وهم كلهم خدام للشريعة؟



يعني: هذه كلمة في الحقيقة تقضي على ما في نفس الإنسان من تطلّع، يعني: إذا نظرت إلى ما عند أخيك من علم، ما عنده من فضل، ما عنده من نفع للناس، فلا تجد في صدرك عليه، بل افرح بذلك. هو يا أخي يخدم الشريعة، كما أنك تؤمل وتسعى إلى خدمة الشريعة. فكلنا خُدّام للشريعة، والواجب على من كان صادقاً في خدمة الشرع، أن يفرح بأن يخدم غيره الشريعة، وأن ينصر غيره دين رب العالمين، وأن لا يكون ذلك وقفاً على نفسه، حكراً عليه؛ بل يفرح بكل من يدعو الناس إلى بر، إلى خير، إلى هدى، إلى طاعة، ويكون ذلك مما يسر به، ويدعو به لصاحبه، لا يكون على العكس من هذا، يوغر صدره عليه،  ويجد في نفسه من الضغينة والحقد عليه ما الله به عليم.



(والإنسان لا بد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه، ودفع ما يضره، وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه لله، فلا يسأل رزقه إلا من الله، و لا يشتكي إلا إليه، كما قال يعقوب -عليه السلام-: ‏﴿‏ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ‏﴾([18]).



والله تعالى ذكر في القرآن الهجر الجميل، و الصفح الجميل، و الصبر الجميل.



وقد قيل: إن الهجر الجميل هو هجر بلا أذى، والصفح الجميل صفح بلا معاتبة، والصبر الجميل صبر بغير شكوى إلى المخلوق. ولهذا قرئ على أحمد بن حنبل في مرضه: إنّ طاووساً كان يكره أنين المريض، ويقول: إنّه شكوى، فما أَنَّ أحمد حتى مات.



وأما الشكوى إلى الخالق، فلا تنافي الصبر الجميل. فإن يعقوب قال: ‏﴿‏َ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾‏([19])، وقال: ‏﴿‏إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ ‏﴾‏‏([20])).



قيل: إن البث هو الحزن العميق، أشد من الحزن، فيكون من باب عطف العام على الخاص. يعني: البث حزن مع تألم، وأما الحزن فهو حزن مجرد. هكذا فرّق بعضهم بين البث والحزن، وبعضهم قال: هو واحد، ويكون من أمثلة وشواهد عطف المتماثلات.



(وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقرأ في الفجر بسورة يونس ويوسف والنحل، فمر بهذه الآية في قراءته، فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف.



ومن دعاء موسى-عليه السلام-:اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك.



وفيالدعاء الذي دعا به النبي -صلى الله عليه وسلم- لماّ فعل به أهل الطائف ما فعلوا:((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، اللهم إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري. إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله)).وفيبعض الروايات: ((ولا حول ولا قوة إلا بك))([21])).



هذا الدعاء فيه أعظم التضرع لله -عز وجل- من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد جمع هذا التضرع أنواعاً من التوسل:



جمع أولاً وصف حال السائل، فإن التضرع إلى الله -عز وجل- يكون بوصف حال السائل، ومنه قوله: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس)). هذا تضرع وتوسل إلى الرب -جل وعلا- بأي شيء؟ بوصف حال السائل.



ويكون التضرع أيضاً بوصف حالالمسؤول، وذلك في قوله: ((يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي)).



ثم عاد في السؤال والطلب إلى وصف حاله، وشدة افتقاره: ((اللهم إلى من تكلني؟)) يعني: إلى من تكل أمري؟ ((إلى بعيد يتجهمني)) وهم أهل الطائف(( أم إلى عدو ملكته أمري )) وهم أهل مكة، فكلهم آذاه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ-.



