بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
(ويلحق بهذه القاعدة: القاعدة الثانية: العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب
وهذه القاعدة نافعة جداًّ، بمراعاتها يحصل للعبد خير كثير وعلم غزير، وبإهمالها وعدم ملاحظتها يفوته علم كثير، ويقعفيالغلط والارتباك.
وهذا الأصل اتفق عليه المحققون من أهل الأصول وغيرهم، فمتى راعيت هذه القاعدة حق الرعايةعرفت أن ما قاله المفسرون من أسبـاب النّزول إنما هوعلى سبيل المثـاللتوضيـح الألفاظ، و ليست معاني الألفاظ والآيات مقصورةًعليها.
فقولهم:نزلت في كذا وكذا، معناه:أن هذا مما يدخل فيها، ومن جملة ما يراد بها، فإن القرآن -كما تقدم-إنما نزل لهداية أول الأمة وآخرها- حيث تكون وأنى تكون-).
إنما أنزل القرآن لهداية أول الأمة وآخرها، ما فيه الزيادات التي عندك، وقد نبه شيخنا رحمه الله في شرحه وتعليقه على هذه الرسالة المباركة أنّ فيها زيادات من المحقق، ليست من الشيخ، زيادات واضح أنها من المحقق.
و هذه النسخة التي معي مقابلة على نسختين خطيتين، فعدلوا الذي عندكم، وننبه فقط على المهم وإلا بعض الأشياء تمشي.
وهي قاعدة من القواعد المشهورة عند أهل العلم في كل فن، وليست مما يختص بعلم التفسير، فهي عند أهل الفقه، وعند أهل الأصول، وعند كثير من أهل العلم؛ لكن تقريرها والتمثيل لها أكثره في كتب الأصول والقواعد.
معنى هذه القاعدة: أن النصوص التي وردت على أسباب خاصّة؛ أي آيات القرآن التي وردت على قضايا معنية، هل هذه الآيات لا تفيد الحكم إلا في تلك القضايا فقط؟ أم أنها تفيد الحكم في تلك القضايا وفيما شابهها ووافقها في المعنى؟
معنى هذه القاعدة المعنى الثاني: أن ما نزل من النصوص على أسباب خاصة لا يُقصر على ذلك السبب؛ بل يثبت الحكم المتضمن لذلك النص في غيره مما يشابهه ويلتحق به في المعنى.
فمثلاً قصة الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت، هل آيات الظهار خاصة في هذه المرأة أو في هذه القضية؟ أم أنها فيها وفيما يشبهها؟
الجواب الثاني: أنه فيها وفيما يشبهها.
وكذلك كل الآيات التي جاءت بلفظ عام بسبب قضية خاصة، فالحكم فيها لا يختص بتلك القضية بعينها؛ بل هو فيها قطعاً وفيما يشبهها عند جماهير أهل العلم، ولذلك ذكر المؤلف الشيخ عبدالرحمـٰن رحمه الله اتفاق المحققين من أهل الأصول على هذه القاعدة.
وقوله: (اتفق عليه المحققون) إشارة إلىٰ أن القاعدة فيها خلاف؛ ولكن اعلم أن الخلاف ليس كما يتوهمه البعض من أن بعض العلماء يقصر دلالة الآية على القضية المعينة فقط؛ ولا يلحق بها شيئاً، فإن هـٰذا ليس بصواب، ولم يقل به أحد من أهل الإسلام، بل يقول شيخ الإسلام: لا يقول به عاقل. إنما المراد قصره على تلك القضية وما شابهها في النوع.
ويتضح هـٰذا بالمثال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله إني أصبت من امرأة قبلة. فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أصليت معنا؟)). قال: نعم. فقال له بعد ذلك: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ﴾.([1])فقال الصحابي -صاحب القضية-: ألي خاصة؟ قال: ((بل للأمة عامة)).([2])هـٰذا دليل على هذه القاعدة، وحتى يتضح وجه الخلاف بين أهل العلم في هذه القاعدة، ما هناك أحد من أهل العلم يقول: إن هذه الآية تخص ذلك الرجل دون غيره، إنما منهم من يقول: إن هذه الآية تخص ذلك النوع من الذنوب، وهو ما يتعلق بتقبيل المرأة، أما غيرها من الذنوب فلا تدخل في عموم الآية؛ لأن الآية وردت على سبب خاص فيُقصر على السبب الخاص، لكن لا على الشخص إنما على النوع.
على كل حال هـٰذا محله كتب الأصول.
والمراد أن نبين أن العبرة في نصوص الكتاب لا في أفراد القضايا التي وردت النصوص عليها، إنما هو فيها وفيما يشبهها في المعنى، وهـٰذا لا إشكال أنه هو الراجح الذي دلت عليه السنة ودل عليه فعل الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وهو مقتضى أن الكتاب شامل، وتبيان لكل شيء، فلو لم يكن كذلك لما كان الكتاب تبياناً لكل شيء، لكان تبياناً لقضايا وأحداث معينة.
المهم أن هذه القاعدة معناها: أنه ينبغي لنا عند النظر في أسباب النزول، ألا نقصُر النصوص على تلك الأسباب فقط؛ بل نثبت المعاني -أو الأحكام أو الأوصاف أو ما تضمنته النصوص - لتلك الوقائع، ولما وافقها في المعنى، وبهذا ينفتح للإنسان باب عظيم من أبواب التفسير.
وكتابنا الذي سنقرؤه إن شاء الله تعالىٰ وهو كتاب تفسير الجلالين أغفل هذه القضية إغفالاً بيّناً فهو من الملاحظات الظاهرة على تفسير الجلالين أنه لا يعمل هـٰذا الأصل، ولعل السبب أنه يقصر التفسير؛ يعني يختصر اختصاراً كبيراً، حتى إنه في بعض الآيات لا يحملها إلا على من وردت فيه.
فمثلا في قوله تعالىٰ: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17)﴾([3])جعلها فقط في أبي بكر، قال: هذه في أبي بكر. ولم يشر إلىٰ أن الآية تشمل كل من اتصف بالوصف المذكور في الآية أو في السورة.
على كل، هذه من القواعد المهمة التي لا بد للناظر في كتاب الله عز وجل؛ بل في كلام الله وفي كلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يلاحظها وأن يراعيها حتى تتم فائدته.
وأما قول الشيخ رحمه الله: (عرفت أن ما قاله المفسرون من أسبـاب النزول إنما هوعلى سبيل المثـاللتوضيـح الألفاظ). هـٰذا يبين لنا فائدة ذكر أسباب النزول، أنها تعين على فهم كلام الله عز وجل، ما فيه شك إذا عرفت السبب الذي نزلت من أجله الآية أعانك ذلك على أي شيء؟ على فهم معناها والعمل بمقتضاها، قال: (وليست معاني الألفاظ و الآيات مقصورةًعليها) يعني ليس المراد قصر الآية على ذلك السبب دون غيره، (فقولهم:نزلت في كذا وكذا) قول من؟ قول أهل التفسير، وقول أهل العلم حتى من الصحابة ، (نزلت في كذا) يقول: ما معنى هذا؟ (معناه:أن هذا مما يدخل فيها)، هـٰذا أحد معاني هذه الكلمة.
والمعنى الآخر أنه سبب نزولها.
فقول أهل العلم: نزلت في كذا يحتمل أحد أمرين:
الأمر الأول: أن يكون هـٰذا هو سبب نزول الآية.
والأمر الثاني: بيان أن هـٰذا مما يدخل في معنى الآية أو مما تشمله دلالة الآية.
واضح الكلام يا إخواني أو لا؟
(والله تعالى قد أمرنا بالتفكر والتدبر لكتابه، فإذا تدبرنا الألفاظ العامة، وفهمنا أن معناها يتناول أشياء كثيرة، فلأي شيء نُخرج بعض هذه المعاني، مع إدخالناما هو مثلها ونظيرها فيها؟ ولهذا قال ابن مسعودرَضِيَ اللهُ عَنْهُ:إذا سمعت الله يقول:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فأرعها سمعك، فإنه إما خير تُؤمر به، وإما شر تُنهى عنه).
يعني هـٰذا كالدليل لما تقدم من أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، أن كثيراً من الآيات التي نزلت على قضايا خاصة معيّنة صُدِّر الخطاب فيها بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاس﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾وهـٰذا فيه نداء، والنداء إنما يكون لما فيه فائدة وعبرة، لا لمجرد القصر، ولذلك قال: (فأرعها سمعك) يعني فأنصت إليها واستمع إليها وأقبل عليها (فإنه إما خير تُؤمر به، وإما شر تُنهى عنه) نعم.
(فمتى مرّبك خبر عن الله، وعما يستحقه من الكمال، وما يتنزه عنه من النقص. فأثبت له جميع ذلك المعنى الكامل الذي أثبته سبحانه لنفسه،ونزّهه عن كل ما نزه نفسه عنه).
وهـٰذا أمر مهم، وهو من فروع هذه القاعدة: أن ما أثبته الله عز وجل لنفسه من الصفات أو من الأسماء أو من الأفعال يجب أن يثبت كما جاء، وأن يثبت كل ما دل عليه اللفظ من معنى، فليس سائغاً أن نقصر اللفظ على بعض معانيه؛ بل لا بد من إثبات جميع ما تضمنه المعنى لنكون عاملين بالكتاب معظمين له، متدبرين له حق التدبر، فقصر اللفظ أو قصر الآية أو النص على بعض المعاني التي دلت عليها هـٰذا من البخس.
