×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

المكتبة المقروءة / دروس / دروس العقيدة / رسالة العبودية / الدرس (10) من شرح رسالة العبودية

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis
الدرس (10) من شرح رسالة العبودية
00:00:01

(وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعا من أمور الجهل بالدين: إما من تعدي حدود الله، أو من تضييع حقوق الله، وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها،كقول بعضهم: أي مريد لي ترك في النار أحدا فأنا بريء منه. فقال الآخر: أي مريد لي ترك أحدا من المؤمنين يدخل النار فأنا بريء منه.  فالأول: جعل مريده يخرج كل من في النار.  والثاني: جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار. ويقول بعضهم: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم حتى لا يدخلها أحد. وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين، وهي إما كذب عليهم وإما غلط منهم).                                بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فالمؤلف -رحمه الله- في هذا المقطع يبين خطأ من ضل في محبة الله -جل وعلا- وأسرف على نفسه وزين له شيطانه ما هو عليه من ضلال مبين، يقول -رحمه الله-: (وكثير من السالكين)أي:طريق الزهد والتعبد (سلكوا في دعوى حب الله أنواعا من أمور الجهل بالدين). ثم ذكر من ذلك ثلاث طرق جامعة: الطريق الأولى: (إما من تعدي حدود الله) أي: وقع في المحرمات وأسرف على نفسه بانتهاك الحرمات. (وإما تضييع حقوق الله). وهو بترك الواجبات. (وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها). وهذا ثالث ما وقع لهؤلاء من الضلال والشر في مسألة المحبة. الشيخ -رحمه الله- مثل للنوع الأخير لوضوح الأول والثاني، الأول والثاني واضحان وتقدم الكلام عليهما في ثنايا هذه الرسالة. وأما النوع الثالث وهو الدعاوى الباطلة، فإنه لم يشر إليه من قبل إشارة بالتمثيل، فذكر لذلك أمثلة من هذه الأقوال التي تنبئ عن جهل صاحبها بالله -عز وجل-، وجهله بقدر نفسه، وتنبئ عن إعجاب بالنفس عظيم؛ إذ لا يمكن أن يصدر مثل هذه الأقوال إلا ممن رأى لنفسه على الله حقا، وإذا رأى الإنسان لنفسه على الله حقا فقد أصيبت مقاتله؛لأن الحق كله لله والفضل كله لله، فهو الذي وفق للطاعة، وهو الذي هدى السبيل، وهو الذي أنار البصيرة، وهو الذي سهل للعبد سلوك الصراط المستقيم، فله الفضل والمنة والإحسان سابقا ولاحقا.  فمن رأى لنفسه على الله فضلا يدل به عليه، ورأى لنفسه حقا على الرب -جل وعلا- فقد ضل سواء السبيل، وقد أتي من حيث لا يشعر، وإن استرسل به الأمر فإن هذا سيحيط بعمله ويلحقه بالحابطة أعمالهم. يقول -رحمه الله- في التمثيل- آخرها-: (ويقول بعضهم: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم حتى لا يدخلها أحد). وكأن له من المكانة والمنزلة ما يستخرج به الناس؛ بل ما يمنع به الناس من دخول النار ممن استحقها. ثم يقول الشيخ -رحمه الله- في ذلك معلقا على هذه الأقوال: (وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثر) أي تنقل(عن بعض المشايخ المشهورين) في العبادة والزهد، وليس هؤلاء من مشايخ العلم، وإنما هم من مشايخ العبادة والزهد، يقول:(وهي إما كذب عليهم). وهذا ممن عرف عنه الاستقامة، (وإما غلط منهم). وهذا ممن قلت بضاعته في العلم. ثم يقول-رحمه الله-: (ومثل هذا قد يصدر في حال سكر وغلبة وفناء، يسقط فيها تمييز الإنسان أو يضعف حتى لا يدري ما قال، والسكر هو لذة مع عدم تمييز، ولهذا كان من هؤلاء من إذا صحا استغفر من ذلك الكلام).  وهذا السكر ليس سكر خمر بل هو سكر هوى،وسمي السكر بهذا الاسم لأنه يسكر على العاقل التفكير، ويغلق على النظر التأمل والاعتبار، فهؤلاء سكارى، لكنهم ليسوا سكارى شراب وخمر،إنما هم سكارى هوى وضلالة.  ولذلك يقول الشيخ-رحمه الله-: (إن بعض هؤلاء إذا صحا من هذا السكر استغفر من ذلك الكلام). أما هل يؤاخذون أو لا يؤاخذون فهذا أمره وبحثه له شأن آخر، إنما الكلام أن هذه الأقوال إن صح نسبتها لمن هو مشهور بالعبادة والزهد فهي محمولة على هذا الوجه. يقول -رحمه الله-: (والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب والشوق واللوم والعذل والغرام كان هذا أصل مقصدهم، فإن هذا الجنس يحرك ما في القلب من الحب كائنا ما كان، ولهذا أنزل الله محنة يمتحن بها المحب فقال: ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله﴾([1]) . فلا يكون محبا لله إلا من يتبع رسوله، وطاعة الرسول ومتابعته لا تكون إلا بتحقيق العبودية. وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته -صلى الله عليه وسلم-، ويدعي من الحالات ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، حتى قد يظن أحدهم سقوط الأمر وتحليل الحرام له، وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول وسنته وطاعته؛ بل قد جعل الله أساس محبته ومحبة رسوله الجهاد في سبيله، والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الله به، وكمال بغض ما نهى الله عنه، ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه: ﴿أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم﴾([2]). ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله أكمل من محبة من قبلها، وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم). يقول -رحمه الله-: (بل قد جعل الله أساس محبته ومحبة رسوله الجهاد في سبيله). والجهاد في سبيل الله -عز وجل- هو ما سبق تعريفه وبيانه، وهو بذل الوسع في تحصيل محاب الحق ودفع مكروهاته، ولا شك أن الجهاد بهذا المعنى الواسع يشمل جهاد النفس، وجهاد العصاة، وجهاد المنافقين، وجهاد الكفار، كل هذا مما يدخلفي قول المؤلف -رحمه الله-: بل قد جعل الله تعالى أساس محبته ومحبة رسوله الجهاد في سبيله، فالجهاد ليس فقط هو مقاتلة الكفار، وإنما هذا اصطلاح، وإن كان الغالب في استعمال القرآن للجهاد بهذا المعنى، لكن يرد الجهاد بمعناه العام ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((المجاهد من جاهد نفسه أو هواه))([3])أو كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ((والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ورسوله))([4]). فهذا يوجب للعبد الاشتغال بمجاهدة الهوى والشيطان والنفس، وهذا هو أساس كل جهاد، إذا جاهد الإنسان نفسه وحملها على الصالحات، وجاهد هواه، وجاهد الشيطان، أعانه الله -جل وعلا- على القيام بمراتب الجهاد الأخرى، فالجهاد مراتب وليس مرتبة واحدة. يقول: (والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الله به، وكمال بغض ما نهى الله عنه). ولا شك أن هذا غاية الجهاد، وهو الحامل على الجهاد؛ لأنه من أحب الله -جل وعلا- تمام المحبة رخصت نفسه فخالفها فيما تحب، وأتى على محاب الله -عز وجل- وسابق إليها في دقيق الأمر وفي جليله، يقول: (ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه: ﴿أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم﴾). ولا شك أن أعلى المراتب في الجهاد هو جهاد الكفار إن تيسر، فإنه يظهر صدق المحبة من العبد؛ لأن العبد يقدم نفسه رخيصة في سبيل الله -عز وجل-، يرجو ثواب الله -عز وجل-، ويرجو ما أعده -سبحانه وتعالى- لعباده المجاهدين في سبيله. ولهذا كانت محبة هذه الأمة أكمل من محبة من قبلها؛ لأن هذه الأمة فيها من الجهاد في سبيل الله والحث عليه ما ليس في الأمم السابقة.  (وأكمل هذه الأمة في ذلك هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل). ومعلوم أن الصحابة –رضي الله عنهم- لم يكونوا كلهم مجاهدين بالقتال في سبيل الله، بل منهم من جاهد بالقتال، ومنهم من جاهد بالعلم، ومنهم من جاهد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا شك أن أفضل المجاهدين من جاهد في نشر دين الله عز وجل، فإن نشر دين الله عز وجل بالتعليم والتبصير والدعوة من خير ما يكون، وهو الذي اشتغل به أفاضل الصحابة رضي الله عنهم. وهو الذي يتيسر لكل أحد، بخلاف الجهاد بالقتال فقد لا يتيسر؛ لعدم وضوح الراية أو غير ذلك من الأسباب، لكن جهاد العلم متيسر، وذلك بأن يبذل الإنسان جهده في التعلم، ويبذل جهده في نشر العلم، فإن نشر العلم مما تحفظ به الشريعة، بل كلما قوي نور النبوة في مكان ضعف الجهل والشر في ذلك المكان، وكلما خفت نور النبوة في مكان- بقلة العلماء، أو بقلة العاملين بالعلم والداعين إليه- كثر الشر في ذلك المكان. وهذا أينما تتبعت في أي مكان من الأماكن وجدت هذا مطردا: إذا وجد أهل العلم كثر الخير وقل الشر، وإذا قل أهل العلم قل الخير وكثر الشر. (فأين هذا من قوم يدعون المحبة؟ وفي كلام بعض الشيوخ: المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب. وأرادوا أن الكون كله قد أراد الله وجوده، فظنوا أن كمال المحبة أن يحب العبد كل شيء حتى الكفر والفسوق والعصيان، ولا يمكن أحدا أن يحب كل موجود، بل يحب ما يلائمه وينفعه، ويبغض ما ينافيه ويضره؛ ولكن استفادوا بهذا الضلال اتباع أهوائهم، ثم زادهم انغماسا في أهوائهم وشهواتهم، فهم يحبون ما يهوونه كالصور والرئاسة وفضول المال والبدع المضلة، زاعمين أن هذا من محبة الله، ومن محبة الله بغض ما يبغضه الله ورسوله، وجهاد أهله بالنفس والمال. وأصل ضلالهم أن هذا القائل الذي قال: إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب. قصد بمراد الله تعالى الإرادة الكونية في كل الموجودات، أما لو قال مؤمن بالله وكتبه ورسله هذه المقالة فإنه يقصد الإرادة الدينية الشرعية التي هي بمعنى محبته ورضاه، فكأنه قال: تحرق من القلب ما سوى المحبوب لله، وهذا معنى صحيح. فإن من تمام الحب لله أن لا تحب إلا ما يحبه الله، فإذا أحببت ما لا يحب كانت المحبة ناقصة. وأما قضاؤه وقدره فهو يبغضه ويكرهه ويسخطه وينهى عنه، فإن لم أوافقه في بغضه وكراهته وسخطه لم أكن محبا له، بل محبا لما يبغضه). طيب، هذا كله تعليق على قوله -رحمه الله-: (وفي كلام بعض الشيوخ: المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب). هذه المقالة إنما يقولها في الغالب الجبرية الذين يجعلون كل شيء كائن فهو محبوب لله -عز وجل-، فكل ما اقتضته الإرادة الكونية من الموجودات فإنما هو محبوب له -سبحانه وتعالى-، هكذا قالوا، وقد ناقش الشيخ -رحمه الله- بعض من قال هذه المقولة كما نقل ابن القيم في شفاء العليل وفي غيره، ناقشهم وقال لهم قريبا مما ذكر هنا في الجواب، وهو: كيف يستقيم هذا مع أن الله –جل وعلا- أخبر في كتابه أنه يبغض بعض خلقه، ويسخط على بعض خلقه، ويمقت بعض خلقه؟ فكيف يستقيم هذا الخبر من الله -جل وعلا- مع قولكم:(المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب)؟ معنى هذا أنك تحب كل ما في الكون: تحب الزنى، تحب الكفر، تحب السرقة، تحب الكبر، تحب الحسد؛لأن هذا مراد للمحبوب، مراد لله -عز وجل- . وأصل ضلال هؤلاء ناشئ عن أي شيء يا إخواني ؟ عدم التفريق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فلما التبس عليهم الأمر لم يميزوا بين مرادات الله -عز وجل- المحبوبة له وبين المرادات التي اقتضتها حكمته، وأرادها -جل وعلا- لغاية تظهر أو تخفى على الخلق. ثم وجه الشيخ -رحمه الله- هذا القول توجيها يمكن أن يقبل فقال: (أما لو قال مؤمن بالله وكتبه ورسله هذه المقالة فإنه يقصد الإرادة الدينية الشرعية التي هي بمعنى محبته ورضاه). فيكون المعنى فكأنه قال: تحرق من القلب ما سوى المحبوب لله. وهذا معنى صحيح، أي:لا يبقى في القلب تعلق بغير الله -عز وجل-، محبة لغير ما يحبه الله -سبحانه وتعالى-، وهذا المعنى صحيح. لكن هذه الألفاظ المجملة التي تحتمل حقا وباطلا الواجب فيها التبيين، لا سيما إذا كانت مستعملة ممن فسدت عقائدهم ويلبسون بها على الخلق. (فاتباع هذه الشريعة والقيام بالجهاد بها من أعظم الفروق بين أهل محبة الله وأوليائه الذين يحبهم ويحبونه، وبين من يدعي محبة الله ناظرا إلى عموم ربوبيته، أو متبعا لبعض البدع المخالفة لشريعته، فإن دعوى هذه المحبة لله من جنس دعوى اليهود والنصارى المحبة لله، بل قد تكون دعوى هؤلاء شرا من دعوى اليهود والنصارى؛ لما فيهم من النفاق الذي هم به في الدرك الأسفل من النار، كما قد تكون دعوى اليهود والنصارى شرا من دعواهم إذا لم يصلوا إلى مثل كفرهم. وفي التوراة والإنجيل من الترغيب في محبة الله ما هم متفقون عليه، حتى إن ذلك عندهم أعظم وصايا الناموس. ففي الإنجيل أن المسيح –عليه السلام- قال: أعظم وصايا المسيح أن تحب الله بكل قلبك وعقلك ونفسك. والنصارى يدعون قيامهم بهذه المحبة، وأن ما هم فيه من الزهد والعبادة هو من ذلك، وهم برآء من محبة الله إذ لم يتبعوا ما أحبه، بل اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم). وهذا حكم عليهم بالكفر؛ لأن حبوط العمل في الغالب لا يكون إلا لوجود مكفر في الغالب، ولا شك أن من اتبع ما أسخط الله وكره رضوان الله -جل وعلا- فإنه كافر، وهذا يوجب حبوط عمله. نعم. (والله يبغض الكافرين ويمقتهم ويلعنهم، وهو –سبحانه- يحب من يحبه، لا يمكن أن يكون العبد محبا لله والله تعالى غير محب له، بل بقدر محبة العبد لربه يكون حب الله له، وإن كان جزاء الله لعبده أعظم ،كما في الحديث الصحيح الإلهي عن الله تعالى أنه قال: ((من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة))([5])). الله أكبر، ما أوسع فضل الله! هذا الحديث الإلهي أي الذي ينقله النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه، وهو ما يقابل في كلام بعض العلماء الحديث القدسي: ((من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)). فذكر في هذا الحديث مسارعة الله -جل وعلا- لعبده إذا أسرع إليه، وذكر في ذلك المسافة وصفة السير، فالمسافة بقوله:((من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا)).  وفي صفة السير: ((ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)). واقتصر الحديث على ذكر ذلك، ولم يزد، والباب مفتوح للزيادة: فمن أتى هرولة أتاه الله -جل وعلا- بما يناسب هذا المجيء، وإنما اقتصر على الذكر؛ لأنه تبين أن القياس في هذا ماض، فكلما أسرع العبد في إقباله على ربه أسرع الرب إليه -جل وعلا-، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في منتهى ما يكون من التقرب: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها))([6]).المهم أن الله -جل وعلا- بين عظيم إحسانه لعبده، وأنه يدنو منه ويقترب. وهذا القرب ليس قربا مجازيا، إنما هو قرب حقيقي، أما كيفية هذا القرب فكيفيته الله أعلم بها. وليس من لازم هذا القرب قرب المسافة كما يقول؛ لأن العبد قد يتقرب إلى الله دون أن يتحرك بمسافة، وإنما الذي يقترب منه -سبحانه وتعالى- روحه، روح العبد تتقرب إلى الله -سبحانه وتعالى-. ولذلك ينبغي للمؤمن أن يمضي هذا الحديث كغيره من الأحاديث التي فيها الخبر عن الله -عز وجل-، ولا يدخل في ذلك برأي فاسد أو بخيال باطل أو بظن كاذب، بل يجب أن يسلم لله ولرسوله، فإذا ضاق عقله عن تصور هذا وفهمه فليتجاوزه، كما قال القائل: إذا لم تستطع شيئا فدعه*** وجاوزه إلى ما تستطيع وإنما هذا الحديث يبين عظيم فضل الرب وعظيم قدر المسارعة إليه -جل وعلا-، وأنه بالخير إلى العبد سابق، وأن العبد إذا صدق مع الله فإنه يجد من ربه ما لا يرد له على بال ولا خاطر، يكفي في الفضل أن الله -سبحانه وتعالى- مثل لنا في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلا بين لنا عظيم فرحة الرب -جل وعلا- بتوبة العبد، وهذا التمثيل الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله:((لله أفرح بتوبة العبد إذا تاب إليه من أحدكم في صحراء معه ناقته عليها زاده ومتاعه، أضلها فبحثها وطلبها، فلما أيس منها أوى إلى شجرة فوضع رأسه، فلما أفاق وجد دابته أو راحلته فوق رأسه عليها متاعه وزاده، ففرح بذلك فرحا عظيما، حتى قال العبد من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك))([7]).فالله -جل وعلا- فرحته بتوبة عبده أشد من فرحة هذا براحلته. يقول ابن القيم:  وهذا ليس قولا مجازيا ولا تصويرا، إنما هذا كلام من لا ينطق عن الهوى، الذي كل كلمة من كلماته مرادة ومقصودة ولها معنى، وهذا يبين عظيم فضل الرب على العبد، وأن الله -جل وعلا- بالخير إلى عباده سابق، لكن نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا. من فوائد هذا الحديث إثبات القرب للرب -سبحانه وتعالى-، وهو قرب الله -جل وعلا- لعابده؛ لأن القرب ثبت للعابد والداعي ولم يرد إثباته مطلقا، هذا من قربه -سبحانه وتعالى- لعابده. قربه لداعيه: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد))([8]). نعم. (وقد أخبر الله سبحانه أنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، بل هو يحب من فعل ما أمر به من واجب ومستحب، كما في الحديث الإلهي الصحيح: ((لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به))... الحديث([9]). وكثير من المخطئين الذين ابتدعوا أشياء([10])في الزهد والعبادة وقعوا في بعض ما وقع فيه النصارى من دعوى المحبة لله مع مخالفة شريعته وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك، ويتمسكون بالدين الذي يتقربون به إلى الله بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه والحكايات التي لا يعرف صدق قائلها، ولو صدق لم يكن قائلها معصوما، فيجعلون متبوعيهم شارعين لهم دينا، كما جعل النصارى قسيسيهم ورهبانهم شارعين لهم دينا. ثم إنهم ينتقصون العبودية، ويدعون أن الخاصة يتعدونها، كما يدعي النصارى في المسيح والقساوسة، ويثبتون لخاصتهم من المشاركة في الله من جنس ما تثبته النصارى في المسيح وأمه. إلى أنواع أخر يطول شرحها في هذا الموضع). نعم، على كل حال الصوفية فيهم شبه كبير من النصارى؛ لأنهم عبدوا الله بالجهل. (وإنما الدين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه، وهو تحقيق محبة الله بكل درجة، وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه، وتكمل محبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا، وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك. وكلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك، وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة، وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله، ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله وهو المشروع). قول المؤلف-رحمه الله-: (فالدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما كان لله، ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله). هذا مأخوذ من حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة بسند حسن: ((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه))([11]). (ما والاه) أي ما قاربه، ويدخل في قوله: ((الدنيا ملعونة)) كل ما خالف أمر الله ورسوله، وكل ما أقعد عن أمر الله ورسوله وزهد في الآخرة فإنه يدخل في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه)). وهذا يبين لنا أنه ينبغي للمؤمن أن يشتغل في هذه الدنيا بكل ما يعينه على الطاعة،وأن اشتغاله بغير ذلك خسار ووبال عليه. (فكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله، وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله، بل لا يكون لله إلا ما جمع الوصفين: أن يكون لله، وأن يكون موافقا لمحبة الله ورسوله، وهو الواجب والمستحب كما قال تعالى: ‏﴿‏فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا(110)﴾([12]). فلا بد من العمل الصالح وهو الواجب والمستحب، ولا بد أن يكون خالصا لوجه الله تعالى، كما قال تعالى: ‏﴿‏بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (112)‏﴾([13]). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد))([14])‏. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه))([15])‏. وهذا الأصل هو أصل الدين، وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين، وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وإليه دعا الرسول وعليه جاهد، وبه أمر وفيه رغب، وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه). ما هو هذا الأصل؟ إخلاص العمل لله عز وجل، هو الموصوف بما ذكر المؤلف رحمه الله من أنه(به أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وإليه دعا الرسول وعليه جاهد، وبه أمر وفيه رغب، وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه).  الإخلاص لله عز وجل، وهذا يبين منزلة الإخلاص وأنه لا تستقيم عبادة الإنسان إلا به، فكل عمل لا إخلاص فيه فإنه مردود على صاحبه كما تقدم: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا)). وأمر النبي في أول حاله الدعوة إلى الإخلاص، وليس فقط ((ليس عليه أمرنا)) أيلم يوافق طريقنا، بل من ذلك الإخلاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى الإخلاص في العمل والمتابعة فيه، فمن لم يخلص فعمله ليس على أمر النبي صلى الله عليه وسلم. (والشرك غالب على النفوس، وهو كما جاء في الحديث:(( هو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل))([16]). وفي حديث آخر قال أبو بكر-رضي الله عنه-: يا رسول الله كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر-رضي الله عنه-: ((ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم))([17]).وكان عمر -رضي الله عنه- يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا). يقول -رحمه الله-: (والشرك غالب على النفوس). الشرك أصله تسوية الله -عز وجل- بمخلوقاته، أصله التسوية، وذلك بأن تعدل بالله -عز وجل- مخلوقاته فيما لا يستحقه إلا هو -سبحانه وتعالى-.  وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن الشرك يدور على قطبين: ·       تشبيه الخالق بالمخلوق. ·       أو المخلوق بالخالق.  وهذا ينتظم أنواع الشرك. يقول -رحمه الله-:(والشرك غالب على النفوس)أي إنه يدب إليها ويغلبها مهما احتاطت، ومهما حرصت أن تسلم منه. ثم ذكر الحديث:( هو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل). وهذا يوجب شدة الحذر وعظيم الاحتياط من الوقوع فيه؛ لأنه مثل الشرك بشيء خفي فقال: ((هو أخفى من دبيب النمل)). دبيب النمل أثر سيره، لو أردت أن تنظر في الأرض في أثر سير نملة لشق عليك ذلك تمييزا لسيرها، هذا من جهة الإدراك البصري. ومن جهة الإدراك الصوتي أيضا لو تسمعت لدبيب نملة هل تدرك دبيبها؟ فإذا كان خافيا صوتا ونظرا فكيف الاحتراز منه؟ لا يكون إلا بدوام المراقبة وسؤال السلامة من الرب -جل وعلا-. والشرك المراد هنا ليس فقط أن تعبد غير الله بالرياء، بل يدخل في ذلك من عمل عملا يريد به أمرا من الدنيا، فإنه قد وقع في الشرك؛ لأنه لم يخلص عمله. من أراد بعمله المدح والثناء ولو لم يرد الرياء؛ فإنه أيضا ممن دب الشرك إليه ودخل إلى قلبه. فالشرك تارة يكون بالرياء. تارة يكون بطلب الدنيا والجاه والمنصب. تارة يكون بتحصيل أمر دنيوي لا يحصل له إلا من طريق العبادة. كل هذا مما يدخل في عموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في وصف الشرك: ((هو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل)). ثم ذكر طريق الاحتياط فيما علمه أبا بكر (قال: ((ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله؟)) يعني يسيره وكثيره ((قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)). وهذا فيه إحاطة التوبة بجميع صور الشرك وأنواعه؛ لأنه استغفر ربه مما علم من الشرك ومما خفي عليه ولم يعلمه، والإنسان محتاج إلى هذه التوبة التي تشمل وتعمكلما يكون منه في مقاصده وإراداته. ثم قال:(وكان عمر يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا). إصلاح العمل بمتابعة السنة قد يكون يسيرا على بعض الناس؛ لكن الذي يشق هو إخلاصه. ولذلك انظر إلى دعاء عمر –رضي الله عنه- قال: (اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا). وهذا فيه تأكيد المعنى الأخير وهو الإخلاص، حيث خص الإخلاص بدعوتين، والصلاح الذي هو المتابعة بدعوة واحدة، في قوله: (واجعله لوجهك خالصا) مع أن هذا يشمل المعنى الأخير؛ يعني كونه خالصا لله أي:لا شائبة فيه،الخالص هو الذي لا شائبة فيه،لكن أعاد وكرر فقال:(ولا تجعل لأحد فيه شيئا). نعم.  (وكثيرا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها لله وعبوديتها له وإخلاص دينها له، كما قال شداد بن أوس -رحمه الله تعالى-: يا نعايا العرب، يانعايا العرب! إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية. وقيل لأبي داود السجستاني -رحمه الله تعالى-: وما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرئاسة. وعن كعب بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه))([18]). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. فبين -صلى الله عليه وسلم- أن الحرص على المال والشرف في إفساد الدين لا ينقص عن إفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، وذلك بين). طيب، تأمله يتضح لك، الزريبة الحظيرة من الغنم، لو أطلقت عليها ذئبين كيف يفعلان؟ ما يخلو إما من أكل أو إفساد، لا يخلو حال هذه الغنم من أن تؤكل، وإن لم تؤكل فالذئب يفسد حتى ما لا يأكله يفسده ببقر بطنه ويتركه، ولذلك قال: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)). فالحرص على المال والحرص على الشرف في فساد الدين كالذئبين الجائعين المرسلين في زريبة غنم، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحتاط، وأن يحرص على السلامة من هذين الذئبين، والذئب لا تسلم منه إلا بغاية الاحتراز والاحتياط والتحفظ والمراقبة، وتمكين الأسوار المانعة من دخوله. نعم. (فإن الدين السليم لا يكون فيه هذا الحرص، وذلك أن القلب إذا ذاق حلاوة عبوديته لله ومحبته له لم يكن شيء أحب إليه من ذلك حتى يقدمه عليه، وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص لله السوء والفحشاء، كما قال تعالى: ‏﴿‏كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين‏﴾([19]). فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه عن عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه عن محبة غيره، إذ ليس عند القلب السليم لا أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا أسر ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله ومحبته له وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله، فيصير القلب منيبا إلى الله خائفا منه راغبا راهبا، كما قال تعالى: ﴿من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب (33)﴾([20]). إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه أو عدم حصول مرغوبه، فلا يكون عبد الله ومحبه إلا بين خوف ورجاء، كما قال تعالى: ﴿أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا (57)﴾([21]). وإذا كان العبد مخلصا لله، اجتباه ربه فأحيا قلبه واجتذبه إليه، فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من حصول ضد ذلك، بخلاف القلب الذي لم يخلص لله، فإن فيه طلبا وإرادة وحبا مطلقا، فيهوى ما يسنح له ويتشبث بما يهواه، كالغصن أي نسيم مر به عطفه وأماله، فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة). (الصور المحرمة)كصور النساء الأجانب والمرد (وغير المحرمة)كصور الزوجات وملك اليمين، فإنها غير محرمة، لكن الانجذاب إليها الذي يحمل الإنسان على ترك الطاعة والقعود عنها والوقوع في المعصية مما يذم عليه الإنسان: ﴿قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره﴾([22]). وكما قال جل وعلا: ﴿إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم﴾([23]).وقال: ﴿إنما أموالكم وأولادكم فتنة﴾([24]). فهذا يدل على أن التعلق بالمباح تعلقا يمنع الإنسان عن الطاعة ويحمله على المعصية،مما يذم عليه ومما يلحقه بالمذمومين. نعم. (فيبقى أسيرا عبدا لمن لو اتخذه هو عبدا له لكان ذلك عيبا ونقصا وذما. وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة وتغضبه الكلمة، ويستعبده من يثني عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق. وتارة يستعبده الدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب والقلوب تهواها، فيتخذ إلهه هواه، ويتبع هواه بغير هدى من الله). هنا يبين لك أن الشرك ليس محصورا فقط في صورة واحدة وهي السجود للأصنام أو التعلق بالأوثان، بل الانجذاب إلى الصور المحرمة وغير المحرمة على وجه يعطل العبادة من ذلك، الانجذاب إلى الشرف والرئاسة من ذلك، الانجذاب إلى الدرهم والدينار من ذلك: ((تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة))([25]).كل هذا مما يدل على وجوب الاحتراز وعدم النظر إلى أن الشرك فقط في صورة محددة، بل كل ما يصرف القلب عن الرب -جل وعلا- ويكون سببا لتسوية المخلوق بالخالق فإنه من الشرك. (ومن لم يكن خالصا لله عبدا له قد صار قلبه معبدا لربه وحده لا شريك له، بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، ويكون ذليلا له خاضعا، وإلا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا الله، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه، فالقلب إن لم يكن حنيفا مقبلا على الله معرضا عما سواه  كان مشركا، قال تعالى:‏﴿فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30)‏ منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين (31) من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون (32)﴾([26])‏). كل الأمر دائر على هذا القلب: إذا أقامه الإنسان على الجادة صلحت أموره، وإذا أهمله وغفل عنه فسد أمره في الدنيا والآخرة. وهذا يوجب تمام العناية بالقلب تطهيرا وتزكية وإصلاحا وتهذيبا، فإنه من أصلح قلبه صلحت حاله في الدنيا والآخرة، نعم. (وقد جعل الله سبحانه إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلاء الحنفاء المخلصين أهل محبة الله وعبادته وإخلاص الدين له، كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة المشركين المتبعين أهواءهم، قال تعالى في إبراهيم –عليه السلام-: ‏﴿ووهبنا له إ