ثم رجع وأظهر التجلد والصبر لقضاء الله وقدره، فقال:((إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي)). يعني: إن لم يكن هذا الذي نزل بي، وهذا البلاء الذي حلّ بي، سببه غضبك عليّ؛ فلا أبالي، فهو من جملة ما ترتفع به الدرجات، وتعلو به، وتكفر به الخطايا. وهذا فيه غاية التسليم لقضاء الله وقدره، وأن العبد لا ينظر إلى المصيبة على أنها مصيبة نالته، وأصابت منه، إنما ينظر: هل هذه مصيبة سببها غضب وسخط، فعند ذلك تكون النقمة، عند ذلك تكون البلية. أما إذا كان هذا الذي نزل به تكفيراً، أو لم يقترن بغضب وسخط، فالأمر سهل؛ لأنه لا يخرج عن أن يكون تكفيراً للذنب، أو رفعاً للدرجات.



ثم قال: ((غير أن عافيتك أوسع لي)). وهذا استدراك، حتى يتبرأ من حوله وقوته، ولا يتعرض للبلاء، بعد أن بين أنه يصبر على قضاء الله، خشي أن يكون هذا من الاعتداد بقوة النفس، والاعتداد بما عند الإنسان من قدرة، فقال: ((غير أن عافيتك أوسع لي)) يعني: أوسع وأرحب من أن ينزل بي غضبك، أو أن ينالني سخطك، أو أن تشدد علي في البلاء.



((أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة)). ولا شك أن كل نور فهو من نور الله -جل وعلا-، كل نور يضيء السبيل، ويهدي الطريق، فهو من نور الله -جل وعلا- ولذلك وصف الله نفسه بالنور، ووصف كتابه بالنور، ووصف أولياءه بأنه آتاهم نوراً، وأنهم على نور: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ‏‏([22]). والناس يتفاوتون في هذا النور تفاوتاً عظيماً، بقدر ما يكون معهم من التصديق، والإيمان، والقبول لما جاء به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كما قال الله -جل وعلا-:﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا﴾([23]).﴿وَلَكِن جَعَلْنَاهُ﴾أي هذا الروح، وهو ما أنزله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إلى نبيه، من الهدى، ودين الحق ﴿وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا﴾.يقول: ((أن ينزل بي سخطك)). هذا المستعاذ منه، يعني المطلوب من هذه الاستغاثة، وهذه الاستعاذة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك. ثم قال:((لك العتبى حتى ترضى)). لك العتبى، أي: لك الاعتذار، وطلب الرضا حتى يحصل رضاك((لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)) أي: لا تحول من هذه الحال الشديدة، التي أنا فيها، إلا بتحويلك وقوتك، فيه التبرؤ التام من كل حول وقوة، وكلة الأمر إلى الله -جل وعلا-.



وهذا يا إخواني، يحتاجه الإنسان، يحتاج الإنسان إلى أن يبث شكواه إلى رب العالمين، ومن بث شكواه إلى رب العالمين، فقد بثها إلى من بيده الأمر، الذي أمره إذا أراد شيئاً إنما يقول له: كن فيكون: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ([24]).فسرعان ما يحصل له الفرج، وتنكشف عنه سدف الظلام التي أحاطت به، وتنكشف عنه الكروب، لكن الناس يغفلون عن هذا، وتجد أنهم يشكون إلى غير الله -جل وعلا- ما نزل بهم، يشكون الله إلى خلقه، ولو أنهم شكوا إلى ربهم، لوجدوا ربّاً برّاً، رؤوفاً، رحيماً، قريباً، مجيباً، سبحانه وبحمده.



 



ثم قال -رحمه الله-:



(وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته، قويت عبوديته له، وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه. كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره. فكذلك طمع العبد في ربه، ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق، بحيث يكون قلبه معتمداً إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإمّا على أمواله وذخائره، وإمّا على ساداته وكبرائه، كمالكه ومَلِكِهِ وشيخه ومخدومه، وغيرهم ممن هو قد مات أو يموت. قال تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)﴾([25]).



وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه؛ خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم، مدبراً لهم، متصرفاً بهم. فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة، ولو كانت مباحة له، يبقى قلبه أسيراً لها، تحكم فيه، وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها أو مالكها، و لكنه في الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، ولا سيما إذا درت بفقره إليها، وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها؛ فإنها حينئذ تتحكم فيه تحكم السيد القاهر الظالم، في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه بل أعظم، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق وأُسر لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئنّاً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقاً، مستعبداً، متيماً لغير الله؛ فهذا هو الذل، والأسر المحض، والعبوديةالذليلةلما استعبد القلب.



