القاعدة الثالثة ] أن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر في أناس متفرقين في عباداتهم، منهم من يعبد الملائكة، ومنم من يعبد الأنبياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم من يعبد الشمس والقمر، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يفرق بينهم، والدليل قوله تعالى:﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله﴾ . ودليل الشمس والقمر: قوله تعالى: ﴿ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون﴾ .
هذه القاعدة أن الله سبحانه وتعالى لا يرضى الشرك، بغض النظر عن المُشْرَكِ به، فإنه لم يرتضِ جل وعلا الشرك، سواءٌ كان المشرك به ملكاً، أو نبياً، أو ولياً صالحاً، أو جناً، أو شجراً، أو حجراً، أو غير ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى حرم الشرك، وأخبر بأنه ظلم عظيم، على اختلاف أنواعه وصوره.
قال رحمه الله: ( القاعدة الثالثة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر في أناس متفرقين في عباداتهم ) فليسوا مجتمعين على عبادة واحدة، بل هم طرائق قدد، وأنواع وفرق، (منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم من يعبد الشمس والقمر)، ومنهم من يعبد هذه جميعاً، ومنهم من يشرك بين نوعين منها، المهم أنهم ينحصرون في هذه الأنواع من العبادات، فبعضهم يتقرب للملائكة، وبعضهم يتقرب للصالحين والأنبياء، وبعضهم للأشجار والأحجار، وبعضهم للشمس والقمر، وبعضهم للجن، فهم أنواع متعددة، وهل فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين من يعبد الملائكة، وبين من يعبد الحجر ؟ فقال: الذي يعبد الملائكة هذا الذي يعبد الملائكة لا يضر وليس بشرك، لأن لهم منـزلة ومكانة عند الله، فله شبهة، أم إنه صلى الله عليه وسلم قاتل الجميع، ولم يرضَ الشـرك بجميع صوره وأنواعه؟ الجواب: ظاهر من سيرته صلى الله عليه وسلم ، ومن كتاب الله جل وعلا، فإن الله سبحانه وتعالى لم يميز بين أنواع الشرك، بل جعل الشرك ملةً واحدة، وطريقةً واحدة، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو ترجمان القرآن لم يميز بين من عبد الملائكة، وبين من عبد غيرهم، بل حرم الشرك كله، وقاتل أهل الشرك على اختلاف أصنافهم ومللهم ومعبوداتهم.
قال رحمه الله تعالى: وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يفرق بينهم، والدليل قوله تعالى: ﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله﴾ ([1])والفتنة: هي الشرك، والدين: أي العبادة والعمل كله لله، فلم يميز بين من يعبد الملائكة، وبين من يعبد غيرهم، بل الجميع يجب أن يكونوا عباداً لله وحده لا شريك له، ثم ذكر المؤلف رحمه الله الدليل على تفرق هؤلاء، وتنوع عباداتهم، واخـتلاف طرائقهم في العبادة.
فقال: ودليل الشمس والقمر قوله تعالى: ﴿ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا ﴾ ([2])يعني: دليل أن الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم ، منهم من كان يعبد الشمس والقمر فالصابئة الذين يعظمون الشمس والقمر والكواكب كانوا يسجدون لها ويتذللون لها ويدعونها وينسبون لها أنواعاً من التأثير ومن ذلك نسبة المطر إليها كما في حديث زيد بن خالد الجهني (( مطرنا بنوء كذا وكذا )) وكما في قوله صلى الله عليه وسلم : في كسوف الشمس والقمر (( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده)).
ودليل الملائكة: قوله تعالى: ﴿ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً ﴾ . ودليل الأنبياء: قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ . ودليل الصالحين: قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ . ودليل الأشجار والأحجار: قوله تعالى: ﴿ )أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى. . . ﴾ الآية ، وحديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه، قال: ( خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين - ونحن حدثاء عهد بكفر - وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها : ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. . . الحديث ).
ملخص القاعدة: أن الشيخ رحمه الله أراد أن يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم حارب الشرك بجميع صوره، بغض النظر عن المعبودات، فإنه صلى الله عليه وسلم قاتل الذين يعبدون الملائكة، كما قاتل الذين يعبدون الأحجار، والأصنام، والأشجار، ولم يفرق بين هذا وذاك، بل سوى بينهم في ثبوت حكم الكفر، وفي مقاتلتهم، حتى يتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان، والشرك، لا فرق فيه بين أن يكون الشرك بنبي، أو ملك أو صالح، وبين أن يكون بغير ذلك، مما يقع فيه الشرك، ثم ذكر المؤلف رحمه الله الأدلة على أن هذه العبادات أو على أن هذه الأنواع من الشرك، كانت موجودةً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، و فرغنا من أول هذه المعبودات، وهي في قوله: ( ودليل الشمس والقمر قوله تعالى: ﴿ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر. . . الآية ﴾ .
ثم قال رحمه الله: ( ودليل الملائكة ) أي: دليل أن المشركين الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كان منهم من يعبد الملائكة، قول الله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ ([3])هذا سؤال للملائكة في يوم القيامة عن عبادة هؤلاء لهم، هل كانت أو لا، والعبادة تصدق بصرف أي نوع من أنواعها، عبادة الملائكة تصدق بصرف أي نوع من أنواعها، ولا يلزم أن يكونوا قد صرفوا لهم جميع أنواع العبادة، بل لو اقتصروا على صرف نوع من هذه الأنواع فإنه يصدق عليهم أنهم عبدوهم، وأنهم أشركوا بالله عز وجل ، ووقعوا فيما نهت عنه الرسل.
ثم قال رحمه الله تعالى: ( ودليل الأنبياء قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ ([4])هذا سؤال من رب العالمين لعيسى يوم القيامة ﴿ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ﴾ أي: معبودين من دون الله، والله عز وجل يعلم أن عيسى لم يقل ذلك، وإنما يسأل هذا السؤال لتكذيب الذين عبدوا عيسى عليه السلام وأمه، ولبيان ضلالهم ومخالفتهم لما جاء به عيسى عليه السلام، قال: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ فنـزه الله جل وعلا أن يكون معه شريك، فإن تنـزيه الله عز وجل عن أن يكون له شريك في ما يجب له، كما أنه يُنَـزَّه سبحانه وتعالى عن النقص في أسمائه وصفاته، وفيما يجب له من الكمال، فالتنـزيه في هذا وفي هذا.
ثم قال رحمه الله تعالى: وقوله تعالى: ﴿ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً﴾ ([5])أرباباً: جمع رب، فنهى الله سبحانه وتعالى أن يتخذ هؤلاء أرباباً، بأن يعبدوا من دون الله، أو ينسب إليهم شيء مما يختص به سبحانه وتعالى من الخلق، أو الملك، أو الرزق، أو التدبير.
ثم قال: ودليل الصالحين - أي: الدليل على أن عبادة الصالحين كانت موجودةً على زمن النبي صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ ([6])والذين يُدعَون هم الصالحون، الذين صرفوا لهم أنواع العبادة من دون الله عز وجل .
ثم قال: ودليل الأشجار والأحجار قوله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى﴾ ([7])وهذان صنمان كانا يعبدان من دون الله في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهما: الأول اللاّت: حجر يعبد من دون الله، والعزى: شجرة كانت تعبد وتعظم من دون الله، وحديث أبي واقد الليثي قال:(( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر )) وهذا الوصف لا يطلق على كلَّ من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما كان وصفاً لبعضهم، وهم من أسلم عند فتح مكة، أما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار فهؤلاء لم يكونوا حدثاء عهد بكفر، ولم يجرِ منهم ما ذكر في هذا الحديث، إنما جرى من مسلِِمة الفتح، الذين لم يكن قد رسخ التوحيد في قلوبهم، ولم يعرفوا حق الله عز وجل في هذا الأمر، ولذلك اعتذر رضي الله عنه عما بدر من طلب مشابهة المشركين في التبرك بالشجر بقوله: ونحن حدثاء عهد بكفر، إذ إن هذا لا يحصل إلا ممن لم يعرف الإسلام حق معرفته، ولم يرسخ في قلبه الإيمان رسوخاً يقطع عنه علائق الشرك، ويطهره من لوثات الوثنية، قال في سياق الحديث: ((وللمشركين سدرة يعكفون عندها))، يعكفون: أي يلازمون، ويقيمون عندها، وذلك لطلب البركة منها، سواءٌ البركة بالنصر، أو البركة بغير ذلك، والظاهر أنهم يقصدون بها بركة النصر لقوله: ((وينوطون بها أسلحتهم))، أي: يعلقون أسلحتهم بهذه الشجرة، يطلبون منها أن تبارك في أسلحتهم، وأن تنصرهم على أعدائهم، وهذا شرك، وهل هو شرك أكبر أو أصغر ؟ يحتمل أن يكون شركاً أكبر، أو شركاً أصغر، فإن كان فعلهم هذا على أن الشجرة سبب لحصول النصر والقوة فهو شرك أصغر، وإن كان اعتقادهم أن الشجرة تفعل بذاتها، وتهب النصر وتهب البركة بذاتها فهو شرك أكبر، وكلاهما مذموم خطير، فالشرك الأكبر عظيم، والشرك الأصغر كذلك وإن كان دونه، لكنه يدخل في عموم قول الله جل وعلا: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ لأن الألف واللام داخلة على اسم جنس، فيشمل كل ما يكون شركاً، قال: ((يقال لها : ذات أنواط))، أي: تسمى بهذا الاسم ذات أنواط، يعني: صاحبة الأنواط، وذلك لكثرة ما يعلق بها طلباً للبركة، فقال لهم صلى الله عليه وسلم : (( قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ))([8])فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا، وشبه طلبهم بما جرى من بني إسرائيل مع موسى، حيث طلبوا منه أن يجعل لهم آلهة، كما للمشركين آلهةٌ من العجل الذي كانوا يعبدونه، فعاب عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا الطلب، ونهاهم عنه، وبين لهم أن هذا من اتباع سنن من كان قبلنا من الشرك، وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة ))([9])أي: كما أن ريشة السهم في أطرافه مقابل الريشة الأخرى من الجهة الأخرى، فكذلك أنتم وهم، فالقذة: هي ريشة السهم، فكما أن رياش السهم تتقابل وتتطابق، فكذلك هذه الأمة مع الأمم السابقة، فإن منهم من يطابق الأمم السابقة في ما وقعوا فيه من مخـالفات، وشـرك، لكن هذا ليس في جميعها، لقوله صلى الله عليه وسلم : (( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ))([10])جعلنا الله وإياكم منهم.