المشاهدات:3483


(وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعاً من أمور الجهل بالدين: إما من تعدي حدود الله، أو من تضييع حقوق الله، وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها،كقول بعضهم: أي مريد لي ترك في النار أحداً فأنا بريء منه. فقال الآخر: أي مريد لي ترك أحداً من المؤمنين يدخل النار فأنا بريء منه.



 فالأول: جعل مريده يخرج كل من في النار.



 والثاني: جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار.



ويقول بعضهم: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم حتى لا يدخلها أحد.



وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين، وهي إما كذب عليهم وإما غلط منهم).



                               بسم الله الرحمن الرحيم



الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.



أما بعد:



فالمؤلف -رحمه الله- في هذا المقطع يبين خطأ من ضل في محبة الله -جل وعلا- وأسرف على نفسه وزين له شيطانه ما هو عليه من ضلال مبين، يقول -رحمه الله-: (وكثير من السالكين)أي:طريق الزهد والتعبد (سلكوا في دعوى حب الله أنواعاً من أمور الجهل بالدين). ثم ذكر من ذلك ثلاث طرق جامعة:



الطريق الأولى: (إما من تعدي حدود الله) أي: وقع في المحرمات وأسرف على نفسه بانتهاك الحرمات.



(وإما تضييع حقوق الله). وهو بترك الواجبات.



(وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها). وهذا ثالث ما وقع لهؤلاء من الضلال والشر في مسألة المحبة.



الشيخ -رحمه الله- مثّل للنوع الأخير لوضوح الأول والثاني، الأول والثاني واضحان وتقدم الكلام عليهما في ثنايا هذه الرسالة.



وأما النوع الثالث وهو الدعاوى الباطلة، فإنه لم يشر إليه من قبل إشارة بالتمثيل، فذكر لذلك أمثلة من هذه الأقوال التي تنبئ عن جهل صاحبها بالله -عز وجل-، وجهله بقدر نفسه، وتنبئ عن إعجاب بالنفس عظيم؛ إذْ لا يمكن أن يصدر مثل هذه الأقوال إلا ممن رأى لنفسه على الله حقّاً، وإذا رأى الإنسان لنفسه على الله حقّاً فقد أصيبت مقاتله؛لأن الحق كله لله والفضل كله لله، فهو الذي وفق للطاعة، وهو الذي هدى السبيل، وهو الذي أنار البصيرة، وهو الذي سهّل للعبد سلوك الصراط المستقيم، فله الفضل والمنة والإحسان سابقاً ولاحقاً.



 فمن رأى لنفسه على الله فضلاً يُدل به عليه، ورأى لنفسه حقّاً على الرب -جل وعلا- فقد ضل سواء السبيل، وقد أتي من حيث لا يشعر، وإن استرسل به الأمر فإن هذا سيحيط بعمله ويلحقه بالحابطة أعمالهم.



يقول -رحمه الله- في التمثيل- آخرها-: (ويقول بعضهم: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم حتى لا يدخلها أحد). وكأن له من المكانة والمنزلة ما يستخرج به الناس؛ بل ما يمنع به الناس من دخول النار ممن استحقها.



ثم يقول الشيخ -رحمه الله- في ذلك معلقاً على هذه الأقوال: (وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثَر) أي تنقل(عن بعض المشايخ المشهورين) في العبادة والزهد، وليس هؤلاء من مشايخ العلم، وإنما هم من مشايخ العبادة والزهد، يقول:(وهي إما كذب عليهم). وهذا ممن عرف عنه الاستقامة، (وإما غلط منهم). وهذا ممن قلت بضاعته في العلم. ثم يقول-رحمه الله-:



(ومثل هذا قد يصدر في حال سكر وغلبة وفناء، يسقط فيها تمييز الإنسان أو يضعف حتى لا يدري ما قال، والسكر هو لذة مع عدم تمييز، ولهذا كان من هؤلاء من إذا صحا استغفر من ذلك الكلام).



 وهذا السكر ليس سكر خمر بل هو سكر هوى،وسُمِّي السكر بهذا الاسم لأنه يُسَكِّر على العاقل التفكير، ويغلق على النظر التأمل والاعتبار، فهؤلاء سكارى، لكنهم ليسوا سكارى شراب وخمر،إنما هم سكارى هوى وضلالة.



 ولذلك يقول الشيخ-رحمه الله-: (إنّ بعض هؤلاء إذا صحا من هذا السكر استغفر من ذلك الكلام).



أما هل يؤاخذون أو لا يؤاخذون فهذا أمره وبحثه له شأن آخر، إنما الكلام أن هذه الأقوال إن صح نسبتها لمن هو مشهور بالعبادة والزهد فهي محمولة على هذا الوجه. يقول -رحمه الله-:



(والذين توسّعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب والشوق واللوم والعذل والغرام كان هذا أصل مقصدهم، فإن هذا الجنس يحرك ما في القلب من الحب كائناً ما كان، ولهذا أنزل الله محنة يمتحن بها المحب فقال: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾([1]) . فلا يكون محبّاً لله إلا من يتبع رسوله، وطاعة الرسول ومتابعته لا تكون إلا بتحقيق العبودية.



وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويدعي من الحالات ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، حتى قد يظن أحدهم سقوط الأمر وتحليل الحرام له، وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول وسنته وطاعته؛ بل قد جعل الله أساس محبته ومحبة رسوله الجهاد في سبيله، والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الله به، وكمال بُغْض ما نهى الله عنه، ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾([2]).



ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله أكمل من محبة من قبلها، وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم).



يقول -رحمه الله-: (بل قد جعل الله أساس محبته ومحبة رسوله الجهاد في سبيله). والجهاد في سبيل الله -عز وجل- هو ما سبق تعريفه وبيانه، وهو بذل الوسع في تحصيل محاب الحق ودفع مكروهاته، ولا شك أن الجهاد بهذا المعنى الواسع يشمل جهاد النفس، وجهاد العصاة، وجهاد المنافقين، وجهاد الكفار، كل هذا مما يدخلفي قول المؤلف -رحمه الله-: بل قد جعل الله تعالى أساس محبته ومحبة رسوله الجهاد في سبيله، فالجهاد ليس فقط هو مقاتلة الكفار، وإنما هذا اصطلاح، وإن كان الغالب في استعمال القرآن للجهاد بهذا المعنى، لكن يرد الجهاد بمعناه العام ومنه قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((المجاهد من جاهد نفسه أو هواه))([3])أو كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ((والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ورسوله))([4]).



فهذا يوجب للعبد الاشتغال بمجاهدة الهوى والشيطان والنفس، وهذا هو أساس كل جهاد، إذا جاهد الإنسان نفسه وحملها على الصالحات، وجاهد هواه، وجاهد الشيطان، أعانه الله -جل وعلا- على القيام بمراتب الجهاد الأخرى، فالجهاد مراتب وليس مرتبة واحدة.



يقول: (والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر الله به، وكمال بُغْض ما نهى الله عنه). ولا شك أن هذا غاية الجهاد، وهو الحامل على الجهاد؛ لأنه من أحبّ الله -جل وعلا- تمام المحبة رخُصت نفسه فخالفها فيما تحب، وأتى على محاب الله -عز وجل- وسابق إليها في دقيق الأمر وفي جليله، يقول: (ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾). ولا شك أن أعلى المراتب في الجهاد هو جهاد الكفار إن تيسر، فإنه يُظهر صدق المحبة من العبد؛ لأن العبد يقدّم نفسه رخيصة في سبيل الله -عز وجل-، يرجو ثواب الله -عز وجل-، ويرجو ما أعده -سبحانه وتعالى- لعباده المجاهدين في سبيله.



ولهذا كانت محبة هذه الأمة أكمل من محبة من قبلها؛ لأن هذه الأمة فيها من الجهاد في سبيل الله والحث عليه ما ليس في الأمم السابقة.



 (وأكمل هذه الأمة في ذلك هم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل).



ومعلوم أن الصحابة –رضي الله عنهم- لم يكونوا كلهم مجاهدين بالقتال في سبيل الله، بل منهم من جاهد بالقتال، ومنهم من جاهد بالعلم، ومنهم من جاهد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا شك أن أفضل المجاهدين من جاهد في نشر دين الله عز وجل، فإن نشر دين الله عز وجل بالتعليم والتبصير والدعوة من خير ما يكون، وهو الذي اشتغل به أفاضل الصحابة رضي الله عنهم.