وعبودية القلب وأسره، هي التي يترتّب عليها الثواب والعقاب. فإنّالمسلم لو أسره كافر، أو استرقه فاجر بغير حق، لم يضره ذلك، إذا كان قائماً بما يقدر عليه من الواجبات. ومن استعبد بحق، إذا أدى حق الله، وحق مواليه فله أجران. ولو أكره على التكلم بالكفر، فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضره ذلك. وأما من استُعبد قلبه، فصار عبداً لغير الله؛ فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر ملك الناس.



فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس. قال النبي -صلى الله عليه وسلم:((ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس))([26]). وهذا لعمر الله، إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة. فأما من استعبد قلبه صورةمحرمة، امرأة أوصبي؛ فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب، وهؤلاء من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً، فإن العاشق لصورة، إذا بقي قلبه متعلقاً بها، مستعبداً لها؛ اجتمع له من أنواع الشر والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى، فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة، أشد ضرراً عليه ممن يفعل ذنباً ثم يتوب منه، ويزول أثره من قلبه).



ولذلك يجب على المؤمن أن يعلق قلبه بالله-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-. القلب يا إخواني وعاء، إذا ملئ بمحبة الله -جل وعلا- لم يكن فيه مكان لغيره، وإذا خلّط فيه الإنسان اضطربت حاله، وأصبح نَهْبًا لكل ما يتعلق به، من صورة، أو مال، أو غير ذلك مما يتعلق به الناس.



فالواجب على المؤمن أن يملأ قلبه بمحبة الله، ومن ملأ قلبه بمحبة الله فرّغ الله قلبه من كل شيء؛ لأن محبة الله تملأ القلب، وتمنع تعلقه بغيره، قال الله -جل وعلا-:﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِوَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍالزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍلا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌنُّورٌ عَلَى نُورٍ([27]). هذا المثل الذي ضربه الله -جل وعلا- هو مثل نوره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في قلب عبده المؤمن، فإذا ملأ العبد قلبه بالرب، نظراً في صفاته، وتأملاً في أفعاله، ونظراً في أسمائه، وتدبراً في كتابه؛لم يبق فيه تعلق لغيره، وهذا هو السعادة التامة. أسعد الناس أعظمهم تعلقاً بالله، أسعد الناس أقلهم تعلقاً بالمخلوقين، على اختلاف ما يتعلق به الناس. من الناس من يتعلق بالمال، منهم من يتعلق بالولد، منهم من يتعلق بالزوجة، ومنهم من يتعلق بالصور المحرمة، من النساء المحرمات أو المردان، أو غير ذلك. كل هذا مما يشغل القلب، ويشتته، ويضعف قوته، ويكون له أثر على عمل الإنسان، وتقواه، وصلاحه.



فينبغي للمؤمن أن يخلي قلبه من هذا. المسألة تحتاج إلى مقاومة، إلى مجاهدة، إلى دوام نظر، إلى ما يملأ القلب. إذا حصل للعبد ذلك؛ فإنه سيوفق، ويصرف عنه هذه الأمور، أما إذا أطلق في نفسه الهوى، وتعلق بكل آت وذاهب؛ فإنه سيشتت قلبه في أودية كثيرة، ثم لا يجتمع على حق، ولا يقوم بخير، بل هو موتور، فاتر القوى؛ لتشتت همومه وتعلُّقاته.



والعبودية الحقيقية في عبادة الله -عز وجل-، كل من ظن أنه يتحرر بالتخفف من شريعة الله -عز وجل- فهو واهم، فإنّه من تخفف من شريعة الله؛ وقع في عبادة الشيطان، كما قال ابن القيم رحمه الله:        فروا من الرق الذي خلقوا له               وبلوا برقّ النفس والشيطان



(فروا من الرق الذي خلقوا له). ما هو الرق الذي خلقوا له؟ الرق لرب العالمين (وبلوا)أي وامتحنوا (برقّ النفس والشيطان). نعوذ بالله من الخذلان.



(وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين،كما قيل:



سُكْرَان سكر هوى وسكر مدامة*** ومتى إفــاقة من به سُكرانِ



وقيل:



قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم***العشق أعظم مـما بالمجـانينِ.



العشق لا يستفيق الدهر صاحبه***وإنما يصرع المجـنون في الحينِ



ومن أعظم أسباب هذا البلاء إعراض القلب عن الله، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله، والإخلاص له؛ لم يكن عنده شيءقط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب، والإنسان لا يترك محبوباً إلا بمحبوب آخر، يكون أحب إليه منه، أو خوفاً من مكروه، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر، قال تعالى في حق يوسف:‏﴿‏كَذَلِكَلِنَصْرِفَعَنْهُالسُّوءَ وَالْفَحْشَاءَإِنَّهُمِنْعِبَادِنَاالْمُخْلَصِينَ‏﴾([28]). فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله.



ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له، تغلبه نفسه على اتّباع هواها، فإذا ذاق طعم الإخلاص، وقويفي قلبه انقهر له هواهبلا علاج. قال تعالى:﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾([29]). فإن الصلاة فيها دفع للمكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب، وهو ذكر الله،وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع ذلك المكروه. فإن ذكر الله عبادة لله، وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها، وأما اندفاع الشر عنه فهو مقصود لغيره على سبيل التَّبع.



والقلب خُلق يحب الحق ويريده ويطلبه، فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك؛ فإنها تفسد القلب، كما يَفسد الزرع بما ينبت فيه من الدَّغَل، ولهذا قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا(10)﴾([30]). وقال تعالى: ‏﴿‏ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى(15)‏﴾([31]).وقال: ‏﴿‏قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ‏﴾([32]). وقال تعالى: ‏﴿‏وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا‏﴾([33]). فجعل -سبحانه- غض البصر، وحفظ الفرج، هو أقوى في تزكية النفس، وبيّن أنّ ترك الفواحش من زكاة النفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور: من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك.وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض، قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مُقَدَّمَهُم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم؛ فيبذل لهم الأموال والولايات، ويعفو عمّا يجترحونه ليطيعوه ويعينوه. فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفيالحقيقة عبد مطيع لهم.والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للآخر، وكليهما تارك لحقيقة عبادة الله، وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرضبغير الحق؛ كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق، فكل واحد من الشخصين- لهواه الذي استعبده واسترقه- مستعبَد للآخر.



وهكذا أيضاً طالب المال؛ فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان:



منها ما يحتاج العبد إليه، كما يحتاج إليه من طعامه، وشرابه، ومسكنه، ومنكحه، ونحو ذلك. فهذا يطلبه من الله، ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته، بمنزلة حماره الذي يركبه،وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضيفيه حاجته، من غير أن يستعبده فيكون هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً.



و منها ما لا يحتاج العبد إليه، فهذا لا ينبغيله أن يعلق قلبه بها. فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبداً لها،وربما صار معتمداً على غير الله، فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله، ولا حقيقة التوكل عليه،بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله،وهذا من أحق الناس بقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:((تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة))([34]).وهذا هو عبد هذه الأمور، فلو طلبها من الله فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإذا منعه إياها سخط. وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله،ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورس

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : أهمية الدعاء ( عدد المشاهدات85992 )
3. خطبة: التقوى ( عدد المشاهدات80483 )
4. خطبة: حسن الخلق ( عدد المشاهدات74769 )
6. خطبة: بمناسبة تأخر نزول المطر ( عدد المشاهدات61838 )
7. خطبة: آفات اللسان - الغيبة ( عدد المشاهدات56369 )
9. خطبة: صلاح القلوب ( عدد المشاهدات53357 )
12. خطبة:بر الوالدين ( عدد المشاهدات50922 )
13. فما ظنكم برب العالمين ( عدد المشاهدات50647 )
14. خطبة: حق الجار ( عدد المشاهدات46030 )
15. خطبة : الإسراف والتبذير ( عدد المشاهدات45575 )

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف