قال المؤلف رحمه الله :"القاعدة التاسعة: في طريقة القرآن في أمر المؤمنين وخطابهم بالأحكام الشرعية، قد أمر الله تعالىٰ بالدعاء إلى سبيله بالتي هي أحسن، أي بأقرب طريق موصل للمقصود، محصل للمطلوب).
أحسن تعريف بالتي هي أحسن ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾([1])التي هي أحسن، أحسن ما يعرف به هـٰذا أو يوصف به هـٰذا الطريق هو قوله: بأقرب طريق موصل إلىٰ المقصود محصل للمطلوب.
(ولا شك أن الطرق التي سلكها الله في خطاب عباده المؤمنين بالأحكام الشرعية هي أحسنها وأقربها.
فأكثر ما يدعوهم إلى الخير وينهاهم عن الشر بالوصف الذي منَّعليهم به وهو الإيمان، فيقول:يا أيها الذين آمنوا افعلوا كذا واتركوا كذا؛لأن في ذلك دعوة لهم من وجهين:)
يعني دعوة إلى أي شيء؟ دعوة إلىٰ فعل ما أمروا به وترك ما نهوا عنه، يعني دعوة إلىٰ الامتثال من وجهين، انتبه لهذين الوجهين.
(أحدهما من جهة الحث على القيام بلوازم الإيمان، وشروطه، ومكمِّلاته).
لأن المأمورات والمنهيات المصدّرة بهذا الخطاب:
إما أن تكون من لوازم الإيمان.
وإما أن تكون من شروطه.
وإما أن تكون من مكملاته.
فلوازمه هي واجباته، وشروطه هي الأمور التي لا يوجد الإيمان إلا بوجودها، ومكملاته هي ما يوجد الإيمان ولكنه يكون ناقصاً بنقص هذه الصفات المأمور بإيجادها أو المطلوب التخلص منها.
(فكأنه يقول:يا أيها الذين آمنوا قوموا بما يقتضيه إيمانكم من امتثال الأوامر واجتناب النواهي، والتخلق بكل خلق حميد والتجنب لكل خلق رذيل.
فإن الإيمان الحقيقي هكذا يقتضي، ولهذا أجمع السلف أن الإيمان يزيد وينقص، وأن جميع شرائع الدِّين الظاهرة والباطنة من الإيمان ولوازمه، كما دلت على هذا الأصل الأدلة الكثيرة، من الكتاب والسنة -وهذا أحدها-حيث يصدِّر الله أمر المؤمنين بقوله:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أو يعلق فعل ذلك على الإيمان، وأنه لا يتم الإيمان إلا بذلك المذكور).
طيّب نرجع إلىٰ الوجه، الوجه الأول ملخصه الإغراء والحث، تصدير الخطاب بالنداء بوصف الإيمان إنما هو لحث الموجه إليهم الخطاب علىٰ فعل المأمور وترك المنهي عنه، فإذا سمعت الله جل وعلا يقول: يا أيها الذين آمنوا افعلوا كذا أو لا تفعلوا كذا. كان ذلك حاثّاً لك إذا كنت ممن يحرص على الاتصاف بهذه الصفة، ومرغباً لك، ومغرياً لك أن تكون ممن اتصف بهذا الوصف.
فهـٰذا الوجه هو الوجه الأول، وهو الإغراء والحث.
أيضاً يتضمن هـٰذا وجهاً آخر؛ يعني هـٰذا الوجه الذي ذكره المؤلف يعود إلىٰ الإغراء أولاً.
وثانياً إلىٰ أن تصدير الخطاب بوصف الإيمان دليل على أن مضمون الخطاب من شروط الإيمان أو من واجباته أو مكمِّلاته؛ يعني أن المذكور من لوازم الإيمان، فإذا حرص الإنسان على تكميل صفات الإيمان فليأت بهذا الوصف.
الوجه الثالث الذي يندرج في كلام المؤلف هو أن ترك هذه الصفات المأمور بها أو فعل هذه الصفات المنهي عنها دليل على نقص إيمانه.