وأضرب لذك مثلاً: قال الله جل وعلا في كتابه: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1)﴾([4]). هـٰذا فيه إثبات علو الله عز وجل، والعلو يحتمل أن يكون علو المكان، ويحتمل أن يكون علو المكانة والشرف، ويحتمل أن يكون علو القهر، أليس كذلك؟ كل هـٰذا مما يندرج ويدخل تحت قوله: ﴿الأَعْلَى﴾ تحت وصف الله عز وجل وتسميته بهذا الاسم.
أهل السنة والجماعة أعملوا هذه المعاني كلها وأثبتوها، ولم يؤولوا شيئاً منها:
فأثبتوا علو الله عز وجل على خلقه وأنه فوق كل شيء جل وعلا.
وأثبتوا علو القهر فهو القاهر فوق عباده.
وأثبتوا علو القدر في ذاته وأسمائه وصفاته.
فلا أعلى منه، كما قال جل وعلا: ﴿وله المثل الأعلى﴾أي له الصفة العليا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أما المحرفون من أهل التعطيل فقد أبوا إثبات علو المكان، فقالوا: ليس الله فوق العالم. واختلفوا في مكان ربهم:
منهم من يقول: إنه في كل مكان.
ومنهم من يقول: إنه لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا يسار ولا أمام ولا خلف، فوصفوه بالعدم.
إذاً أي الطريقين أفضل؟
طريق من أثبت ما تضمنه اللفظ من المعاني على وجه الكمال؟
أم طريق الذي قصر اللفظ على بعض معانيه؟
لا إشكال أن الأول هو الطريق السليم الذي دل عليه الكتاب والسنة.
واعلم أن العلو بذاته -أي هذه الصفة بعينها- قد دل عليها الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، فاجتمعت في الدلالة على إثبات هذه الصفة لرب العالمين كل أنواع الأدلة.
فينبغي للمؤمن أن يُحَاجّ أهل الكلام بمثل هذه القواعد التي تكون في يده كالسيف على المخالف، وأن لا يقتصر فقط على أن يقول: هذه عقيدة السلف دون أن يحاج وأن يبين أن عقيدة السلف ليست مجرد نُقولٍ جامدة، لا تدعمها الحجة والبرهان؛ بل هي حجة وبرهان، ويدل عليها لفظ الكتاب والسنة، ويدل عليها أيضاً المعنى المعقول.
وكان كثيراً ما يحثنا شيخنا ويندبنا إلىٰ المحاجة بدلالة العقل في كثير من المسائل؛ لأن الخصم قد لا يُسَلِّم لك بدلالة اللفظ؛ لكنك إذا أتيت له بحجة وبرهان هو يستند إليه ويعتمده ويحتج به ويَنتسب إليه وهو العقل خصمته، وإذا خصمته وأفسدت سلاحه فقد أُسْقِطَ في يديه.
و على هذه الطريق سِر فيما سيأتي ذكره.
(وكذلك إذا مر بك خبر عن رسله وكتبه واليوم الآخر، وعن جميع الأمور السابقة واللاحقة، جزمتجزماً لا شك فيه أنه حق على حقيقته، بل هو أعلى أنواع الحق والصدق، ومن أصدق من الله قيلاً وحديثاً.
وإذا أمر بشيء نظرت إلى معناه، وما يدخل فيه وما لا يدخل، وأن ذلك الأمر موجه إلى جميع الأمة، وكذلك في النهي.
ولهذا كانت معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله أصلَالخير والفلاح، والجهل بذلك أصل الشر والجفاء.
فمراعاة هذه القاعدة أكبر عون على معرفة حدود ما أنزل الله على رسولهوالقيام بها.والقرآن قد جمع أجل المعاني وأنفعها وأصدقها بأوضح الألفاظ وأحسنها، كما قال تعالى:﴿وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾([5])).
وهـٰذا من نعمة الله عز وجل أن جعل القرآن على أكمل لفظ وأتم معنى، فقد جمع أجل المعاني وأنفعها وأصدقها بأوضح الألفاظ وأحسنها، فاجتمع فيه الصدق، واجتمع فيه البيان والوضوح، و هذه من الأوصاف التي تجعل الإنسان يسلّم لهذا الخطاب؛ لأنه إذا كان الخطاب صادقاً عالماً فصيحاً ناصحاً، فلا أكمل منه في الهداية والإرشاد.
ف هذه الأوصاف الأربعة هي أوصاف كلام الله وكلام رسوله، ولما كانت هذه أوصافه كان في غاية الكمال، وكان من مقتضى الإيمان بالله ورسوله وتصديق أن هـٰذا هو وصف كلامه وكلام رسوله أن يسلم الإنسان لهذه النصوص، وأن يثبت مقتضاها ولازمها. نعم.
إذاً ملخص هذه أن القاعدة أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
والمقصود بالعبرة يعني الاعتبار والاتّعاظ والعمل بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ يعني لا بما ورد النص من أجله أو فيه.