وهو الذي يتيسر لكل أحد، بخلاف الجهاد بالقتال فقد لا يتيسر؛ لعدم وضوح الراية أو غير ذلك من الأسباب، لكن جهاد العلم متيسر، وذلك بأن يبذل الإنسان جهده في التعلم، ويبذل جهده في نشر العلم، فإن نشر العلم مما تحفظ به الشريعة، بل كلما قوي نور النبوة في مكان ضعف الجهل والشر في ذلك المكان، وكلما خفت نور النبوة في مكان- بقلة العلماء، أو بقلة العاملين بالعلم والداعين إليه- كثر الشر في ذلك المكان.



وهذا أينما تتبعت في أي مكان من الأماكن وجدت هذا مطّرداً: إذا وجد أهل العلم كثر الخير وقلّ الشر، وإذا قلّ أهل العلم قلّ الخير وكثر الشر.



(فأين هذا من قوم يدعون المحبة؟ وفي كلام بعض الشيوخ: المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب. وأرادوا أن الكون كله قد أراد الله وجوده، فظنوا أن كمال المحبة أن يحب العبد كل شيء حتى الكفر والفسوق والعصيان، ولا يمكن أحداً أن يحب كل موجود، بل يحب ما يلائمه وينفعه، ويُبغض ما ينافيه ويضرُّه؛ ولكن استفادوا بهذا الضلال اتباع أهوائهم، ثم زادهم انغماساً في أهوائهم وشهواتهم، فهم يحبون ما يهوونه كالصور والرئاسة وفضول المال والبدع المضلة، زاعمين أن هذا من محبة الله، ومن محبة الله بغض ما يبغضه الله ورسوله، وجهاد أهله بالنفس والمال.



وأصل ضلالهم أن هذا القائل الذي قال: إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب. قصد بمراد الله تعالى الإرادة الكونية في كل الموجودات، أما لو قال مؤمن بالله وكتبه ورسله هذه المقالة فإنه يقصد الإرادة الدينية الشرعية التي هي بمعنى محبته ورضاه، فكأنه قال: تُحرق من القلب ما سوى المحبوب لله، وهذا معنى صحيح.



فإن من تمام الحب لله أن لا تحب إلا ما يحبه الله، فإذا أحببت ما لا يحب كانت المحبة ناقصة. وأما قضاؤه وقدره فهو يبغضه ويكرهه ويسخطه وينهى عنه، فإن لم أوافقه في بغضه وكراهته وسخطه لم أكن محبّاً له، بل محبّاً لما يبغضه).



طيب، هذا كله تعليق على قوله -رحمه الله-: (وفي كلام بعض الشيوخ: المحبة نار تُحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب). هذه المقالة إنما يقولها في الغالب الجبرية الذين يجعلون كل شيء كائن فهو محبوب لله -عز وجل-، فكل ما اقتضته الإرادة الكونية من الموجودات فإنما هو محبوب له -سبحانه وتعالى-، هكذا قالوا، وقد ناقش الشيخ -رحمه الله- بعض من قال هذه المقولة كما نقل ابن القيم في شفاء العليل وفي غيره، ناقشهم وقال لهم قريباً مما ذكر هنا في الجواب، وهو: كيف يستقيم هذا مع أن الله –جل وعلا- أخبر في كتابه أنه يبغض بعض خلقه، ويسخط على بعض خلقه، ويمقت بعض خلقه؟ فكيف يستقيم هذا الخبر من الله -جل وعلا- مع قولكم:(المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب)؟ معنى هذا أنك تحب كل ما في الكون: تحب الزنى، تحب الكفر، تحب السرقة، تحب الكبر، تحب الحسد؛لأن هذا مراد للمحبوب، مراد لله -عز وجل- .



وأصل ضلال هؤلاء ناشئ عن أي شيء يا إخواني ؟ عدم التفريق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فلما التبس عليهم الأمر لم يميزوا بين مرادات الله -عز وجل- المحبوبة له وبين المرادات التي اقتضتها حكمته، وأرادها -جل وعلا- لغاية تظهر أو تخفى على الخلق.



ثم وجّه الشيخ -رحمه الله- هذا القول توجيهاً يمكن أن يقبل فقال: (أما لو قال مؤمن بالله وكتبه ورسله هذه المقالة فإنه يقصد الإرادة الدينية الشرعية التي هي بمعنى محبته ورضاه). فيكون المعنى فكأنه قال: تُحرق من القلب ما سوى المحبوب لله. وهذا معنى صحيح، أي:لا يبقى في القلب تعلُّق بغير الله -عز وجل-، محبة لغير ما يحبه الله -سبحانه وتعالى-، وهذا المعنى صحيح.



لكن هذه الألفاظ المجملة التي تحتمل حقّاً وباطلاً الواجب فيها التبيين، لا سيما إذا كانت مستعملة ممن فسدت عقائدهم ويلبّسون بها على الخلق.



(فاتباع هذه الشريعة والقيام بالجهاد بها من أعظم الفروق بين أهل محبة الله وأوليائه الذين يحبهم ويحبونه، وبين من يدعي محبة الله ناظراً إلى عموم ربوبيته، أو متبعاً لبعض البدع المخالفة لشريعته، فإن دعوى هذه المحبة لله من جنس دعوى اليهود والنصارى المحبة لله، بل قد تكون دعوى هؤلاء شرّاً من دعوى اليهود والنصارى؛ لما فيهم من النفاق الذي هم به في الدرك الأسفل من النار، كما قد تكون دعوى اليهود والنصارى شرّاً من دعواهم إذا لم يصلوا إلى مثل كفرهم.



وفي التوراة والإنجيل من الترغيب في محبة الله ما هم متفقون عليه، حتى إن ذلك عندهم أعظم وصايا الناموس.



ففي الإنجيل أن المسيح –عليه السلام- قال: أعظم وصايا المسيح أن تحب الله بكل قلبك وعقلك ونفسك.



والنصارى يدعون قيامهم بهذه المحبة، وأن ما هم فيه من الزهد والعبادة هو من ذلك، وهم برآء من محبة الله إذ لم يتبعوا ما أحبه، بل اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم).



وهذا حكم عليهم بالكفر؛ لأن حبوط العمل في الغالب لا يكون إلا لوجود مكفر في الغالب، ولا شك أن من اتبع ما أسخط الله وكره رضوان الله -جل وعلا- فإنه كافر، وهذا يوجب حبوط عمله. نعم.



(والله يبغض الكافرين ويمقتهم ويلعنهم، وهو –سبحانه- يحب من يحبه، لا يمكن أن يكون العبد محبّاً لله والله تعالى غير محب له، بل بقدر محبة العبد لربه يكون حب الله له، وإن كان جزاء الله لعبده أعظم ،كما في الحديث الصحيح الإلهي عن الله تعالى أنه قال: ((من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة))([5])).



الله أكبر، ما أوسع فضل الله! هذا الحديث الإلهي أي الذي ينقله النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ربه، وهو ما يقابل في كلام بعض العلماء الحديث القدْسي: ((من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)). فذكر في هذا الحديث مسارعة الله -جل وعلا- لعبده إذا أسرع إليه، وذكر في ذلك المسافة وصفة السير، فالمسافة بقوله:((من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً)).