و هذه الأوجه كثيراً ما كان يكررها شيخنا رحمه الله في تفسيره عند كلامه على الآيات، وهي كلها مندرجة في الوجه الأول الذي ذكره المؤلف رحمه الله.
ما فائدة تصدير الخطاب بهذا الوصف ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾؟ ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى: الإغراء والحث على فعل ما أمروا به، أو ترك ما نهوا عنه.
الفائدة الثانية: أن المذكور من أمر أو نهي من لوازم الإيمان وواجباته.
الفائدة الثالثة: أن مخالفة الأمر الذي صُدِّر بوصف الإيمان، أو ارتكاب النهي الذي صدر بوصف الإيمان يدل على أي شيء؟ على نقص الإيمان. هذه فوائد توجيه الخطاب وتصديره بوصف الإيمان.
أما قول المؤلف رحمه الله: (هـٰذا أحدها) أي هـٰذا أحد الأدلة الدّالة على أن الأعمال مندرجة في مسمى الإيمان، وأنه لا يصح الإيمان ولا يكمل ولا يقر إلا بالأعمال.
و هذه مسألة مشهورة معروفة، تواتر فيها النقل عن الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وعن أئمة التابعين، وعن جمهور السلف: أن الإيمان لا بد فيه من قول وعمل، ولذلك نص أعلام السنة المشهورة في العقائد كلها أن الإيمان قول وعمل.
مقصودي بالعقائد كلها عقائد أهل السنة كلها أن الإيمان قول وعمل، وأن الأعمال مندرجة تحت مسمى الإيمان، فلا يمكن فصلها ولا يمكن إخراجها. نعم.
(والوجه الثاني أنهيدعوهم بقوله:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ افعلوا كذا، أو اتركوا كذا، أو يعلق ذلك بالإيمان، يدعوهم بمنته عليهم، بهذه المنة التي هي أجل المنن، أي:يا من مَنَّالله عليهم بالإيمان، قوموا بشكر هذه النعمة، بفعل كذا وترك كذا).
هـٰذا الوجه يعود إلىٰ المنة والإغراء، فكما دعاكم الله عز وجل بهذه المنة وأن جعلكم من المؤمنين، فاحرصوا على تكميل صفات أهله بفعل ما أمركم به، وبترك ما نهاكم عنه، نعم.
(فالوجه الأول:دعوة لهم أن يتمموا إيمانهم ويكملوه بالشرائع الظاهرة والباطنة.
والوجه الثاني:دعوة لهم إلى شكر نعمة الإيمان، ببيان تفصيل هذا الشكر، وهو الانقياد التام لأمره ونهيه.
وتارة يدعو المؤمنين إلى الخير وينهاهم عن الشر: بذكر آثار الخير، وعواقبه الحميدة العاجلة والآجلة، وبذكر آثار الشر، وعواقبه الوخيمة في الدنيا والآخرة.
وتارة يدعوهم إلى ذلك بذكر نعمه المتنوعة، وآلائهالجزيلة، وأن النعم تقتضي منهمالقيام بشكرها، وشكرها هو القيام بحقوق الإيمان.
وتارة يدعوهم إلى ذلك بالترغيب والترهيب، وبذكر ما أعد الله للمؤمنين الطائعين من الثواب، وما للعصاة من العقوبات.
وتارة يدعوهم إلى ذلك بذكر ما له من الأسماء الحسنى، وما له من الحق العظيم على عباده، وأن حقه عليهم أن يقوموا بعبوديته ظاهراً وباطناً، ويتعبدوا له وحده، ويدعوه بأسمائه الحسنى وصفاته المقدسة.
فالعبادات كلها تعظيم وتكبيرلله، وإجلال وإكرام، وتودد إليه، وتقرب منه).
