(وقد ثبت في الصحيح عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن إبراهيم خير البرية([1])، فهو أفضل الأنبياء بعد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهو خليل الله تعالى.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من غير وجه أنه قال: ((إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً))([2]).
وقال: ((لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً؛ ولكن صاحبكم خليل الله))([3])يعني نفسه.
وقال: ((لا يبقين في المسجد خوخة إلاّ سدت، إلا خوخة أبي بكر))([4]).
وقال ((إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك))([5]).
وكل هذا في الصحيح، وفيه أنه قال ذلك قبل موته بأيام، وذلك من تمام رسالته.
فإن في ذلك تمام تحقيق مخالَّته لله التي أصلها محبة الله تعالى للعبد، ومحبة العبد لله، خلافاً للجهمية).
قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- بعد أن ذكر الحديث الذي فيه قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ-: ((إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)). قوله -رَحِمَهُ اللهُ- بعد ذلك:(وذلك من تمام رسالته) أي إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ- أخبر أمته بهذا؛ لأنه مأمور بالبلاغ، ومن جملة ما أمره الله بتبليغه تبليغ اصطفاء الله له، وأنه خليل الرب -جل وعلا- كما أن إبراهيم-عليه السلام- خليل الرحمن.
(وذلك من تمام رسالته). فإن في ذلك تمام تحقيق مخالَّته لله التي أصلها محبة الله تعالى للعبد، ومحبة العبد لله. فالخلة الثابتة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليست فقط من جهته لربه، بل من ربه له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهذا من عظيم ما خصّ الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- به محمد بن عبد الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ- فإنه-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ- خليل الرحمن، وهذه الخلة هي غاية مراتب المحبة، كما سيأتي في كلام المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ-.
والمقصود ثبوت المحبة من الله للعباد ،ومن العباد لله، خلافاً لما ذهب إليه الجهمية الذين أنكروا محبة العبد للرب، ومحبة الرب للعبد، وقالوا: لا يحب الله عباده، ولا يحبه عباده؛ فكذبوا بالقرآن الحكيم، وخالفوا الصراط القويم.
ثم فيه فائدة أخرى، كون النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ- يخبر بهذا في آخر أيام عمره؛ يدل على أن المخالّة وبلوغ هذه الدرجة، لم يكن لمجرد أنه محمد بن عبد الله، بل لما كان عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من العمل الصالح، والاجتهاد في عبادة ربه، والتحقيق للعبودية للرب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-. وفيه أن العبرة بكمال النهاية، لا بنقص البداية، فإنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما اصطفاه الله لهذه المنزلة أكمل منه من قبل.
وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يسعى إلى أن يكون يومه خيراً من أمسه، فإن من كان يومه خيراً من أمسه فإنه رابح، وأما من كان يومه شرّاً من أمسه فإنه مغبون، وهذا يوجب على العبد عظيم الحذر وبذل الجهد، والجد، والتشمير في طاعة الله -عز وجل-، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾([6]). فينبغي للمؤمن أن يجتهد في تحقيق مراتب العبودية لله -عز وجل-، وأن لا يقف عند حد، بل يسابق ويسارع إلى الخيرات؛ فإنه لا منتهى للخير إلا بقبض الروح وانتهاء الأجل.
فهذا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما زال عبداً لربه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما أمره الله، حتى أتاه اليقين. وكان من أفضل ما حصله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرتبة الخُلَّة، وأخبر عنها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في آخر أيامه.
(وفي ذلك تحقيق توحيد الله، وأن لا يعبدوا إلا إياه، ورد على أشباه المشركين.
وفيه رد على الرافضة الذين يبخسون الصديق-رضي الله عنه- حقه، وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكاً بعبادة علي و غيره من البشر).
لأن أول من أحدث المشاهد، والقبور، والتعلق بالمقابر في ملة الإسلام، هم الرافضة. ولذلك قال: (وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة) يعني أهل الإسلام (إشراكاً بعبادة عَلي وغيره من البشر). ولذلك تجد أن دينهم وعملهم مبني على الشرك بالله -عز وجل- والغلو في أهل البيت، حتى إنهم يصفونهم بما لا يجوز أن يوصف به إلا الرب -سبحانه وتعالى-، ويثبتون لهم من العصمة ما لا يثبت إلا للأنبياء والرسل، فهم غَلوا غُلوّاً عظيماً فاحشاً وقعوا بسببه في شر عظيم.
ومع هذا الغلو جحدوا فضائل الصحابة، وذموهم، وكان على رأس من ذموا أبو بكر –رضي الله عنه- والفاروق عمر؛ خير هذه الأمة بعد نبينا، اللذان قال فيهما النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر))([7]).
(والخلة هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبودية لله، ومن الرب –سبحانه- كمال الربوبية لعباده الذين يحبهم ويحبونه).
هذا بيان ما يترتب على الخلة في حق العبد وفي حق الرب:
في حق العبد كمال المحبة المستلزمة لكمال العبودية.فقد كمّل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ- العبودية لربه،كما كملها الخليل -عليه السلام- فكان أمة قانتاً لله حنيفاً، ولم يك من المشركين.
أما خلة الرب للعبد، فإن ذلك بكمال الربوبية، وهو أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يخصه من الفضائل، والمنن، والمحبة، بما لا يدركه غيره من عباده، ولذلك قال: (ومن الرب سبحانه كمال الربوبية لعباده الذين يحبهم ويحبونه).
(ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل وكمال الحب، فإنهم يقولون:قلب مُتَيَّم إذا كان متعبداً للمحبوب، والمتيم المتعبد، وتَيَّمَ اللهَ: عَبَدَه، وهذا على الكمال حصل لإبراهيم ومحمد -صلى الله عليهماوسلم-،ولهذا لم يكن له -صلى الله عليه وسلم- من أهل الأرضخليل، إذ الخلة لاتحتمل الشركة، فإنه كما قيل في المعنى:
قد تخللت مسلك الروح مني***وبذا سمي الخليل خليلا
بخلاف أصل الحب، فإنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قد قال في الحديث الصحيح في الحسن وأسامة: ((اللهم إنيأحبهما؛ فأحبهما وأحب من يحبهما))([8]).وسأله عمرو بن العاص:أي الناس أحب إليك؟قال:((عائشة)). قال:فمن الرجال؟قال:((أبوها))([9]).وقال لعلي -رضي الله عنه-: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله))([10]).وأمثال ذلك كثير).
(وأمثال ذلك كثير) من النصوص التي فيها إثبات محبة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأفراد من الأمة، فلم يعارض محبته لهؤلاء ما ذكره من الخلة التي اصطفاه الله بها، أمّا الخلة فإنه لم يذكر خليلاً غيرالرب، بل قال: ((لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن))([11])-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ-.
هذا في حق العبد.وفي حق الرب يقول:
(وقد أخبر تعالى أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأنهم بنيان مرصوص.
وقال: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾([12]).
فقد أخبر بمحبته لعباده المؤمنين ومحبة المؤمنين له، حتى قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾([13]).
وأما الخلة فخاصة).
يقول:(وأما الخلة فخاصة) يعني في حق الرب؛ لأن الله -جل وعلا- لم يجعل خليلاً له فيما بلّغنا إياه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا إبراهيم ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهما، فالخلة أيضاً في حق الرب خاصة وليست لكل أحد،مع أن الله -جل وعلا- أخبر بأنه يحب أوصافاً وأعمالاً وأشخاصاً وأماكن؛ لكن كل هذا لا يعارض ما ثبت من الخلة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإبراهيم عليه الصلاة والسلام.
(وقول بعض الناس-: إن محمداً حبيب الله وإبراهيم خليل الله،وظنه أن المحبة فوق الخلة- قول ضعيف؛ فإن محمداً أيضاً خليل الله كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة المستفيضة، وما يروى أن العباس يُحشر بين حبيب وخليل وأمثال ذلك، فأحاديث موضوعة لا تصلح أن يعتمد عليها.
وقد قدمنا أن محبة الله تعالى هي محبته ومحبة ما أحب).
هذا في بيان محبة العبد للرب، محبة العبد لربه أن يحبه -سبحانه وتعالى- وأن يحب ما يحبه -جل وعلا-، ويبين هذا بالحديث.
(كما في الصحيحين عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار))([14]).
أخبـر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنّ من كان فيه هذه الثلاث وجد حلاوة الإيمان؛ لأن وجد الحلاوة بالشيء يتبع المحبة له، فمن أحب شيئاً أو اشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك).
طيب، إذاً حلاوة الإيمان هي ما يُعقبه الله -جل وعلا- في قلب العبد من البهجة والسرور والفرح واللذة والسكينة، هذه حلاوة الإيمان، وذوق هذه الحلاوة أو وإضافة الذوق لهذه الحلاوة أمر مدرك؛ لأن الذوق ليس فقط خاصّاً باللسان؛ بل يكون للسان ولغيره، وقد استعملته العرب في إدراك ما تريد، في إدراك الشيء، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ-لزوجة رفاعة: ((لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك))([15]).فالذوق في كل مورد بحسبه.
والمراد أن الإيمان له طعم وله حلاوة، وهذه الحلاوة هي ما يلقيه الله -جل وعلا- في قلب العبد من الابتهاج والسرور والفرح والطمأنينة التي لا يعادلها شيء، هي جنة الله في الدنيا كما يقول ابن القيم وكذلك شيخ الإسلام: التي من لم يدخلها لم يدخل جنته في الآخرة. وهذه الحلاوة متفاوتة في قلوب الناس، ليست على درجة واحدة، وتفاوتها في قلوب المؤمنين بتفاوت تحقيق هذه الصفات؛ لأن الناس متفاوتون في تحقيق هذه الصفات تفاوتاً عظيماً لا يدرك، بل تفاوت الناس فيما يقوم بقلوبهم من أعمال القلوب أعظم تفاوتاً من أشكالهم؛ يعني أنت الآن لو نظرت إلى الناس تجد أن أشكالهم متفاوتة، ولا تحصرها في منطقة؛بل انظر إلى الخلق في جميع البقاع تجد أن بينهم من التفاوت في الأشكال والألسن والهيئات ما لا يدرك ولا يحصى ولا يضبط، اختلاف ما يقوم في قلوبهم من الأعمال أشد من اختلافهم في الأشكال والصور.
وهذا يوجب للعبد أن يسعى إلىٰ السَّبق في كل خصلة من هذه الخصال، حتى يحصل الغاية: ﴿وَالَّذِين َجَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾([16]). الإنسان إذا صدق العزم وجدّفي السّير وأخلص في الطلب لا بد أن يوفَّق، الله -جل وعلا- لا يخلف الميعاد: ﴿وَالَّذِين َجَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾.
المهم معنى قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ-:((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان))أي حصّل، والوجد هنا ليس وجد الصوفية الذي هو من التواجد، وهو ما يقوم في القلب من محبة وما أشبه ذلك، لا، الوجد هنا بمعنى الحصول،فهو من الوجود والثبوت، أي: ثبت له وحصل له حلاوة الإيمان.
(واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى. ومن قال:إن اللذة إدراك الملائم.كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والأطباء فقد غلط في ذلك غلطاً بيناً).
الشيخ -رحمه الله- يشير إلى قول الجهمية في ردهم وإنكارهم المحبة،يقولون: إن المحبة لذة، واللذة إدراك الملائم، ولا ملاءمة بين الخالق والمخلوق. فنفوا بهذا الصفة التي أثبتها كتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي المحبة: يحبهم ويحبونه.