 وفي صفة السير: ((ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)). واقتصر الحديث على ذكر ذلك، ولم يزد، والباب مفتوح للزيادة: فمن أتى هرولة أتاه الله -جل وعلا- بما يناسب هذا المجيء، وإنما اقتصر على الذكر؛ لأنه تبين أن القياس في هذا ماضٍ، فكلما أسرع العبد في إقباله على ربه أسرع الرب إليه -جل وعلا-، كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في منتهى ما يكون من التقرب: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها))([6]).المهم أن الله -جل وعلا- بيّن عظيم إحسانه لعبده، وأنه يدنو منه ويقترب. وهذا القرب ليس قرباً مجازيّاً، إنما هو قرب حقيقي، أما كيفية هذا القرب فكيفيته الله أعلم بها. وليس من لازم هذا القرب قرب المسافة كما يقول؛ لأن العبد قد يتقرب إلى الله دون أن يتحرك بمسافة، وإنما الذي يقترب منه -سبحانه وتعالى- روحه، روح العبد تتقرب إلى الله -سبحانه وتعالى-. ولذلك ينبغي للمؤمن أن يمضي هذا الحديث كغيره من الأحاديث التي فيها الخبر عن الله -عز وجل-، ولا يدخل في ذلك برأي فاسد أو بخيال باطل أو بظن كاذب، بل يجب أن يسلم لله ولرسوله، فإذا ضاق عقله عن تصور هذا وفهمه فليتجاوزه، كما قال القائل:



إذا لــم تستطع شيئاً فدعـه*** وجــاوزه إلى ما تستطيـــعُ



وإنما هذا الحديث يبين عظيم فضل الرب وعظيم قدر المسارعة إليه -جل وعلا-، وأنه بالخير إلى العبد سابق، وأن العبد إذا صدق مع الله فإنه يجد من ربه ما لا يرد له على بال ولا خاطر، يكفي في الفضل أن الله -سبحانه وتعالى- مثّل لنا في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثلاً بيّن لنا عظيم فرحة الرب -جل وعلا- بتوبة العبد، وهذا التمثيل الذي ذكره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله:((لله أفرح بتوبة العبد إذا تاب إليه من أحدكم في صحراء معه ناقته عليها زاده ومتاعه، أضلّها فبحثها وطلبها، فلما أيس منها أوى إلى شجرة فوضع رأسه، فلما أفاق وجد دابته أو راحلته فوق رأسه عليها متاعه وزاده، ففرح بذلك فرحاً عظيماً، حتى قال العبد من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك))([7]).فالله -جل وعلا- فرحته بتوبة عبده أشد من فرحة هذا براحلته. يقول ابن القيم:  وهذا ليس قولاً مجازيّاً ولا تصويراً، إنما هذا كلام من لا ينطق عن الهوى، الذي كل كلمة من كلماته مرادة ومقصودة ولها معنى، وهذا يبين عظيم فضل الرب على العبد، وأن الله -جل وعلا- بالخير إلى عباده سابق، لكن نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا.



من فوائد هذا الحديث إثبات القرب للرب -سبحانه وتعالى-، وهو قرب الله -جل وعلا- لعابده؛ لأن القرب ثبت للعابد والداعي ولم يرد إثباته مطلقاً، هذا من قربه -سبحانه وتعالى- لعابده.



قربه لداعيه: قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد))([8]). نعم.



(وقد أخبر الله سبحانه أنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، بل هو يحب من فعل ما أمر به من واجب ومستحب، كما في الحديث الإلهي الصحيح: ((لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به))... الحديث([9]).



وكثير من المخطئين الذين ابتدعوا أشياء([10])في الزهد والعبادة وقعوا في بعض ما وقع فيه النصارى من دعوى المحبة لله مع مخالفة شريعته وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك، ويتمسكون بالدين الذي يتقربون به إلى الله بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه والحكايات التي لا يُعرف صدق قائلها، ولو صدق لم يكن قائلها معصوماً، فيجعلون متبوعيهم شارعين لهم ديناً، كما جعل النصارى قسيسيهم ورهبانهم شارعين لهم ديناً.



ثم إنهم ينتقصون العبودية، ويدعون أن الخاصة يتعدونها، كما يدعي النصارى في المسيح والقساوسة، ويثبتون لخاصتهم من المشاركة في الله من جنس ما تثبته النصارى في المسيح وأمه. إلى أنواع أخر يطول شرحها في هذا الموضع).



نعم، على كل حال الصوفية فيهم شبه كبير من النصارى؛ لأنهم عبدوا الله بالجهل.



(وإنما الدين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه، وهو تحقيق محبة الله بكل درجة، وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه، وتكمل محبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا، وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك.



وكلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك، وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة، وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله، ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله وهو المشروع).



قول المؤلف-رَحِمَهُ اللهُ-: (فالدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما كان لله، ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله). هذا مأخوذ من حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة بسند حسن: ((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه))([11]). (ما والاه) أي ما قاربه، ويدخل في قوله: ((الدنيا ملعونة)) كل ما خالف أمر الله ورسوله، وكل ما أقعد عن أمر الله ورسوله وزهّد في الآخرة فإنه يدخل في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه)).



وهذا يبين لنا أنه ينبغي للمؤمن أن يشتغل في هذه الدنيا بكل ما يعينه على الطاعة،وأنّ اشتغاله بغير ذلك خسار ووبال عليه.



(فكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله، وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله، بل لا يكون لله إلا ما جمع الوصفين: أن يكون لله، وأن يكون موافقاً لمحبة الله ورسوله، وهو الواجب والمستحب كما قال تعالى: ‏﴿‏فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أحداً(110)﴾([12]).



فلا بد من العمل الصالح وهو الواجب والمستحب، ولا بد أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى، كما قال تعالى: ‏﴿‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112)‏﴾([13]).



وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))([14]). وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه))([15]).



وهذا الأصل هو أصل الدين، وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين، وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وإليه دعا الرسول وعليه جاهد، وبه أمر وفيه رغّب، وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه).



ما هو هذا الأصل؟ إخلاص العمل لله عز وجل، هو الموصوف بما ذكر المؤلف رحمه الله من أنه(به أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وإليه دعا الرسول وعليه جاهد، وبه أمر وفيه رغّب، وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه).  الإخلاص لله عز وجل، وهذا يبين منزلة الإخلاص وأنه لا تستقيم عبادة الإنسان إلا به، فكل عمل لا إخلاص فيه فإنه مردود على صاحبه كما تقدم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا)). وأمر النبي في أول حاله الدعوة إلى الإخلاص، وليس فقط ((ليس عليه أمرنا)) أيلم يوافق طريقنا، بل من ذلك الإخلاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى الإخلاص في العمل والمتابعة فيه، فمن لم يخلص فعمله ليس على أمر النبي صلى الله عليه وسلم.



(والشرك غالب على النفوس، وهو كما جاء في الحديث:(( هو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل))([16]). وفي حديث آخر قال أبو بكر-رضي الله عنه-: يا رسول الله كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر-رضي الله عنه-: ((ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم))([17]).وكان عمر -رضي الله عنه- يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً).



يقول -رحمه الله-: (والشرك غالب على النفوس). الشرك أصله تسوية الله -عز وجل- بمخلوقاته، أصله التسوية، وذلك بأن تعدل بالله -عز وجل- مخلوقاته فيما لا يستحقه إلا هو -سبحانه وتعالى-.



 وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن الشرك يدور على قطبين:



·       تشبيه الخالق بالمخلوق.



·       أو المخلوق بالخالق.



 وهذا ينتظم أنواع الشرك.



يقول -رحمه الله-:(والشرك غالب على النفوس)أي إنه يَدِب إليها ويغلبها مهما احتاطت، ومهما حرصت أن تسلم منه. ثم ذكر الحديث:( هو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل). وهذا يوجب شدة الحذر وعظيم الاحتياط من الوقوع فيه؛ لأنه مثل الشرك بشيء خفي فقال: ((هو أخفى من دبيب النمل)). دبيب النمل أثر سيره، لو أردت أن تنظر في الأرض في أثر سير نملة لشق عليك ذلك تمييزاً لسيرها، هذا من جهة الإدراك البصري. ومن جهة الإدراك الصوتي أيضاً لو تسمعت لدبيب نملة هل تدرك دبيبها؟ فإذا كان خافياً صوتاً ونظراً فكيف الاحتراز منه؟ لا يكون إلا بدوام المراقبة وسؤال السلامة من الرب -جل وعلا-.