فركن العبادة الأعظم المحبة والتعظيم، والمحبة إنما يُحب من كان متصفاً بالصفات الحسنى؛ بالصفات العليا، ومتسمياً بالأسماء الحسنى جل وعلا، فهو موصوف بالأسماء الحسنى والصفات العليا والأفعال الجميلة، ولذلك كانت عبادته لا تقوم إلا بمحبته، ولا تقوم المحبة إلا بتمام المعرفة بأسمائه وصفاته وأفعاله الجميلة سبحانه وتعالىٰ.
ولذلك يدعو الله عز وجل عباده المؤمنين بذكر أسمائه وصفاته، فإذا تبين للعبد عظمة الرب وما يتّصف به من صفات الكمال كان ذلك حاملاً له على عبادته وحسن طاعته جل وعلا.
وأما إذا كان العبد غافلاً عن الأسماء الحسنى والصفات العليا له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه يغفل عن عبادات كثيرة، وتصبح العبادات جافة لا أثر لها في قلبه، ولا ثمرة لها في سلوكه وخلقه.
ولذلك من المهم، من المهم لطالب العلم، أن يعتني بأسماء الله عز وجل وصفاته، وإذا علمنا هـٰذا فلا نستغرب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة))([2]). وليس الإحصاء هو الإحصاء اللفظي بأن يعدها: الله الرحمـٰن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، هـٰذا كل أحد يحسنه، إنما الإحصاء هو إحصاء لفظها ومعناها، وإحصاؤها في العمل؛ بأن يتعبد لله عز وجل بها، نعم عبادة الرحمـٰن تقوم على أمرين: محبة الله عز وجل غاية المحبة، وتعظيمه غاية التعظيم:
وعبادة الرحمـٰن غاية حبه*** مع ذل عابده هما قطبان
هكذا قال ابن القيم رحمه الله في بيان العبادة في نونيته: (وعبادة الرحمـٰن غاية حبه) يعني منتهى حبه ( مع ذل عابده هما قطبان) أي قطبان للعبادة، لا تقوم العبادة إلا بهما. نعم.
(وتارة يدعوهم إلى ذلك، لأجل أن يتخذوه وحده ولياًّ وملجأً، وملاذاً ومَعاذاً، ومفزعاً إليه في الأمور كلها، وإنابةً إليه في كل حال، ويخبرهم أن هذا هو أصل سعادة العبد وصلاحه وفلاحه، وأنه إن لم يدخل في ولاية الله وتوليه الخاص تولاه عدوه الذي يريد له الشر والشقاء، ويمنيه ويغره، حتى تفوته المنافع والمصالح، ويوقعه في المهالك.
وهذا كله مبسوط في القرآن بعبارات متنوعة.
وتارة يحثهم على ذلك ويحذرهم من التشبه بأهل الغفلة والإعراض، والأديان المُبَدَّلة؛ لئلا يلحقهم من اللوم ما لحق أولئك الأقوام. كقوله:﴿وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾،([3])﴿فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِين﴾،([4])﴿وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾،([5])﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾،([6])إلى غير ذلك من الآيات.
ولا شك أن المؤمن- إذا سمع الأمر والنهي، وتعقيب ذلك بنهي الله عزّ وجل، أو وتعقيب ذلك ببيان أن من خالف الأمر أو ارتكب ذلك النهي يكون من الموصوفين بهذه الصفات- أن ذلك يدعوه إلىٰ فعل ما أمر وترك ما نهي عنه؛ لأن الخسار مبغوض عند كل أحد، والظلم كذلك، وكذلك الغفلة.
فهـٰذا سبيل من السبل التي سلكها القرآن لتقرير الخطاب في أحكام الله عز وجل، وحمل الناس على فعلها، والذي ذكره المؤلف رحمه الله فيه كفاية، وإن كان رحمه الله لا يحرص على ذكر الأمثلة؛ لأنه لو أراد ذكر الأمثلة لطال المقام؛ لكنه اكتفى بإشارات يستطيع الإنسان أن يهتدي إليها من خلال مطالعته وقراءته في كلام الله عز وجل.