قال المؤلف رحمه الله :" القاعدة الحادية عشرة: مراعاة دلالة التضمن والمطابقة والالتزام، كما أنّ المفسر للقرآن يراعي ما دلّت عليه ألفاظه مطابقة، وما دخل في ضمنها، فعليه أن يراعي لوازم تلك المعاني، وما تستدعيه من المعاني التي لم يصرح([1]) اللفظ بذكرها" .
هذه القاعدة أيها الإخوان ذكرت دلالات الألفاظ:
اللفظ له ثلاث دلالات: دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام.
دلالة المطابقة: هي دلالة اللفظ على كامل معناه.
دلالة التضمن: هي دلالة اللفظ على بعض معناه.
دلالة الالتزام: هي دلالة اللفظ على ما يلزم منه.
(وهذه القاعدة: من أجل قواعد التفسير وأنفعها، وتستدعي قوة فكر، وحسن تدبر، وصحة قصد. فإن الذي أنزله([2]) هو العالم بكل شيء، الذي أحاط علمه بما تحتوي عليه القلوب، وبما تضمنه القرآن من المعاني، وما يتبعها ويتقدمها، وتتوقف هي عليه.
ولهذا أجمع العلماء على الاستدلال باللازم في كلام الله لهذا السبب) .
يقول الشيخ رحمه الله: (فإن الذي أنزله هو العالم بكل شيء، الذي أحاط علمه بما تحتوي عليه القلوب). وهـٰذا استدلال لصحة هذه القاعدة، وأنه يجب إثبات ما تضمّنه النص مطابقة وتضمناً والتزاماً، و هذه الدلالات الثلاث هي من الدلالات الوضعية للألفاظ، وتقدم الكلام على هذه الدلالات، وأن دلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على جميع مسماه أو على كل معناه، ودلالة التضمن هي دلالته على بعض معناه، ودلالة الالتزام دلالة اللفظ على أمر خارج لازم للنص. هذه أنواع الدلالات الثلاث.
فإذا جاء لفظٌ في كتاب الله أو في سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والكلام في التفسير- فإنه يثبت ذلك اللفظ بما تضمنه من دلالة المطابقة ودلالة التضمن ودلالة الالتزام، سيأتي لذلك أمثلة.
ولا يقول قائل: إنه يلزم على ذلك باطل، فهذا لا يكون بل هو محال، فإن لازم كلام الله عز وجل حق، ولا يمكن أن يلزم على ما جاء في الكتاب والسنة باطل، قال الله جل وعلا: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾([3]). فنفى الله جل وعلا أن يتطرق إلىٰ هـٰذا الكتاب باطل لا في لفظه ولا في معناه، فيجب إثبات ما دلت عليه الألفاظ مطابقة وتضمناً والتزاماً.
والوقوف على هذه الدلالات مما يتفاوت فيه الناس، لا سيما في دلالة الالتزام، فإن المطالعين والقارئين لكتاب الله عز وجل يختلفون في الاستنباط والفهم وما يلزم وما لا يلزم، وأما دلالة التضمن والمطابقة فهي قريبة الحصول لمن تمرّس في كتاب الله عز وجل والنظر في معانيه.
المهم أن قوله: (فإن الذي أنزله) هـٰذا كالدليل لهذه القاعدة.
ثم بعد أن ذكر الدليل ذكر إجماع أهل العلم على هذه القاعدة، قال: (ولهذا أجمع العلماء على الاستدلال باللازم في كلام الله لهذا السبب). يعني لأنه لا يلزم على كلام الله باطل، فالمشار إليه ما تقدم من أنه لا يمكن أن يتضمن كلام الله جل وعلا باطلاً، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم خبير قد أتقن كل شيء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد وصف كتابه بالحكيم، فهو محكم متقن في لفظه وفي معناه، فليتنبه إلىٰ هـٰذا.
(والطريق إلى سلوك هذا الأصل النافع: أن تفهم ما دل عليه اللفظ من المعاني، فإذا فهمتها فهماً جيداً، ففكِّر في الأمور التي تتوقف عليها، ولا تحصل بدونها، وما يشترط لها. وكذلك فكِّر فيما يترتب عليها، وما يتفرَّع عنها، وينبني عليها،ولا تزال تفكر في هذه الأمور([4]) حتى تصير لك ملكة جيدة في الغوص على المعاني الدقيقة. فإن القرآن حق، ولازم الحق حق، وما يتوقف على الحق حق، وما يتفرع عن الحق حق.([5])
فمن وفق لهذه الطريقة وأعطاه الله توفيقاً ونوراً، انفتحت له([6]) العلوم النافعة، والمعارف الجليلة، والأخلاق السامية، والآداب الكريمة العالية.
