بسم الله الرحمن الرحيم
(والجهاد هو بذل الوسع، وهو كل ما يُملَك من القدرة في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق. فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه. ومعلوم أن المحبوبات لا تُنال غالباً إلا باحتمال المكروهات، سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة. فالمحبون للمال والرئاسة والصور لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا، مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة. فالمحب لله ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى ذو الرأي من المحبين لغير الله، مما يحتملون في سبيل حصول محبوبهم؛ دل ذلك على ضعف محبتهم لله، إذا كان ما يسلكه أولئك في نظرهم هو الطريق الذي يشير به العقل).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فالمؤلف رحمه الله عرف الجهاد بتعريف عام واسع وليس بالتعريف المقصور على نوع منه وهو الجهاد في سبيل الله وهو مقاتلة الكفار، إنما عرفه بما هو عام وواسع يشمل جميع أنواع الجهاد، يقول رحمه الله: (والجهاد هو بذل الوسع) بذل الطاقة، فسر الوسع بقوله: (وهو كل ما يملك من القدرة)يعني أن يبذل الإنسان كل ما يملكه من القدرة والمكنة والاستطاعة (في حصول محبوب الحق)يعني في حصول ما يحبه الله جل وعلا (ودفع ما يكرهه الحق)وهذا الجهاد واجب على كل مؤمن ومؤمنة وكل مسلم ومسلمة؛ لأنه لا يمكن أن يتحقق أي محبوب لله عز وجل إلا بهذا، فإنه لا بد لتحصيل محاب الله جل وعلا من الطاعات والحسنات، لا بد من مجاهدة. ولا بد في دفع ما يكره من المعاصي والسيئات الخاصة والعامة، لا بد من مجاهدة. فلا بد من هذا النوع، وهو يشمل جهاد النفس وجهاد المنافقين وجهاد العصاة وجهاد الكفار، يشمل جميع أنواع الجهاد، فجميع أنواع الجهاد تدخل في هذا التعريف العام. يقول رحمه الله:(فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه) هذاميزان واضح بين في أن القصور في الطاعة دليل على القصور في المحبة، القصور في طاعة الله عز وجل بامتثال ما أمر والانتهاء عما نهى يدل على القصور في المحبة، وهو مستفاد من قول الله جل وعلا: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾([1])فجعل الله عز وجل متابعة النبي صلى الله عليه وسلم دليلاً على صدق المحبة، فإذا قصر الإنسان في المتابعة كان هذا دالاًّ على قصوره ونقص محبته. ثم قال رحمه الله: (ومعلوم أن المحبوبات لا تُنال غالباً إلا باحتمال المكروهات) لا إشكال، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره))([2]). يعني: ما تكرهه النفوس. فلابد من الصبر، ولذلك قال الله جل وعلا: ﴿إِنَّمَايُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)﴾([3])؛ لأن الصبر به يحصل الإنسان على ما يرغب من فضل الله ورحمته.
ثم قال:
(ومن المعلوم أن المؤمن أشد حبّاً لله، كما قال تعالى:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾([4]).نعم، قد يسلك المحبُّ-لضعف عقله، وفساد تصوره- طريقاً لا يحصِّل بها المطلوب. فمثل هذه الطريق لا تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة،فكيف إذا كانت المحبة فاسدة، والطريق غير موصل.كما يفعله المتهورون في طلب المال، والرئاسة، والصور، في حب أمور توجب لهم ضرراً، ولا تحصل لهم مطلوباً. وإنما المقصود الطرق التييسلكها العقل السليم لحصول مطلوبه. وإذا تبين هذا فكلما ازداد القلب حبّاً لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبّاً وفضّله([5]) عما سواه).
الله أكبر! فمن ادعى محبة الله -جل وعلا- دون أن يقدم لذلك برهاناً من العمل الصالح، وترك ما نهى الله -جل وعلا- عنه فإنه كاذب في دعواه، ولذلك أنزل الله -جل وعلا - هذا المعيار الفاصل لما كثر المدعون للمحبة، كما يقول ابن القيم-رحمه الله- وغيره من أهل العلم: أنزل الله -جل وعلا- قوله: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾([6])؛ ليميز الله -جل وعلا- بين المحبة الكاذبة والمحبة الصادقة، محبة الأدعياء ومحبة الأولياء، فمحبة الأدعياء خالية من عمل صالح، أما محبة الأولياء فهي مقرونة بامتثال الأمر وترك النهي، والمسارعة في طاعة الله -عز وجل- وما يحب رغباً ورهباً.
والمؤلف -رحمه الله- إنما خص المحبة بالحديث في هذا المقطع لأن المحبة ركن العبادة؛ لأن العبادة-كما تقدم لنا- لا تقوم إلا على غاية الحب، وغاية الذل. الآن المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- تكلم عن المحبة، وأنها لابد أن تكون خالصة لله، وأنه لا يمكن أن يكون الإنسان محبّاً إلا إذا بيّن ذلك بتحقيق العبودية لله -جل وعلا-، ولا يمكن أن يكون عبداً إلا إذا أخلص المحبة، وصرفها لله -جل وعلا-. يقول رحمه الله:
(والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة، وهيالعلة الغائية. ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهيالعلة الفاعلة.فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يلتذ، ولا يسر، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه، والإنابة إليه. ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات، لم يطمئن، ولم يسكن. إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده، ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح، والسرور، واللذة والنعمة، والسكون والطمأنينة).
هذا الكلام كلام نفيس. قرر فيه المؤلف -رحمه الله- افتقار العبد لمحبة الرب -جل وعلا- وأنه لا قوام له إلا بهذه المحبة، لا يمكن أن ينال سعادة، ولا لذة، ولا طمأنينة، ولا سكوناً، ولا ابتهاجاً، ولا فرحاً، ولا سروراً، ولا شيئاً من هذه المعاني إلا بتحقيق المحبة لله عز وجل، ومهما كان الإنسان متمكناً من أسباب السرور، والابتهاج، والفرح في الدنيا، إلا أنه إن لم يأخذ بهذا الباب، وبهذا السبب وهو محبة الله -عز وجل- فإنه لا يجد طمأنينة، ولا سكوناً. ولذلك يقول المؤلف -رحمه الله: (ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات، لم يطمئن، ولم يسكن دون محبة الله -جل وعلا-، إذ فيه فقر ذاتي) يعني فقر لا يمكن أن يتخلص منه، فقر موصوف به لا يمكن أن ينفك عنه. وهو فقره إلى الرب -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّالْحَمِيدُ (15)﴾([7]).فينبغي للعبد أن يسد هذه الفاقة، وأن يغني هذا الفقر بالالتجاء إلى الرب - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وتحقيق المحبة له - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- دون غيره، وبه يحصل له المسرات، به يحصل الفرح، به يحصل الانشراح، به يحصل كل سعادات الدنيا، وأما سعادات الآخرة فلا إشكال أن بابها الأقوم، وصراطها الذي لا عوج فيه هو تحقيق العبودية لله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -. هذا الأمر الأول، وهو ما أشار إليه في قوله: (فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة وهيالعلة الغائية) يعني: التي من أجلها خلق الله الخلق، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾([8]). فاللام هنا للتعليل، والعلة هنا علة غائية. يعني: الغاية من الخلق تحقيق العبودية لله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -. وذلك أيضاً في قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾([9]).أما الوجه الثاني فهو ما يأتي في كلام المؤلف الآن:
(وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله؛ فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾([10]).فإنّه لو أعين على حصول ما يحبه، ويطلبه، ويشتهيه، ويريده، ولم يحصل له عبادةلله؛ فلن يحصل إلا على الألم، والحسرة، والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها، إلا بإخلاص الحب لله، بحيث يكون هو غاية مراده، ونهاية مقصوده، وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله، لا يحب شيئاً لذاته إلا الله).
وهذا فيه تقرير المعنى الثاني الذي احتوت عليه هذه الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)﴾. فإنه إذا لم يعن الله -جل وعلا- العبد على تحقيق المحبة؛ فإنه لا سبيل إلى تحصيلها. السكون والطمأنينة، والفرح، والابتهاج، والسرور، واللذة في محبة الله -جل وعلا-، ما الطريق إلى تحصيلها؟ الطريق الاستعانة بالله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾. الاستعانة بالله -عز وجل- والتبرؤ من الحول والقوة، وشهود الحاجة والافتقار إلى عون الله -عز وجل- في تحقيق ذلك. فإنه من لم ييسر الله –جل وعلا- له الخير لم يتيسر، ومن لم يوفقه إلى البر لم يوفَّق. وكل خير تحصله، وكل بر تَطْرُقه، إنما هو بتيسير الله، وفضله، وإحسانه، وجوده.
فعلى هذا ينبغي للمؤمن أن يسعى في تحقيق محبة الله -عز وجل-، وتحقيق ما أمر به، مستعيناً بالله -عز وجل- في ذلك. ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في وصيته لمن يحب، لمعاذ بن جبل: ((يا معاذ، إني أحبك، فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك))([11]).دبر كل صلاة. يعني في خاتمة كل صلاة، ومعلوم أن الدعاء في خاتمة الصلاة من مواطن الإجابة. فأمره بملازمة هذا الدعاء؛ لأنه لا يتحقق للإنسان الفلاح، والنجاح، وتحصيل المطلوب إلا به.
فينبغي للمؤمن أن يستحضر هذين الأمرين:
· أنه لا سعادة له إلا بمحبة الله -عز وجل-.
· ولا يمكن أن يدرك محبة الله -عز وجل- إلا بطلب العون منه.
فالكل منه وإليه - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -. نعم.
(فمتى لم يحصل له هذا، لم يكن قد حقق حقيقة لا إله إلا الله).
هذا المقطع يشير إلى الجهة الثانية التي فيها فقر الإنسان، من جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلة. يعني: أن العبد لا يمكن أن يحصِّل ما يريد؛ إلا إذا قدره الله له، وإذا أعانه عليه، ويسره له. فهو فقير إلى الله -جل وعلا- شرعاً، فقير إليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قدراً، فلا غنى به عن عبادة الله، ولا غنى به عن إعانة الرب-جل وعلا- في تحقيق وتحصيل مطلوبه.
(فمتى لم يحصل له هذا، لم يكن قد حقق حقيقة لا إله إلا الله، ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة لله، وكان فيه من نقص التوحيد والإيمان، بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك.
ولو سعى في هذا المطلوب، ولم يكن مستعيناً بالله، متوكلاً عليه، مفتقراً إليه في حصوله؛ لم يحصل له. فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فهو مفتقر إلى الله من حيث هو المطلوب المحبوب، المراد، المعبود، ومن حيث هو المسؤول، المستعان به، المتوكل عليه. فهو إلهه لا إله له غيره، وهو ربه لا رب له سواه ).
المؤلف -رحمه الله- في هذا المقطع ذكر موجب تخلف هذين الأمرين؛ يعني: ذكر ما يقتضيه تخلف واختلال هذين الأمرين. فإذا أحب العبد غير الله -جل وعلا- مهما كان هذا المحبوب؛ فإنه لا يجني منه إلا الألم والحسرة والعذاب. وإذا قصد محبة الله ولم يستعن به على تحصيل محبوبه؛ فإنه لا يدرك المحبوب، ولا يحصل إلا على الألم والعذاب والحسرة. فكمال العبد وسلامته من هذه الأكدار أن يحقق هذين الأمرين المجموعين في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾([12]). تحقيق العبودية مع تحقيق الاستعانة به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في ذلك. يقول: (ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين) يريد الأمرين اللذين تقدم ذكرهما.
(ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين، فمتى كان يحب غير الله لذاته، أو يلتفت إلى غير الله أنه يعينه كان عبداً لما أحبه، وعبداً لما رجاه، بحسب حبه له ورجائه إياه. وإذا لم يحب أحداً لذاته إلا الله، وأي شيء أحبه سواه فإنما أحبه له، ولم يرج قط شيئاً إلا الله، وإذا فعل ما فعل من الأسباب، أو حصّل ما حصّل منها، كان مشاهداً أنّ الله هو الذي خلقها، وقدرها، وسخرها له، وأنّ كل ما في السماوات والأرض فالله ربه، ومليكه، وخالقه، ومسخره، وهو مفتقر إليه؛ كان قد حصل له من تمام عبوديته لله بحسب ما قسم له من ذلك).
الله أكبر! هذا فيه الإشارة إلى أن الاستعانة بالله -عز وجل- لا يلزم منها إلغاء الأسباب، لا يلزم من الاستعانة بالله -عز وجل- أن يلغي الأسباب، لكن الذي ينبغي أن يستحضره الإنسان في هذه الأسباب أنها من قدر الله -جل وعلا-، فإن الله قدر المطلوب وقدر أسبابه، وما من سبب إلا بتيسير الله وتقديره. فإذا لم ييسر الله السبب، ويقدر حصول الشيء به؛ فإنه لا يتم، لا يحصل. فالاستعانة بالله لا تعني أن يتخلى الإنسان عن الأخذ بالأسباب، بل يجب عليه أن يأخذ بالأسباب ليحصِّل مطلوبه. نعم.
(والناس في هذا على درجات متفاوتة لا يحصي طرقها([13]) إلا الله. فأكمل الخلق، وأفضلهم، وأعلاهم، وأقربهم إلى الله، وأقواهم، وأهداهم، أتمهم عبودية لله من هذا الوجه.
وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه. وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره. فالمستسلم له ولغيره مشرك، والممتنع عن الاستسلام له مستكبر).
الآن المؤلف -رحمه الله- في هذا المقطع، يتحدّث عن الركن الثاني من أركان العبادة الذي لا يحصل الاستسلام، ولا تتحقق العبودية إلا به، وهو الذل لله -جل وعلا- والتعظيم له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-. وكل من لم يذل للرب -جل وعلا- فإنه ليس عبداً له، وفي عبوديته قصور، ونقص. ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بيان أن الكبر ينافي العبودية: ((إن الجنة لا يدخلها من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر))([14])مثقال يعني: ميزان، وزن. المثقال نوع من الوزن، وزن ذرة من كبر، والذرة قد لا تدركها العيون؛ لصغرها وخفة جرمها. مع ذلك إذا كان في قلب العبد هذا المثقال، هذا القدر من الكبر منعه من دخول الجنة. والمنع هنا ليس المنع المؤبد- أي أنه من أهل النار الكافرين- لكنه المنع الذي يمنع الدخول الابتدائي، حتى يطهَّر من هذا، وينقى ويمحص، ويزال ما في قلبه من كبر، حتى يصلح أن يكون من أهل الجنة؛ لأن أهل الجنة هم الأذلاء لله رب العالمين، هم عباد الله الذين حققوا العبودية، ليس في قلوبهم نجس، وليس فيها كدر، وليس فيها وسخ، بل هي طاهرة منقاة. فإن الله -جل وعلا- جعل الجنة دار الطيبين، والكبر ينافي الطيب. نعم، يقول رحمه الله: (والممتنع عن الاستسلام له مستكبر)، ثم قال:
(وقد ثبت في الصحيح عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ((أنّ الجنة لا يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من كبر، كما أن النار لا يخلد فيها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان([15]))). فجعل الكبر مقابلاً للإيمان، فإن الكبر ينافي حقيقة العبودية. كما ثبت في الصحيح عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: ((يقول الله: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما عذبته))([16]). فالعظمة والكبرياء من خصائص الربوبية، والكبرياء أعلى من العظمة، ولهذا جعلها بمنزلة الرداء، كما جعل العظمة بمنزلة الإزار).
والرداء أرفع وأعلى من الإزار، والكبرياء يشمل ويتضمن العظمة، دون العكس. ولذلك جعل الكبرياء له سبحانه وتعالى. فله-جل وعلا- الكبرياء في السماوات وفي الأرض، والعظمة له -سبحانه وتعالى-. لكن الكبرياء لا يكون إلا له -جل وعلا-، ولا يوصف إلا به. وهذا مما يختص به الرب بإجماع أهل العلم، فهو -سبحانه وتعالى- المتكبر، وكل من اتصف بهذه الصفة، فقد نازع الله -جل وعلا- ما اختص به، وكذلك العظمة. لكن الكبرياء أشرف وأعلى، ويدل عليها ما ذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جعل الكبرياء بمنزلة الرداء، ومن جعل العظمة بمنزلة الإزار. والرداء عند الناس أعلى وأرفع من الإزار، هذا وجه.
الوجه الثاني مما يدل على أن الكبرياء أعظم من العظمة، وأشمل، وأوسع. يقول:
(ولهذا كان شعار الصلوات، والأذان، والأعياد هو التكبير، وكان مستحبّاً في الأمكنة العالية كالصفا والمروة، وإذا علا الإنسان شرفاً، أو ركب دابة ونحو ذلك، وبه يطفأ الحريق([17])وإن عظم).
كما ورد في بعض الأحاديث أنه يطفأ به الحريق، فإذا اشتعل الحريق، شرع التكبير. إلا أن الحديث الوارد في هذا فيه ضعف، ولعل الشيخ -رحمه الله- ذكره على وجه الاستحباب، ومعلوم أن الحديث إذا كان ضعفه ليس بالقوي يكون الحكم المضمّن: إن كان أمراً للاستحباب، وإن كان نهياً للكراهة، على القاعدة التي ذكرها ابن مفلح في النكت.
(وعند الأذان يهرب الشيطان. قال تعالى:﴿وَقَالَرَبُّكُمُادْعُونِيأَسْتَجِبْلَكُمْ إِنَّالَّذِينَيَسْتَكْبِرُونَعَنْعِبَادَتِيسَيَدْخُلُونَجَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾([18])).
و مما يدلك على أن الكبرياء أعظم من العظمة، وأوسع، وأرفع، أنه لا يجزئ بإجماع أهل العلم، أن يقول الإنسان في صلاته -عوضاً عن الله أكبر-: الله أعظم، أو الله أجلّ. هذا بالإجماع لهذه العلة، وأيضاً لكون الأذكار في الصلاة توقيفية. نعم.
(وكل من استكبر عن عبادة الله، لابد أن يعبد غيره. فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة).
قوله: (حساس)، أي يدرك الأمور بحواسه، وقوله: (يتحرك بالإرادة)، أي إنه لا يخلو من إرادة. فهو مريد على كل حال، لا يمكن أن يخلو قلب الإنسان من إرادة، لكن الذي يختلف فيه الناس هو ما يقوم في قلوبهم من المرادات:
فمنهم من يريد الخير ويريد البر.
ومنهم من يقع في إرادة الشر والفساد.
وإلا فإن كل نفس مشغولة، لا بد لها من إرادة، كما قال الله جل وعلا: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾([19]). وكما قال سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾([20])في النفس. فإنه لا بد إمّا من فلاح أو خيبة، لا بد من تزكية أو تدسية. فالإنسان يتحرك بالإرادة، هذا معنى قول المؤلف -رحمه الله-: (فإنّ الإنسان حساس يتحرك بالإرادة). فمن امتنع واستكبر عن عبادة الله -جل وعلا-؛ اشتغلت نفسه بعبادة غيره، إمّا من الأصنام، أو الأوثان، أو غير ذلك من المعبودات، أو الهوى، وعبادة النفس والشيطان.
(وقد ثبت في الصحيح عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أنه قال: ((أصدق الأسماء حارث وهمام))([21]). فالحارث الكاسب الفاعل، والهمام فعّال من الهم، والهم أول الإرادة. فالإنسان له إرادة دائمة، وكل إرادة فلا بد لها من مراد تنتهي إليه، فلا بد لكل عبد من مراد محبوب، هو منتهى حبه وإرادته. فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، بل استكبر عن ذلك؛ فلا بد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبداً لذلك المراد المحبوب: إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله كالشمس، والقمر، والكواكب، والأوثان، وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أرباباً، أو غير ذلك مما عبد من دون الله).
قوله -رحمه الله-: (وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: ((أصدق الأسماء حارث وهمام))). المعلقون على هذه الرسالة ممن حققها، استدركوا على الشيخ -رحمه الله- أن الحديث ليس في الصحيحين، لا في البخاري ولا في مسلم. ولكن استعمال هذه العبارة يظهر من استعمال الشيخ لها أنها أوسع من كون الحديث في الصحيحين، أو في أحدهما: في البخاري أو في مسلم. فهو يقول: وفي الصحيح، أو ثبت في الصحيح. والمراد به الحديث الصحيح، سواء كان عند البخاري ومسلم، أو عند غيرهما. فلا يلزم من هذا الاستدراكُ، لا سيما والإمام شيخ الإسلام –رحمه الله- ابن تيمية من الحفاظ المتقنين؛ فيبعد أن يهم في هذا، على أن الوهم لا يسلم منه أحد، لكن في عدة مواضع يقول الشيخ -رحمه الله-: وفي الصحيح، أو وثبت في الصحيح. وليس مراده بذلك البخاري ومسلم، وإنما مراده ثبت في الحديث الصحيح. نعم.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أصدق الأسماء حارث وهمام)). ثم فسر الحارث بالكاسب للفعل، والهمام فعّال من الهم، أي كثير الهم، وهمومه كثيرة. ولكن ينبغي أن يجمع هذه الهموم فيما يعود عليه بالخير من نفع دنيوي تستقيم به حياته ومعاشه، ونفع أخروي تصلح به آخرته. نعم.