محبة الله لعباده ومحبة العباد للرب -جل وعلا-، يرد عليهم -رحمه الله- يقول:(إن من فسر اللذة بإدراك الملائم فقد غلط في ذلك غلطاً بيناً)، يبين وجه الغلط:
(فإن الإدراك يتوسّط بين المحبة واللذة، فإنّ الإنسان مثلاً يشتهي الطعام، فإذا أكله حصل له عقيب ذلك اللذة، فاللذة تتبع النظر إلى الشيء، فإذا نظر إليه التذّ به، فاللذة تتبع النظر ليست نفس النظر، وليست هي رؤية الشيء؛ بل تحصل عقيب رؤيته).
فعندنا ثلاثة أشياء، عندنا:
· المحبة.
· وإدراكها.
· واللذة.
الإدراك يتوسط بين المحبة واللذة،فمن فسر المحبة باللذة فقد أخطأ خطأً بيناً، فمثلاً أنت تحب نوعاً من الطعام هل هذا هو اللذة؟ الجواب: لا، إذا أكلته وهو وسيلة التحصيل وهو الإدراك ترتب على هذا الإدراك اللذة،فعندنا ثلاثة أشياء، هؤلاء خلطوا بينها فوقعوا في هذا الغلط،حيث فسروا المحبة باللذة، فوقع منهم الخطأ في إنكار هذه الصفة. نعم.
(وقال تعالى: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ﴾([17]). وهكذا جميع ما يحصل للنفس من اللذات والآلام من فرح وحزن ونحو ذلك، يحصل بالشعور بالمحبوب أو بالشعور بالمكروه، وليس نفس الشعور هو الفرح ولا الحزن، فحلاوة الإيمان المتضمنة من اللذة به والفرح ما يجده المؤمن الواجد من حلاوة الإيمان تتبع كمال محبة العبد لله، وذلك بثلاثة أمور:
تكميل هذه المحبة، وتفريعها، ودفع ضدها).
نعم، هذا ما تضمنه حديث أنس –رضي الله عنه- في سبيل تحصيل هذه الحلاوة: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)):
الأول: ((أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)). وهذا أصل الدين الذي عليه مدار الإيمان، ولا يثبت الإيمان إلا به، فإنه من لم يحب الله ورسوله لا إيمان له، وكل عمل يُبنى على غير المحبة فهو مردود باطل، ولذلك كان الأصل الذي يبنى عليه غيره، وهذا المشار إليه في قوله -رحمه الله-: (تكميل هذه المحبة)، ((أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)). لم يقل: أن يحب الله ورسوله فقط، فإن هـٰذه مرتبة ليست خاصة لأهل الإيمان؛ بل يَشرك فيها أهل الإيمان أهل الكفر، أهل الشرك يحبون الله؛ لكن محبتهم لله محبة ناقصة لا تنفعهم، ولذلك قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾([18]) أي: من حب هؤلاء لله في أحد القولين في تفسير هذه الآية.
فليس المقصود وجود المحبة؛ لأن المحبة فطرية، لكن المقصود والمطلوب والفوز والسبق يحصل بتكميل المحبة، وتكميلها إما أن يكون بالأخذ بالأسباب التي تكمل بها المحبة: من العمل الصالح، والتقوى، والإيمان، والاستكثار من الحسنات، والتخفف من السيئات، هكذا تكمل المحبة: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾([19]). وسيبين الشيخ-رحمه الله- هذا الكلام فيما نستقبل.
إذاً الأصل الأول هو تكميل المحبة،بها يحصِّل الإنسان حلاوة الإيمان مع ما بقي من الخصال.
والثاني: (تفريعها). والثالث:(دفع ضدها). يبين ذلك الشيخ فيقول:
(فتكميلها: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فإن محبة الله ورسوله لا يُكتفى فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، كما تقدم).
كما ذكرنا قبل قليل: المشركون يحبون الله، لكن لا ينفعهم هذا الحب، فلذلك يقول: (فإن محبة الله ورسوله لا يُكتفى فيها بأصل الحب)يعني: بوجوده، إنما لا بد فيها من التكميل، والتكميل هو بلوغ الغاية في الشيء.
الثاني:(وتفريعها: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله).
فهذه المحبة تابعة للمحبة السابقة، وهي ثمرتها، وهي من أعظم الدلائل على وجودها: أن يحب الرجل لا يحبه إلا لله، لا يحبه لنسبه، لا يحبه لماله، لا يحبه لصورته، لا يحبه لشيء من أمور الدنيا، إنما يحبه لله، وذلك بأن يحبه لما فيه من الطاعة والإخبات والإقبال على الله -عز وجل-، يحبه لهذه الصفة، ليس بينه وبينه نسب،وليس بينه وبينه صلة قرابة أو مال أو عمل، إنما بينه وبينه هذه الصلة: أنه يحب الله، وهذا عبد لله، فأحبه لعبوديته لله -جل وعلا-. وهذا فرع، وكل محبة أمر بها فهي فرع لمحبة الله -عز وجل-، ومحبة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(ودفع ضدها: أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار).
الله أكبر! هذا ثالث ما تكمل به الخلال التي يحصل بها حلاوة الإيمان: أن يكره ما يكره الله ورسوله، والذي يكرهه الله ورسوله هو الكفر أشده الكفر، وكل خصال الكفر يكرهها الله ورسوله. (أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهيته الإلقاء في النار). وذلك في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ-: ((وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)). ومن قام في قلبه هذه الكراهة بهذه الصورة فإنه قد كمّل كراهية المضاد لله ورسوله، وهذا ليس خاصّاً بالكفر الأعظم،بل حتى في خلال الكفر وخصاله أن يكره ذلك؛ فإن كراهية ذلك مما يكمل به للإنسان الإيمان، ويحصل به له حلاوته.
إذاً الحديث تضمن ثلاثة أمور كلها دائرة على المحبة: تكميل المحبة لله ورسوله، تفريعها، دفع ضدها. نعم.
(فإذا كانت محبة الرسول والمؤمنين من محبة الله، وكان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحب المؤمنين الذين يحبهم الله؛ لأنه أكمل الناس محبة لله، وأحقهم بأن يحب ما يحب الله ويبغض ما يبغضه الله، والخلة ليس لغير الله فيها نصيب؛ بل قال: ((لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)). عُلم منه مزيد مرتبة الخلة على مطلق المحبة).
وهذا فيه الرد على من قال: إن الخلة هي المحبة، أو: إن المحبة مرتبة أعلى من الخلة، فإن الخلة أخص من مطلق المحبة؛ لأنها غاية المحبة وكمالها ومنتهاها، وأنه يمتنع فيها الشركة أيضاً.
وذكرنا لكم فرقاً ثالثاً أيضاً فيما سبق: أن الخلة يكون الحب فيها لذات الشيء، لا لمعنى خارج؛ بخلاف المحبة، قد تحبه لمعنى خارج. نعم.
(والمقصود هو أن الخلة والمحبة لله: تحقيق عبوديته، وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهمون أن العبودية مجرّد ذل وخضوع فقط لا محبة معه، أو أن المحبة فيها انبساط في الأهواء أو إذلال لا تحتمله الربوبية، ولهذا يُذكر عن ذي النون أنهم تكلموا عنده في مسألة المحبة، فقال: أمسكوا عن هذه المسألة لا تسمعها النفوس فتدّعيها. وكره من كره من أهل المعرفة والعلم مجالسة أقوام يكثرون الكلام في المحبة بلا خشية.
وقال من قال من السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ،ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحّد).