ولنمثل لهذا الأصل أمثلة توضحه:)
إذاً هـٰذا طريق إعمال هذه القاعدة، هـٰذا المقطع فيه بيان طريق إعمال هذه القاعدة، وانتبه إلىٰ قوله: (والطريق إلى سلوك هذا الأصل النافع: أن تفهم ما دل عليه اللفظ من المعاني). فمفتاح الانتفاع بالكتاب هو فهم معناه، فإذا حصل للإنسان فهم المعنى انفتح له الباب بعد ذلك، فكلما تأمّل وكلما أنعم النظر وكلما أطال الفكر في كلام الله عز وجل وفق وحصل له خير، فأول الدرجات وأول العتبات لحصول التدبر والانتفاع بالكتاب هو فهم معناه.
(منها في أسماء الله الحسنى: (الرحمـٰن الرحيم) فإنها تدل بلفظها على وصفه بالرحمة، وسعة رحمته.
فإذا فهمت أن الرحمة التي لا يشبهها رحمة أحد: هي وصفه الثابت، وأنه أوصل رحمته إلى كل مخلوق، ولم يخل أحد من رحمته طرفة عين، عرفت أن هذا الوصف يدل على كمال حياته، وكمال قدرته، وإحاطة علمه، ونفوذ مشيئته، وكمال حكمته؛ لتوقف الرحمة على ذلك كله، ثم استدللت بسعة رحمته على أن شرعه نور ورحمة. ولهذا يعلل الله تعالىٰ كثيراً من الأحكام الشرعية برحمته وإحسانه؛ لأنها من مقتضاها وأثرها.
ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾([7]). فإذا فهمت أن الله أمر بأداء الأمانات كلها إلى أهلها: استدللت بذلك على وجوب حفظ الأمانات، وعدم إضاعتها والتفريط والتعدي فيها، وأنه لا يتم الأداء لأهلها إلا بذلك.
فإذا فهمت أن الله أمر بالحكم بين الناس بالعدل، استدللت بذلك على أن كل حاكم بين الناس في الأمور الكبار والصغار، لابد أن يكون عالماً بما يحكم به: فإن كان حاكماً عامّاً، فلا بد أن يحصّل من العلم ما يؤهله إلى ذلك، وإن كان حاكماً ببعض الأمور الجزئية كالشقاق بين الزوجين- حيث أمر الله أن نبعث حكماً من أهله وحكماً من أهلها- فلا بد أن يكون عارفاً بهذه الأمور التي يريد أن يحكم بها، ويعرف الطريق التي توصله إليها.
وبهذا بعينه نستدل على وجوب طلب العلم، وأنه فرض عين في كل أمر يحتاجه العبد، فإن الله أمرنا بأوامر كثيرة ونهانا عن أمور كثيرة.
ومن المعلوم أن امتثال أمره واجتناب نهيه يتوقف على معرفة المأمور به والمنهي عنه وعلمه، فكيف يتصور أن يمتثل الجاهل الأمرَ الذي لا يعرفه، أو يتجنب النهي الذي لا يعرفه؟).
ذكر مثالين لهذه القاعدة، المثال الثاني فيه الأمر بأداء الأمانة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾([8]) ثم بين ما معنى الأمانة.
الظاهر من هذه الآية أن الله جل وعلا أمر عباده المؤمنين بأن يؤدوا ما اؤتُمنوا عليه إلىٰ أهله، الشيخ رحمه الله قال: هـٰذا الفهم هو أول مفتاح تحصيل ما بعد ذلك، ما الذي يلزم على وجوب أداء الأمانة إلى أهلها؟ وأداؤها يكون بحفظها وإيصالها إلىٰ مستحقها، لا يتحقق ذلك إلا بالعلم؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يؤدي الأمانة التي اؤتمن عليها إلا بالعلم، والأمانة ليست فقط هي الوديعة أو ما يستحفظ الإنسان عليه؛ بل هي أعم من ذلك: الأمانة العلمية، والأمانة الدينية، والأمانة المعنوية، والأمانة الحسية. فالأمانة أوسع من أن تكون أداء الودائع والمستحفظات إلىٰ أهلها؛ بل هي أوسع من ذلك، يندرج تحتها أداء الحقوق إلىٰ أهلها، إعطاء كل ذي حق حقه؛ ابتداءً بحق الله جل وعلا وهو إفراده بالعبادة، وبعد ذلك حقوق الناس على اختلاف درجاتها.
فاستدل الشيخ رحمه الله بهذه الآية على وجوب طلب العلم الخاص، وعلى وجوب طلب العلم العام:
طلب العلم الخاص هو ما يحتاجه الإنسان في القضية المعينة، فما كان العمل فيه متوقفاً على العلم، فهو من العلم العيني الذي يجب على الإنسان إدراكه. وكذلك استدل به على وجوب العلم العام؛ لكن وجوب العلم العام وجوب كفائي وليس وجوباً عينيّاً، يختلف الناس فيه على حسب قُدَرهم وطاقاتهم، وما آتاهم الله من إمكانات، كل هـٰذا مما يستفاد من هذه الآية، نعم.
(وكذلك أمره لعباده أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، يتوقف ذلك على العلم بالمعروف والمنكر؛ ليأمروا بهذا وينهَوْا عن هذا، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يحصل ترك المنهي عنه إلا به فهو واجب.
فالعلم بالإيمان والعمل الصالح متقدم على القيام به، والعلم بضد ذلك متقدم على تركه؛ لاستحالة ترك ما لا يعرفه العبد قصداً وتقرُّباً وتعبداً حتى يعرفه ويميزه عن غيره) .
ولذلك قال الله جل وعلا: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾([9]). والاستغفار عمل، فلم يكن العمل إلا بعد العلم، فلا بد أن تحيط بالشيء علماً ثم بعد ذلك تتبعه بالعمل، والعمل بلا علم كالسعي بلا هادٍ يدل الطريق، فالواجب على الإنسان أن يحرص على العلم، وبقدر ما يأخذ من العلم بقدر ما يكون معه من الخير، نعم.
(ومن ذلك الأمر بالجهاد، والحث عليه، من لازم ذلك الأمر بكل ما لا يتم الجهاد إلا به، من تعلّم الرمي بكل ما يرمى به، والركوب لكل ما يُركب، وعمل آلاته وصناعاته، مع أن ذلك كلَّه داخل دخولَ مطابقة في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾([10]) فإنها تتناول كلَّ قوة عقلية وبدنية، وسياسية([11]) ونحوها) .
دلالة الآية على ما ذكر دلالة مطابقة؛ تشمل جميع ما يستعان به في مجابهة العدو وقتاله، من القوى الحسية والقوى المعنوية، ودلالته على بعض هذه الأمور يعني دلالة قوله تعالىٰ: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾([12]) على الإعداد العقلي من أي أنواع الدلالات؟ دلالة التضمن.
(ومن ذلك أن الله استشهد بأهل العلم على توحيده، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته. وهذا يدل على عدالتهم، وأنهم حجة من الله تعالى على من كذب بمنزلة آياته وأدلته.
و من ذلك سؤال عباد الرحمـٰن ربهم أن يجعلهم للمتقين إماماً، يقتضي سؤالهم اللهَ جميع ما تتم الإمامة في الدين به، من علوم ومعارف جليلة، وأعمال صالحة، وأخلاق فاضلة؛ لأن سؤال العبد لربه شيئاً سؤالٌ له ولما لا يتم إلا به، كما إذا سأل العبد اللهَ الجنة، واستعاذ به من النار، فإنه يقتضي سؤاله كل ما يقرب إلى هذه و يبعِّد من هذه.
ومن ذلك: أن الله أمر بالصلاح والإصلاح، وأثنى على المصلحين، وأخبر أنه لا يُصلح عمل المفسدين، فيُسْتدل بذلك على أن كل أمر فيه صلاح للعباد في أمر دينهم ودنياهم، وكلَّ أمر يعين على ذلك فإنه داخل في أمر الله وترغيبه، وأن كل فساد وضرر وشر، فإنه داخل في نهيه والتحذير عنه، وأنه يجب تحصيل كل ما يعود إلى الصلاح والإصلاح، بحسب استطاعة العبد، كما قال شعيب عليه السـلام: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْـلاحَ مَا اسْتَطَعْـتُ﴾([13]).
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾([14]) وقوله: ﴿حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾([15]) يقتضي الأمر بكل ما لا تتم البشارة إلا به، والأمر بكل ما فيه حث وتحريض([16]) وما يتوقف على ذلك ويتبعه من الاستعداد والتمرن على أسباب الشجاعة، والسعي في القوة المعنوية من التآلف واجتماع الكلمة ونحو ذلك.
ومن ذلك الأمر بتبليغ الأحكام الشرعية، والتذكير بها، وتعليمها، فإن كل أمر يحصل به التبليغ وإيصال الأحكام إلى المكلفين يدخل في ذلك، حتى إنه يدخل فيه إذا ثبتت الأحكام الشرعيـة، وَوُجدت أسبابها، وكانت تخفى عادة على أكثر الناس، كثبوت الصيام والفطر والحج وغيره بالأهلة إبلاغها بالأصوات والرّمي، وإبلاغها بما هو أبلغ من ذلك، كالبرقيات ونحوها.
وكذلك يدخل فيه كل ما أعان على إيصال الصوت إلى السامعين، من الآلات الحادثة).
فإذا أفاد الناس على معرفة دخول شهر رمضان بالرمي: إما بالبندقيات أو بالمدافع؛ هل يكون هـٰذا علامة على دخول الشهر؟ نعم يثبت به الشهر، وكذلك البرقيات وغيرها من وسائل التبليغ، كل هـٰذا يدخل فيما أمر الله به؛ لأنه من تبليغ الشرع.
وبهذا نفهم أو نعرف أن الإنسان كلما تعمق في معرفة كلام الله عز وجل ومعرفة كلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدرك من الأدلة على المستجدات والمستحدثات في العصور المتأخرة ما لا يدركه غيره.
ولذلك أول ما ظهرت هذه الأمور التي استعملت في التبليغ عن رمضان وشبهه مما يحتاج الناس التبليغ عنه استنكرها بعض الناس وجعلها من البدع؛ وذلك لغياب هـٰذا الفهم عنهم؛ وهو أن وسائل تحقيق المطلوب هي من المطلوب، فالأمر بالتبليغ أمر بكل ما يحصل به التبليغ، ولذلك كان في فترة مضت الميكروفونات هذه مستنكرة، ولا يستعملها إلا القليل من الناس؛ ولكن الشيخ عبدالرحمـٰن رحمه الله من أوائل من استعمل هذه الأجهزة؛ ولذلك ذكرها في كتابه حتى يتبين الأمر لمن يخفى عليه في ذلك الوقت.
أما الآن فالحمد لله الناس تبين لهم.
ولكن ينبغي لطالب العلم أن يفهم مأْخذ ذلك من الأدلة، حتى لا يورد عليه مورد: كيف تقول: هـٰذا بدعة وهـٰذا ليس ببدعة؟ فنميز بين ما يتحقق به المقصود من الوسائل، وبين ما يحدث من الأمور التي وجدت أسبابها وانتفت موانعها في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يتخذها، فإن ذلك هو البدعة.
(وكذلك يدخل فيه كل ما أعان على إيصال الأصوات إلى السّامعين من الآلات الحادثة، فحدوثها لا يقتضي منعها، فكل أمر ينفع الناس فإن القرآن لا يمنعه؛ بل يدل عليه لمن أحسن الاستدلال والانتفاع به.
وهذا من آيات القرآن وأكبر براهينه: أنه لا يمكن أن يحدث علم صحيح ينقض شيئاً منه، فإنه يرد بما تشهد به العقول جملة أوتفصيلاً) .
والحمد لله هـٰذا من فضل الله أن القرآن يدل على كل واقعة وحادثة: إما على وجه الإجمال أو على وجه التفصيل، وانتبه إلىٰ قوله: (جملةً) فإن بعض الأشياء يدل عليها الكتاب وتدل عليها السنة دلالة إجمالية، وأما التفصيل فلا يمكن أن يأتي به كتاب الله عز وجل في كل حادثة وفي كل نازلة؛ لأن الأمور تختلف باختلاف البلدان واختلاف الأزمان واختلاف الأماكن واختلاف الناس واختلاف العادات؛ ولذلك من حكمة رب العالمين أن جعل الكتاب تبياناً لكل شيء؛ وذلك بما احتواه من القواعد والضوابط والمقاصد الكلية العامة التي يندرج تحتها ما لا يحصر من الأفراد والجزئيات.
(ويرد بما لا تهتدي إليه العقول.
وأما وروده بما تحيله العقول الصحيحة وتمنعه فهذا محال، والحس والتجربة شاهدان بذلك، فإنه مهما توسعت الاختراعات وعظمت الصناعات، وتوسعت([17]) المعارف الطبيعية، وظهر للناس في هذه الأوقات ما كانوا يجهلونه قبل ذلك، فإنّ القرآن ولله الحمد لا يخبر بإحالته، بل نجد بعض الآيات فيها إجمال أو إشارة تدل عليه.
وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في غير هذا الموضع. والله أعلم وأحكم وبالله التوفيق) .
هذه القاعدة واضحة وملخصها أن المطالع لكتاب الله ينبغي له أن يراعي هذه الدلالات بأنواعها: دلالة المطابقة، ودلالة الالتزام، ودلالة التضمن، وأن لا يهملها حتى ينتفع بهذا الكتاب، والأمثلة التي ذكرها الشيخ رحمه الله واضحة في تحقيق المقصود.