المراد بـ(المال)واضح، و(الجاه)واضح، و(الصور)يعني: الصور التي تتعلق بها النفوس من الصور المباحة كالنساء من الزوجات، والجواري اللواتي يملكهن الإنسان، أو من الصور المحرمات كالنساء الأجنبيات، وغيرها من الصور التي يحصل بها الفتنة، ولو كان ذلك من صور المرد والصبيان، ممن ابتلوا بذلك. نسأل الله السلامة والعافية. نعم.
(وإذا كان عبداً لغير الله؛ يكون مشركاً، وكل مستكبر فهو مشرك. ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكباراً عن عبادة الله، وكان مشركاً. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)﴾([22]) إلى قوله: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ(27)﴾([23]) إلى قوله: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)﴾([24]). وقال تعالىٰ: ﴿ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)﴾([25]). وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ ﴾([26]) إلى قوله: ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)﴾([27]). وقال: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)﴾([28]).
ومثل هذا في القرآن كثير.
وقد وصف فرعون بالشرك في قوله: ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾([29]). بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله كان أعظم إشراكاً بالله؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقره و حاجته إلى المراد المحبوب، الذي هو المقصود، مقصود القلب، بالقصد الأول، فيكون مشركاً بما استعبده من ذلك).
هذه فائدة مهمة، يقول -رحمه الله-: (بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله كان أعظم إشراكاً بالله). أولاً الاستقراء هو التتبع والنظر في الأدلة. فالاستقراء في ذاته ليس دليلاً، إنما هو ثمرة النظر في الأدلة، هذا معنى الاستقراء.
(الاستقراء يدل على أنه كلما)-يعني التتبع للأدلة من الكتاب والسنة- (يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله كان أعظم شركاً بالله) لماذا؟ يقول: (لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقراً وحاجة إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود). تقدم لنا قبل قليل أن النفس وأن القلب فقير، فقر ذاتي لا بد أن يشتغل بمحبوب. فإذا استغنى عن محبة الله، استغنى عن التعلق بخالقه، بُلِيَ بالتعلق بغير الله -جل وعلا-، واشتدت فاقته وحاجته إلى ما يتعلق به؛ ولذلك كان أعظم تعلقاً بغير الله، ومنه قول الله -جل وعلا- في أحد المعنيين: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾([30]) .فهؤلاء لما عطلوا قلوبهم عن محبة الله ملئت قلوبهم بمحبة غيره، فتعلقت قلوبهم بغير الله -جل وعلا- وأحبوا غيره دونه -سبحانه وتعالى-، أما أهل الإيمان فإنهم على كل حال أشد حبّاً لله من هؤلاء الذين يحبون غيره؛ لأنهم أحبوا من يستحق المحبة -سبحانه وتعالى-.
(ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات، إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه الله، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا لله، ولا يبغض شيئاً إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله).
بهذا تتحقق محبة الله عز وجل، بما ذكر رحمه الله: من أنه يعبد الله ولا يعبد سواه، يستعين بالله ولا يستعين بغيره، لا يتوكل إلا عليه، لا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه... إلى آخر ما ذكر رحمه الله. بهذا تتحقق للعبد المحبة التامة الكاملة. نعم.
فكلما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته للهتكمل تبرئتهمن الكبر والشرك. والشرك غالب على النصارى، والكبر غالب على اليهود، قال تعالى في النصارى:﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَـهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)﴾([31]). وقال في اليهود:﴿أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)﴾([32]). وقال تعالى:﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾([33]). ولما كان الكبر مستلزماً للشرك، والشرك ضد الإسلام، وهو الذنب الذي لا يغفره الله. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)﴾([34]) ، وقال: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا (116)﴾([35]) . كان الأنبياء جميعهم مبعوثين بدين الإسلام، فهو الدين الذي لا يقبل الله غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين. قال نوح-عليه السلام-:﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)﴾([36]). وقال في حق إبراهيم-عَلَيْهِ السَّلاَمُ-:﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)-إلى قوله:-فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132)﴾([37]). وقال يوسف-عليه السلام-:﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)﴾([38]).وقال موسى-عليه السلام-:﴿يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا﴾([39]). وقال تعالى :﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا﴾([40]). وقالت بلقيس:﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)﴾([41]). وقال:﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)﴾([42]). وقال:﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾([43]). وقال:﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾([44]). وقال تعالى:﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾([45])).
كل الآيات السابقة قبل هذه الآية فيها ذكر الإسلام الاختياري الذي أمر الله -سبحانه وتعالى- به عباده، وأرسل به الرسل، وهو إفراد الله -جل وعلا- بالعبادة. فإن الرسل جميعاً دعوا إلى الإسلام: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾،﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾. فالإسلام الذي ذكره الله -جل وعلا- في هذه الآيات، هو الاستسلام لله -جل وعلا- بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك. وهذا المعنى قد دعت إليه جميع الرسل، لا تختص به رسالة دون غيرها، بل جميع المرسلين من لدن نوح - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - إلى آخرهم خاتمهم، وأشرفهم، وسيدهم محمد بن عبد الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلهم دعوا إلى إفراد الله بالعبادة -سبحانه وتعالى- وأن لا يُعبد غيره -سبحانه وتعالى- وأن لا يعبد إلا بما شرع. الشرائع اختلفت لكنهم جميعاً أمروا بأن لا يعبد إلا بما شرع -سبحانه وتعالى- فهم متفقون من حيث الأصول.
وأما الآية الأخيرة فهي قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾. يقول الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ-:
(فذكر إسلام الكائنات طوعاً وكرهاً؛ لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام، سواء أقر المقر بذلك أو أنكره. وهم مدينون له مدبرون؛ فهم مسلمون له طوعاً وكرهاً، ليس لأحد من المخلوقات خروج عما شاءه، وقدره، وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين ومليكهم يصرفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلهم، وبارئهم، ومصورهم، وكل ما سواه فهو مربوب، مصنوع، مفطور، فقير، محتاج، معبَّد، مقهور، وهو –سبحانه- الواحد، القهار، الخالق البارئ، المصور).
فمعنى قوله تعالى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾([46]).يقول الشيخ -رحمه الله-: (فذكر إسلام الكائنات طوعاً وكرهاً).الكائنات تشمل كل شيء في السماء والأرض سوى الله -جل وعلا-؛ (لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام)، أو مُتَعَبَّدَة، مُتَعَبَّدَةٌ له التعبد العام، أي إنها تعبده التعبد العام الذي لا يخرج عنه شيء، وهو المشار إليه في قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾([47]). يسبح له من في السماوات ومن في الأرض فالله -جل وعلا- يسبح له ما في السماوات وما في الأرض. فكل شيء يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم فهذه هي العبودية العامة التي انتظمته.
هناك معنى آخر من العبودية، وهو أن الجميع تحت قهره وتدبيره، لا خروج لهم عن قدره-سبحانه و تعالى- عن علمه، كتابته، خلقه، مشيئته- سبحانه وتعالى- فالجميع مخلوقون له مربوبون، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)﴾([48]). فمعنى العبودية القهرية هي العبودية التي تكون بعدم الخروج عن القضاء والقدر، وتكون أيضاً بالمعنى الذي يعبد الله -جل وعلا- في ساعة الاضطرار قهراً، فإنه ليس عابداً له اختياراً، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾([49]). فإنهم يدعون الله -جل وعلا- في حال الضرورة. نعم.
(وهو وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب، فهو خالق السبب والمقدِّر له، وهو مفتقر إليه كافتقار هذا).
المشار إليه ماذا؟ (وهو مفتقر إليه)يعني: السبب، السبب مفتقر إلى الرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، الله -جل وعلا- قدر الأسباب والمسببات، أي المقدورات –ما ينتج عنها- لكن السبب لا يمكن أن يحصل به المطلوب، إلا بتقدير الله –جل وعلا-، فالله قدر السبب، والسبب مفتقر إلى الله -جل وعلا-، إذا لم يقض الله-جل وعلا- بكون الشيء عند السبب بالسبب؛ فإنه لا يكون.
<