لا بد للمؤمن من هذه الأمور الثلاثة، ولا تستقيم عبادة شخص إلا بها، وإذا غلا جانب على جانب، أو ربا شيء من هذه الأمور على غيره أفسد على المؤمن عبادته.
(فمن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق)؛ لأنه يتمادى في المعاصي، ويقع في ألوان من الفجور، كما هو الحال في غلاة الصوفية الذين زعموا محبة الله، وأنهم يعبدونه بالحب، فاستجازوا المحرمات وأسقطوا الواجبات.
(ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ) وهو قريب ممن عبد الله بالمحبة.
(ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري) أي خارجي؛ لأنه يضيق في نظره ما ذكره الله -جل وعلا- من سعة رحمته وواسع مغفرته.
والسلامة كل السلامة في أن يعبد الإنسان ربه بالحب والخوف والرجاء، فإنه به يتحقق له الإيمان والتوحيد. نعم.
(ولهذا وجد في المستأخرين من انبسط في دعوى المحبة، حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة والدعوى التي تنافي العبودية، وتُدخل العبد في نوع من الربوبية التي لا تصلح إلا لله، ويدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين، أو يطلبون من الله ما لا يصلح بكل وجه إلا لله، ولا يصلح للأنبياء [والمرسلين]([20])،وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ).
المقصود بالشيوخ شيوخ الصوفية الذين غلب عليهم الحب حتى خرجوا عن الصراط المستقيم، ومن أمثلة ذلك ما وقع لابن عربي والتلمساني وغيرهما من غلاة الصوفية، الذين أوقعهم غلوُّهم في الإلحاد والكفر. نعم.
(وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ، وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بينها الرسل وحررها الأمر والنهي الذي جاؤوا به، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته، وإذا ضعف العقل وقل العلم بالدين، وفي النفس محبة طائشة جاهلة، انبسطت النفس بحمقها في ذلك، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله، ويقول: أنا محب، فلا أؤاخذ بما أفعله من أنواع يكون فيها عدوان وجهل. فهذا عين الضلال، وهو شبيه بقول اليهود والنصارى: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ قال الله تعالى: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُُ﴾([21]). فإن تعذيبه لهم بذنوبهم يقتضي أنهم غير محبوبين ولا منسوبين إليه بنسبة البُنُوَّة؛ بل يقتضي أنهم مربوبون مخلوقون.
فمن كان الله يحبه استعمله فيما يحبه محبوبه لا يفعل ما يبغضه الحق، ويسخطه من الكفر والفسوق والعصيان، ومن فعل الكبائر وأصرّ عليها ولم يتب منها فإن الله يبغض منه ذلك، كما يحب منه ما يفعله من الخير، إذ حبه للعبد بحسب إيمانه وتقواه).
يعني : يزداد حب الله للعبد بزيادة الإيمان والتقوى، فكلما ازداد العبد إيماناً بالله -عز وجل- وتقوى له زاد حبه -جل وعلا-لعبده، وليس طريق الحب ما زعمه هؤلاء من التخلّي عن الواجبات والاعتماد على الدعاوى التي لا يسندها دليل ولا يقوم ما يسوغها، وهؤلاء اغتروا بالله وجمعوا سوءتين أشار إليهما الشيخ -رحمه الله-:
· ضعف العقل.
· وقلة الدين.
فإذا ضعف العقل وقلّ الدين فلا تسأل عن الرجل، فإنه في شر عظيم؛ لأن الذي يحجز الإنسان عن الشر إما دين أو عقل، وهما ليسا على مرتبة واحدة، لكن العقل يمنع الإنسان من شر كثير، فإذا جُمِّل العقل و كُمِّل بما جاء في الشرع وفق إلى خير كثير، ومنعه من الشرور العظيمة، وهؤلاء فقدوا هاتين الصفتين فوقعوا في شر كبير، وليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، ولذلك أنكر الله -جل وعلا- على اليهود دعواهم حيث قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾. فأجاب عن هذه الدعوى بقوله:﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم﴾.ومعلوم أن التعذيب ينافي المحبة، فلو كانوا كما قالوا وكما زعموا لما عذبهم الله -جل وعلا-، فلما وقع بهم العذاب، بل وقع بهم ألوان العذاب والنكال دل ذلك على كذبهم في دعواهم.
(ومن ظن أن الذنوب لا تضره لكون الله يحبه مع إصراره عليها، كان بمنزلة من زعم أن تناول السم لا يضره مع مداومته عليه وعدم تداويه منه بصحة مزاجه.
ولو تدبر الأحمق ما قصّ الله في كتابه من قصص أنبيائه، وما جرى لهم من التوبة والاستغفار، وما أصيبوا به من أنواع البلاء الذي فيه تمحيص لهم، وتطهير بحسب أحوالهم، علم بعض ضرر الذنوب بأصحابها ولو كان أرفع الناس مقاماً، فإن المحب للمخلوق إذا لم يكن عارفاً بمصلحته ولا مريداً لها؛ بل يعمل بمقتضى الحب وإن كان جهلاً وظلماً، كان ذلك سبباً لبغض المحبوب له ونفوره عنه، بل سبباً لعقوبته).
كل شؤم في الدنيا والآخرة سببه الذنوب، كل شر ينزل بالناس سببه الذنوب: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ﴾([22]). بعض، فالذنب لا بد له من ضرر، ولا بد له من شؤم على صاحبه، إلا إن تاب وصدق في توبته فإن الله -جل وعلا- بمنه وكرمه يعفو عنه ويغفر، فينبغي للمؤمن أن لا يتهاون بالذنوب مهما صغرت، لا سيما ذنوب القلوب وآفاتها، وكذلك ذنوب الظاهر، لكن الناس يغفلون عن ذنوب البواطن، وقد يحترزون عن ذنوب الظواهر لكونها تقع في أعين الناس، والواجب على المؤمن أن يحذر الجميع: أن يحذر ظاهر الإثم وباطنه كما قال الله جل وعلا: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}([23]). فينبغي للمؤمن أن يحرص على تكميل نفسه بالاستغفار، فإن الاستغفار مما يمحو الله به آثار الخطايا، وأن يحتسب ما يجريه الله عليه من الأقدار المؤلمة التي يكرهها، فإن ذلك بسبب ذنبه: ﴿ مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ﴾يعني مما يسوؤك ﴿فَمِن نَّفْسِكَ﴾([24]).
([1]) أخرجه مسلم في الفضائل/ باب من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم (2369) عن أنس بن مالك رضي الله عنه .
([3]) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق، رقم: (2383) من طريق عبدالله بن أبي الهذيل عن أبي الأحوص عن عبدالله.
([7]) أحمد(22734)، والترمذي، كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما، رقم: (3662) من طريق ربعي بن حراش عن حذيفة، قال الترمذي: هذا حديث حسن.
([8]) البخاري، كتاب المناقب، باب فضائل الحسن والحسين، رقم: (3747) من طريق أبي عثمان عن أسامة بن زيد.
([9]) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة ذات السلاسل وهي غزوة لخم وجذام، رقم: (4358)،ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، رقم: (2384) من طريق خالد الحذاء عن أبي عثمان النهدي عن عمرو بن العاص.
([10]) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، رقم: (4210)،
ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي رضي الله عنه، رقم: (2406) من طريق يعقوب بن عبدالرحمن عن أبي حازم عن سهل بن سعد.
([11]) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق، رقم: (2383) من طريق عبدالله بن أبي الهذيل عن أبي الأحوص عن عبدالله.
([14]) البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، رقم: (16)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، رقم: (43) من طريق أبي قلابة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
([15]) البخاري، كتاب الشهادات، باب شهادة المختبي، رقم: (2639)،ومسلم، كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها حتى تنكح، رقم: (1433) من طريق الزهري عن عروة عن عائشة.