قال المؤلف رحمه الله :"القاعدة الخامسة المقرر: أن المفرد المضاف يفيد العموم كما يفيد ذلك اسم الجمع".
الاسم المفرد ضد الجمع، وهو ما لا يدل إلا على واحد؛ ولكن قيده قال: (المفرد المضاف) يعني إلى غيره (يفيد العموم) يعني في السياق الذي ورد فيه، وسيأتي له أمثلة على ذلك.
(فكما أن قوله تعالى:﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾([1])إلى آخرها يشمل كل أم انتسبت إليها، وإن علت. وكل بنت انتسبت إليك وإن نزلت -إلى آخر المذكورات-فكذلك قوله تعالى:﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾([2])فإنها تشمل النعم الدينية والدنيوية).
النعمة اسم مفرد أو جمع ؟ مفرد، مضاف؟ الآن هو في هـٰذا السياق مضاف أو ليس مضافاً؟ مضاف إلىٰ ﴿رَبِّكَ﴾هل أفاد العموم؟ نعم، ولذلك:﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾قال المؤلف رحمه الله: (فإنها تشمل النعم الدينية والدنيوية). يعني كل نعمة ينعم الله بها عليك فهي صادقة أو مندرجة في هذه الآية، فتدخل في قوله:﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾فتحدث بنعمة الله عليك في دينك وبنعمة الله عليك في دنياك. نعم.
﴿أُمَّهَاتُكُمْ﴾اسم جمع فأفادت العموم، ألم يقل: (المفرد المضاف يفيد العموم) ثم نظّر هـٰذا باسم الجمع قال: (كما يفيد ذلك اسم الجمع)؟ فأعطانا أول مثال لاسم الجمع الذي قيس عليه، ثم رجع إلىٰ القاعدة المقصودة، وهي أن المفرد المضاف يفيد العموم، واضح؟
(وقوله:﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾([3])فإنها تعم الصلوات كلها، والأنساك كلها، وجميع ما العبد فيه وعليه في حياته ومماته، الجميع قد([4])أوقعته وأخلصته لله وحده، لا شريك له.
وقوله:﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾([5])على أحد القولين:إنه يشمل جميع مقاماته في مشاعر الحج:اتخذوه معبداً.
وأصْرَح من هذا قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً﴾،([6])وهذا شامل لكل ما هو عليه من التوحيد والإخلاص لله تعالى، والقيام بحق العبودية.
وأعم من ذلك وأشمل:قوله تعالىٰلما ذكر الأنبياء:﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾([7])فأمره الله أن يقتدي بجميع ما عليه المرسلون من الهدى،الذي هو العلوم النافعة والأخلاق الزاكية، والأعمال الصالحة، والهدى المستقيم.
وهذه الآية أحد الأدلة على الأصل المعروف:أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه.وشرع الأنبياء السابقين هو هداهم في أصول الدين وفروعه، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ﴾،([8])وهذا يعمّجميع ما شرعه لعباده، فعلاً وتركاً، اعتقاداً وانقياداً، وأضافه إلى نفسه في هذه الآية لكونه هو الذي نصبه لعباده، كما أضافه إلى الذين أنعم عليهم في قوله:﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾([9])لكونهم هم السالكين له. فصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيِّين والصديقين والشهداء والصالحين([10])من العلوم والأخلاق والأوصاف والأعمال.
وكذلك قوله:﴿وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾([11])يدخل في ذلك جميع العبادات الظاهرة والباطنة، والعبادات الاعتقادية والعملية).
هذا عطف بيان، من الصفة الكاشفة: العبادات الاعتقادية ترجع إلىٰ الباطنة، والعبادات العملية ترجع إلىٰ الظاهرة.
فالعبادات الباطنة هي ما يقوم بالقلب من الخوف والخشية والإنابة والتوكل وغير ذلك.
وأما العملية فهي الظاهرة وأصلها أركان الإسلام.
(كما أن وصف الله لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَبالعبودية المضافة إلى الله كقوله:﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾([12])وكقوله:﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾([13])وقوله:﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾([14])تدل على أنه وفَّىجميع مقامات العبودية، حيث نال أشرف المقامات بتوفيته لجميع مقامات العبودية، وقوله:﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾([15])فكلما كان العبد أقوم بحقوق العبودية كانت كفاية الله له أكمل وأتم، وما نقص منها نقَص من الكفاية بحسبه.
وقوله:﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾،([16])﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾([17])يشمل جميع أوامره القدرية الكونية. وهذا في القرآن شيء كثير).
هذه القاعدة الخامسة وهي قاعدة واضحة سهلة مفيدة، وقد ذكر المؤلف رحمه الله لها من الأمثلة ما يوضحها توضيحاً لا مزيد عليه.
القواعد التي مضت من القاعدة الثانية إلى القاعدة الخامسة هي قواعد أصولية من حيث الأصل، استعملها العلماء رحمهم الله في آيات الكتاب وفي أحاديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ يعني في النصوص.
وأما القاعدة السادسة وما بعدها من القواعد، فهي القسم الثاني مما تضمنه هـٰذا الكتاب وهي القواعد القرآنية، يعني القواعد التي تبين طريقة القرآن في معالجة بعض الأمور، فهي ليست قواعد أصولية كالسابقة، إنما هي قواعد قرآنية تبين منهج القرآن في معالجة بعض القضايا والأمور.