والشرك المراد هنا ليس فقط أن تعبد غير الله بالرياء، بل يدخل في ذلك من عمل عملاً يريد به أمراً من الدنيا، فإنه قد وقع في الشرك؛ لأنه لم يُخلص عمله. من أراد بعمله المدح والثناء ولو لم يرد الرياء؛ فإنه أيضاً ممن دبّ الشرك إليه ودخل إلى قلبه.



فالشرك تارة يكون بالرياء.



تارة يكون بطلب الدنيا والجاه والمنصب.



تارة يكون بتحصيل أمر دنيوي لا يحصل له إلا من طريق العبادة.



كل هذا مما يدخل في عموم قول النبي -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في وصف الشرك: ((هو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل)).



ثم ذكر طريق الاحتياط فيما علّمه أبا بكر (قال: ((ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله؟)) يعني يسيره وكثيره ((قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)). وهذا فيه إحاطة التوبة بجميع صور الشرك وأنواعه؛ لأنه استغفر ربه مما علم من الشرك ومما خفي عليه ولم يعلمه، والإنسان محتاج إلى هذه التوبة التي تشمل وتعمّكلما يكون منه في مقاصده وإراداته.



ثم قال:(وكان عمر يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً). إصلاح العمل بمتابعة السنة قد يكون يسيراً على بعض الناس؛ لكن الذي يشق هو إخلاصه.



ولذلك انظر إلى دعاء عمر –رضي الله عنه- قال: (اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً). وهذا فيه تأكيد المعنى الأخير وهو الإخلاص، حيث خصّ الإخلاص بدعوتين، والصلاح الذي هو المتابعة بدعوة واحدة، في قوله: (واجعله لوجهك خالصاً) مع أن هذا يشمل المعنى الأخير؛ يعني كونه خالصاً لله أي:لا شائبة فيه،الخالص هو الذي لا شائبة فيه،لكن أعاد وكرر فقال:(ولا تجعل لأحد فيه شيئاً). نعم.



 (وكثيراً ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها لله وعبوديتها له وإخلاص دينها له، كما قال شداد بن أوس -رحمه الله تعالى-: يا نعايا العرب، يانعايا العرب! إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية.



وقيل لأبي داود السجستاني -رحمه الله تعالى-: وما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرئاسة.



وعن كعب بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه))([18]). قال الترمذي: حديث حسن صحيح.



فبين -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الحرص على المال والشرف في إفساد الدين لا ينقص عن إفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، وذلك بيّن).



طيب، تأمله يتضح لك، الزريبة الحظيرة من الغنم، لو أطلقت عليها ذئبين كيف يفعلان؟ ما يخلو إما من أكل أو إفساد، لا يخلو حال هذه الغنم من أن تؤكل، وإن لم تؤكل فالذئب يفسد حتى ما لا يأكله يفسده ببقر بطنه ويتركه، ولذلك قال: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)). فالحرص على المال والحرص على الشرف في فساد الدين كالذئبين الجائعين المرسلين في زريبة غنم، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحتاط، وأن يحرص على السلامة من هذين الذئبين، والذئب لا تسلم منه إلا بغاية الاحتراز والاحتياط والتحفظ والمراقبة، وتمكين الأسوار المانعة من دخوله. نعم.



(فإنّ الدِّين السليم لا يكون فيه هذا الحرص، وذلك أن القلب إذا ذاق حلاوة عبوديته لله ومحبته له لم يكن شيء أحبَّ إليه من ذلك حتى يقدمه عليه، وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص لله السوء والفحشاء، كما قال تعالى: ‏﴿‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏﴾([19]).



فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه عن عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه عن محبة غيره، إذ ليس عند القلب السليم لا أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا أسر ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله ومحبته له وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله، فيصير القلب منيباً إلى الله خائفاً منه راغباً راهباً، كما قال تعالى: ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33)﴾([20]). إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه أو عدم حصول مرغوبه، فلا يكون عبد الله ومحبه إلا بين خوف ورجاء، كما قال تعالى: ﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)﴾([21]).



وإذا كان العبد مخلصاً لله، اجتباه ربه فأحيا قلبه واجتذبه إليه، فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من حصول ضد ذلك، بخلاف القلب الذي لم يُخلص لله، فإن فيه طلباً وإرادة وحبّاً مطلقاً، فيهوى ما يسنح له ويتشبث بما يهواه، كالغصن أيّ نسيم مر به عطفه وأماله، فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة).



(الصور المحرمة)كصور النساء الأجانب والمرد (وغير المحرمة)كصور الزوجات وملك اليمين، فإنها غير محرمة، لكن الانجذاب إليها الذي يحمل الإنسان على ترك الطاعة والقعود عنها والوقوع في المعصية مما يذم عليه الإنسان: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ﴾([22]). وكما قال جل وعلا: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾([23]).وقال: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾([24]). فهذا يدل على أن التعلق بالمباح تعلقاً يمنع الإنسان عن الطاعة ويحمله على المعصية،مما يذم عليه ومما يلحقه بالمذمومين. نعم.



(فيبقى أسيراً عبداً لمن لو اتخذه هو عبداً له لكان ذلك عيباً ونقصاً وذمّاً. وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة وتغضبه الكلمة، ويستعبده من يثني عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق. وتارة يستعبده الدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب والقلوب تهواها، فيتّخذ إلهه هواه، ويتبع هواه بغير هدًى من الله).



هنا يبين لك أن الشرك ليس محصوراً فقط في صورة واحدة وهي السجود للأصنام أو التعلق بالأوثان، بل الانجذاب إلى الصور المحرمة وغير المحرمة على وجه يعطّل العبادة من ذلك، الانجذاب إلى الشرف والرئاسة من ذلك، الانجذاب إلى الدرهم والدينار من ذلك: ((تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة))([25]).كل هذا مما يدل على وجوب الاحتراز وعدم النظر إلى أن الشرك فقط في صورة محددة، بل كل ما يصرف القلب عن الرب -جل وعلا- ويكون سبباً لتسوية المخلوق بالخالق فإنه من الشرك.



(ومن لم يكن خالصاً لله عبداً له قد صار قلبه معبَّداً لربه وحده لا شريك له، بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، ويكون ذليلاً له خاضعاً، وإلا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا الله، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه، فالقلب إن لم يكن حنيفاً مقبلاً على الله معرضاً عما سواه  كان مشركاً، قال تعالى:‏﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30)‏ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)﴾([26])‏).



كل الأمر دائر على هذا القلب: إذا أقامه الإنسان على الجادة صلحت أموره، وإذا أهمله وغفل عنه فسد أمره في الدنيا والآخرة. وهذا يوجب تمام العناية بالقلب تطهيراً وتزكيةً وإصلاحاً وتهذيباً، فإنه من أصلح قلبه صلحت حاله في الدنيا والآخرة، نعم.



(وقد جعل الله سبحانه إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلاء الحنفاء المخلصين أهل محبة الله وعبادته وإخلاص الدين له، كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة المشركين المتبعين أهواءهم، قال تعالى في إبراهيم –عليه السلام-: ‏﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِ

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : أهمية الدعاء ( عدد المشاهدات83184 )
3. خطبة: التقوى ( عدد المشاهدات78235 )
4. خطبة: حسن الخلق ( عدد المشاهدات72546 )
6. خطبة: بمناسبة تأخر نزول المطر ( عدد المشاهدات60684 )
7. خطبة: آفات اللسان - الغيبة ( عدد المشاهدات55031 )
9. خطبة: صلاح القلوب ( عدد المشاهدات52239 )
12. خطبة:بر الوالدين ( عدد المشاهدات49437 )
13. فما ظنكم برب العالمين ( عدد المشاهدات47985 )
14. خطبة: حق الجار ( عدد المشاهدات44832 )
15. خطبة : الإسراف والتبذير ( عدد المشاهدات44138 )

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف