المقدم:بسم الله الرحمن الرحيم، مستمعينا الكرام في كل مكان السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نحييكم تحيةً طيبةً مباركة عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة لبرنامج "الدين والحياة"، والذي نستمر معكم فيه على مدى ساعة إلا قليلاً -بمشيئة الله تعالى-، في بداية هذه الحلقة تقبلوا تحياتي محدثكم "وائل الصبحي"، ومن الإخراج وتنفيذه على الهواء الزميل "عبد الرحمن الأحمدي".
أهلاً وسهلاً ومرحبًا بكم.
مستمعينا الكرام، بمشيئة الله تعالى سيكون ضيفنا في هذه الحلقة وضيف البرنامج الدائم فضيلة الشيخ الدكتور "خالد المصلح" أستاذ الفقه في "جامعة القصيم" وعضو "لجنة الإفتاء بمنطقة القصيم"، فضيلة الشيخ خالد، أهلاً وسهلاً، وحياك الله معنا في هذه الحلقة.
الشيخ خالد: حياكم الله ومرحبًا بكم، وأسأل الله أن يجعله لقاءً نافعًا مباركًا.
المقدم: اللهم آمين، مستمعينا الكرام، نذكركم بأرقام التواصل لمن أراد المشاركة معنا في هذه الحلقة على هاتفي البرنامج على الرقمين 0126477117 أو عن طريق الهاتف الآخر على الرقم 0126493028، أيضًا يمكنكم أن تشاركونا نصيًا عبر تطبيق الواتس أب على الرقم 0500422121.
فضيلة الشيخ خالد، بمشيئة الله تعالى سيكون حديثنا في هذه الحلقة عن المبادرة إلى الحج، المبادرة إلى هذه الفريضة العظيمة والشعيرة العظيمة من شعائر الله، يعني نقترب من انتصاف شهر ذي القعدة، ويأتي حديثنا هنا للتذكير ولحث الناس أيضًا على المبادرة إلى هذه الشعيرة والفريضة العظيمة التي فرضها الله تبارك وتعالى على عباده المسلمين.
أبدأ الحديث مع فضيلة الشيخ حول فريضة الحج، هذا الركن الخامس من أركان الإسلام، شيخ خالد.
الشيخ: مرحبًا، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على البشير النذير والسراج المنير نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
لا ريب أيها الإخوة والأخوات أن الحج من الفرائض والشرائع العظيمة التي خص الله تعالى بها أهل الطاعة والإحسان من المستطيعين من عباده، الله -عز وجل- شرع لنا أكمل الدين وأرضاه كما قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ المائدة:3، هذا الدين العظيم، هذا الشرع القويم شبهه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالبناء وبين قواعده التي يقوم عليها ويبنى عليها.
قال صلى الله عليه وسلم في تمثيلٍ حسي لأمرٍ معنوي «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» فشبه الإسلام بالبناء، وذكر لهذا البناء قواعد وأركانًا يقوم عليها، وهي هذه الخمس التي تضمنها حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، يقول صلى الله عليه وسلم في بناء هذه الدعائم وتلك الأركان التي يبنى عليها دين الإسلام قال: «شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ»صحيح البخاري (8)، ومسلم (16) هذا هو الركن الأول الذي يبنى عليه الدين، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فهذه الشهادة متضمنة لأصلين عظيمين عليهما كل شرائع الإسلام وجميع فرائضه، وهما ألا نعبد إلا الله وحده لا شريك له، وألا نعبده إلا بما شرع.
فشهادة أن لا إله إلا الله تقتضي أنه لا تصلح العبادة إلا لله وحده لا شريك له، وشهادة أن محمدًا رسول الله تقتضي ألا يعبد الله -عز وجل- إلا بما شرعه، وما جاء به نبيه صلى الله عليه وسلم كما قال صلى الله عليه وسلم «مَن أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هذا ما ليسَ فِيهِ، فَهو رَدٌّ»صحيح البخاري (2697)، ومسلم (1718).
ثم بعد هذا الأصل الأول الذي يبنى عليه الإسلام ذكر جملة من الأركان الأخرى التي يقوم عليها هذا البناء وهي أصول في العبادات أولها هو: «وَإِقَامِ الصَّلَاةِ»، ثم قال: «وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ»، ثم قال: «وحَجِّ البَيْت»، وهذا هو الركن الرابع يعد في هذا الحديث، «وَصَوْمِ رَمَضَانَ» وهذا هو الركن الخامس.
هذا حديث عظيم وهو أحد قواعد الإسلام وجوامع الكلم التي جمعت الأحكام، ففيه تعريف الدين في تصويرٍ يسير حيث صوَّره النبي صلى الله عليه وسلم بالبنيان، وبين الدعائم التي يقوم عليها هذا البنيان، فلا يثبت البنيان بدون أركانه، ولا يقوم بناء من دون قواعده ودعائمه، وبقية ما يكون في البناء إنما هو تكميل وتتمة لهذا البنيان، فإذا فُقد ركنٌ من هذه الأركان اختلَّ البناء ولم يقم.
وأما نقص بعض مكملاته لا ينتقض به البناء، وإن كان قد يتشوَّه أو يصيبه ما يصيبه، هذه الأركان الخمسة هي التي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إليها وأمرهم بها، ومنها حج بيت الله الحرام، وهذا الركن العظيم دعا إليه إبراهيم -عليه السلام- في سالف الزمان وسابق العصر، بل قال الله -جل وعلا-: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ﴾ الحج:26-27 وكأن السياق يشير إلى أن التطهير الذي أُمر به إبراهيم -عليه السلام- كان لأجل تحقيق هذا المنسك العظيم وهو مجيء الناس طاعةً لله -عز وجل- من كل فج عميق إلى هذه البقعة تعظيمًا لله وطاعةً لله وتعظيمًا لما عظمه -سبحانه وبحمده-.
فالناس لا يأتون إلى هذه البقعة المباركة لأجل شيءٍ من أمور الدنيا، ولا لأجل طلب مصلحة من مصالحها، إنما يأتون طاعة لله في أصل المجيء وفي مكانه؛ لأنه ليس ثمة في الدنيا مكان أمر الناس بقصده على وجه العموم إلا هذه البقعة، ولذلك يقول الله تعالى في بيان النداء الأول: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾ أي بقصد البيت الحرام ﴿يَأْتُوكَ رِجَالًا﴾ أي يأتوك سائرين على أرجلهم، ﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ أي وعلى كل مركوب مما يركبه الناس، ﴿مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ فتكون إجابة ليست من جهة ولا من مكان، بل من كل الجهات والأماكن.
وهذا ما وقع فإن إبراهيم -عليه السلام- نادى في الناس، وحجَّ البيت من حجَّ على مر العصور حتى جاء سيد الورى وإمام المرسلين صلى الله عليه وسلم فجدد الدعوة إلى قصد هذه الدعوة المباركة فقال: «يا أيها الناس حُجُّوا قبل أن لا تَستطيعوا أن تَحُجُّوا»الدارقطني في السنن (2795)، والبيهقي في الكبرى (8702) من حديث أبي هريرة، وقال الألباني: موضوع كما في بعض الأحاديث، وفي حديث أبي هريرة قال: «يا أيها الناس قد فَرَضَ الله عليكم الحج فَحُجُّوا» فقال رجلٌ: أكلَّ عام يا رسول الله؟ كرر السؤال ثلاثًا والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت، وفي الثالثة قال: «لو قلتُ نعم لوَجَبَتْ ولَمَا استطعتم»صحيح مسلم (1337).
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى حج البيت، وكان صلى الله عليه وسلم قد تأخر حجه؛ لأن آيات فرض الحج في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾آل عمران:97 إنما نزلت في السنة التاسعة في سورة آل عمران، ففي تلك السنة حجَّ المسلمون مع أبي بكر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم تهيئةً لحجِّ النبي صلى الله عليه وسلم في العام القادم حيث نادى في الحج:«ألا يَحُجَّ بعد العام مُشرِك، وألا يطوفَ بالبيت عُريان»[صحيح البخاري:ح369]، فبلغ الناس أنه لا سبيل لغير أهل التوحيد إلى هذه البقعة المباركة، وهذا العمل الصالح، فلا يحج إلا مسلم، والثاني أنه لا يحج على طريقة الجاهلية، بل لا يحج الناس إلا على وفق ما شرع الله -عز وجل- وبين.
فنادى في السنة العاشرة، نودي في الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم سيَحُجُّ، فقصد المدينة خلقٌ كثير كلهم يريد أن يحج مع النبي صلى الله عليه وسلم ويأتَمَّ به، ويعمل كعمله صلى الله عليه وسلم، وكانت الإجابة في تلك السنة حجة الوداع إجابة مختلفة عن سائر الحجج السابقة، ولا أعرف في التاريخ وصفًا لحَجَّة من جهة دِقَّة تفاصيلها، ومن جهة كثرة شهودها وحضورها كالحجة التي حجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد حجَّ ومعه أكثر من مائة ألف، وهذا عدد في ذلك الزمان عندما كان الناس يستعملون المراكب البدائية، من الإبل والخيل والحمير والسير على الأرجل يعتبر من الغرائب، فجمع الله له -صلى الله عليه وسلم- هذا الخلق العظيم حجوا معه صلى الله عليه وسلم، وبين للناس في هذا المسير مناسكَهم، وكان حريصًا -صلوات الله وسلامه عليه- أن يتلقى الناس عنه الحج بكل تفاصيله التي تبين الأعمال وتوضحها، فكان يقول صلى الله عليه وسلم «خذوا عني مَنَاسِكَكم؛ لعلي لا أَلْقَاكم بعد عامي هذا»صحيح مسلم (1297)، يؤكد في المواقف أنه صلى الله عليه وسلم يبين للناس كيف يحقِّقون النسك الذي أُمروا به على الوجه الذي يرضى الله تعالى به، فكان يقف وكان بارزًا، لم يكن مختفيًا، كان في كل أحواله ظاهرًا للناس حتى يتلقون عنه صلى الله عليه وسلم.
وقد بين أن الحج الذي فرضه الله تعالى على أهل الإسلام ركن في أحاديث عديدة، ركن من أركان الإسلام، فهو يذكر مع الصلاة والزكاة والصوم، فهي من الأركان العملية، وهو عبادة يجتمع فيها البدن والمال، فهي تتعلق بالبدن وتتعلق بالمال، وقد رتب الله تعالى على الحج أجورًا عظيمة وفضائل كبيرة وثوابًا جزيل، إلا أنه ينبغي أن يُعلم أن الله برحمته عندما فرض الحج على الناس لم يفرضه إلا مرةً واحدة في العمر وما زاد فتطوع.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أيها الناس قد فَرَض الله عليكم الحج فحُجُّوا»، فلما سئل أكل عام قال: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم»[تقدم]، وفي حديث عبد الله بن عباس في مسند الإمام أحمد بإسنادٍ جيد قال: «الحجُّ مرةً فمن زاد فهو تَطَوُّعٌ»مسند أحمد (2304) وقال محققو المسند: حديث صحيح.
الحج مرة أي في العمر، فمن زاد على هذه المرة فهو تطوع، والله يحب المحسنين.
وبعد هذا البيان ثمة نقاط تتعلق بالحج نحتاج إلى الوقوف عندها؛ لنستجلي هذه الشعيرة العظيمة من شعائر الإسلام، وهذا الركن العظيم من أركانه ليتبين لنا بعض ما يتعلق به من النصوص الشرعية والأحكام.
المقدم: فضيلة الشيخ قبل أن نبدأ بهذه النقاط وبما يتعلق بالأحكام والنصوص الشرعية المترتبة على هذه الفريضة العظيمة نريد أن نتحدث عن نقطة مهمة، وهي حقيقةً تهم كثيرًا من الناس، وهي التكاسل الذي قد يحدث من بعض الناس عن أداء هذه الفريضة العظيمة التي فرضها الله -عز وجل-.
ذكرتم قبل قليل أن الحج فُرض على كثير من الأمم السابقة، وفرض على أمة الإسلام أيضًا، لماذا قد يتكاسل كثير من الناس عن أداء هذه الفريضة العظيمة وهم قادرون يستطيعون بدنًا، ويستطيعون أيضًا مالاً؟ قادروين على الحج لكنهم يسوِّفون ويتكاسلون؟ لماذا هذا يا شيخ خالد؟
الشيخ خالد: هذا قبل أن نجيب على لماذا هذا التخلُّف من بعض الناس، نحتاج إلى وقفة أن الحج فرضه الله مرة باتفاق أهل العلم، وأنه لا يجب إلا على المستطيع، ومعنى هذا أن للحج شروطًا في وجوبه هي: الإسلام، والعقل، والبلوغ، وهذه الشروط الثلاثة في كل العبادات إضافةً إلى شرطين هما الحرية في قول جمهور العلماء، والاستطاعة بالإجماع، والاستطاعة هي القدرة على الوصول إلى مكة، وفعل المناسك والرجوع إلى البلد، القدرة بالبدن والقدرة بالمال.
وقد أشار الله تعالى إلى شرط الاستطاعة فقال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾آل عمران:97، وهذا من رحمة الله -عز وجل-، وسبب ذكر الاستطاعة في الحج مع أنها شرط في كل العبادات، يعني كل العبادات منوطة بالاستطاعة لقول الله -عز وجل-: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ التغابن:16، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم «ما أَمَرتُكم به من أمرٍ فأْتُوا منه ما استطعتم»صحيح البخاري (7288)، ومسلم (1337) لكن ذُكر هذا في الحج على وجه الخصوص؛ لأن الحج يتميز بأنه عبادة ذات كُلْفَة، ففيها من العناء والمشقة وتكبُّد الأسفار ما يستدعي التحقق من وجود هذا الوصف الذي تجب به هذه الفريضة.
ولهذا في الحديث الآخر حديث ابن عمر في سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام قال: «أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان»، ثم قال: «وتحجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً»صحيح مسلم (8)، فلكون الحج فيه ما فيه من المشقة والكلفة الزائدة على سائر العبادات كان الحج قد نصَّ الله تعالى، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في فرضه على شرط الاستطاعة، فالحج أحد الجهادين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «هو جهادٌ لا قِتَال فيه»سنن ابن ماجه (2901)، وقال الألباني: صحيح، وقد قال عمر -رضي الله تعالى عنه-: «شُدُّوا الرحال إلى الحجِّ؛ فهو أحد الجهادين»صحيح البخاري (1516).
كون بعض الناس يكون عنده قدرة ويتخلف هنا في الحقيقة يأتي الجواب على السؤال الذي طرحته لماذا هذا التخلف؟ أنا أقول التخلف بالتأكيد هو معصية مع القدرة؛ لأن القدرة على الحج مع وجود بقية الشروط توجبه على الفور في قول جماهير العلماء، ومعنى أنه على الفور أنه يجب المبادرة إليه عند الاستطاعة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «يا أيها الناس حُجُّوا قبل أن لا تستطيعوا أن تحجوا»سبق وأكد هذا المعنى عمر بن الخطاب، وكذلك علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- لما وَلِيا أمر المسلمين، فكانا يؤكدان على المبادرة إلى الحج، وأن المستطيع إذا تخلف فإنه يخشى عليه أن يموت على غير الإسلام.
وهذا يبين أنه من اكتملت فيه شروط الوجوب بأن كان مستطيعًا فإنه يجب عليه أن يبادر إلى الحج الذي به تكمل هذه العبادة، ويكمل بناء الإسلام الذي به نجاة الإنسان في الدنيا والآخرة.
ولذلك أقول لإخواني وأخواتي يعني: التسويف هو في الحقيقة مما يدخل به الشيطان على الإنسان ويؤخره عن صالح الأعمال، والله تعالى أمرنا بالمسابقة والمسارعة إليه، والنبي أمر بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة عمومًا، وأمر بالمبادرة إلى الحج على وجه الخصوص بقوله «حجوا قبل أن لا تستطيعوا أن تحجوا» فإن الإنسان يعرض له من الأعراض ما يمنعه من أن يأتي إلى هذه العبادة التي هي فرضٌ وركنٌ من أركان الإسلام.
وتجد بعض الناس عنده يعني سعة في المال، وقوة في البدن، وقدرة على الوصول إلى الحج ومع هذا يسوِّف، في حين أنه لم يترك بقعة في العالم إلا طافها، وقد يستدين بعض الناس حتى يذهب إلى هذه الأماكن وفي حين أن قدرته على الحج قائمة وأموره ميسرة، ثم يؤجل سنةً تلو سنة، وهذا من الحرمان.
يا أخي الكريم من أسباب هذا التأخير عدم إدراك فضيلة هذا العمل المبارك، يعني رحلة لا تتجاوز ستة أيام يدرك فيها الإنسان فضلاً عظيمًا يدرك « منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ»صحيح البخاري (1521)، ومسلم (1350) فرحلة تُحط بها الخطايا وتُغفر بها السيئات وتكفر بها الذنوب، جليلة القدر ينبغي أن يحرص عليها المؤمن وألا يفرط فيها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
والثاني قوله صلى الله عليه وسلم «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ»صحيح البخاري (1773)، ومسلم (1349)، فهذه الرحلة المختصرة في أيامها عاقبتها إذا كان الحج مبرورًا أن يدرك الإنسان هذه الفضيلة العظيمة، والناس يأتون من أقاصي الدنيا ويبذلون مُهَجَ أنفسهم لإدراك الحج ويجمعون المال في سنوات عديدة ليتمكنوا من المجيء، وبعض الناس قريب وعنده قدرة، ومع ذلك يسوِّف، أسأل الله الهداية، وألا يحرمنا الأجر.
المقدم: وقد يكون من سكان مكة يا شيخ خالد.
الشيخ خالد: بعضهم، هذا من أعظم الحرمان أن يكون بجوار البيت الحرام ثم لا يقوم بهذا الفرض الذي هو ركن من أركان الإسلام، «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ»سبق، فأنت إذا تركت هذا الركن فبُنْيانُك مثل العمارة أو الغرفة التي فيها أربعة أركان أو خمسة أركان أحد أركانها لم يتم، هي عرضة للانهدام والتلف ولا يمكن الانتفاع بها وهي على هذه الحال.
فينبغي للمؤمن أن يبادر ويجتهد، ويحتسب الأجر عند الله، ويستحضر هذه الفضائل التي يدركها في هذه الرحلة المباركة.
المقدم: جميل، اسمح لي فضيلة الشيخ أن نذهب إلى فاصل أول في هذه الحلقة، بعد الفاصل -بمشيئة الله تعالى- سنكمل الحديث عن هذا الأثر الذي يجده المسلم -بمشيئة الله تعالى- بعد أن يؤدي هذه الفريضة العظيمة، وذكرنا بعض النصوص الشرعية، لكن سنتحدث باستفاضة أكثر بعد الفاصل، وأيضًا سنتحدث عن بعض المسائل المتعلقة بالحج، مستمعينا الكرام سنذهب إلى فاصل أول في هذه الحلقة بعده نكمل الحديث ابقوا معنا.
أهلاً وسهلاً بكم مستمعينا الكرام مجددًا في هذه الحلقة المباشرة من برنامج "الدين والحياة" عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة لمن أراد المشاركة معنا حول موضوعنا لهذه الحلقة عن المبادرة إلى الحج يمكنكم أن تشاركونا عبر هاتفي البرنامج على الرقمين 0126477117 أو عن طريق الهاتف الآخر على الرقم 0126493028 أيضًا يمكنكم أن تشاركونا بكتابة رسالة نصية عبر تطبيق الواتس أب على الرقم 0500422121، ضيفنا في هذه الحلقة هو ضيف البرنامج الدائم فضيلة الشيخ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه في جامعة القصيم وعضو لجنة الإفتاء بمنطقة القصيم، فضيلة الشيخ خالد أهلاً وسهلاً، حياك الله مجددًا.
الشيخ خالد: الله يحييك، مرحبًا بك أخي، وأهلاً وسهلاً بالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
المقدم: حياك الله، فضيلة الشيخ خالد كنا نتحدث عن المبادرة إلى الحج وتحدثنا عن هذه الفريضة والشعيرة العظيمة التي فرضها الله تبارك وتعالى على أمة الإسلام، وتحدثنا أيضًا عن شروط الحج، وتحدثنا أيضًا عمن تكاسل عن أداء هذه الفريضة العظيمة، نريد أن نتحدث فضيلة الشيخ عن أثر الحج في مغفرة الذنوب، الجائزة العظيمة التي يحوزها هذا الحاج عندما يحج إلى بيت الله -عز وجل-، في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ»سبق نريد أن نتحدث عن هذا الأثر الذي قد يجده الحاج بعد أن يُتِمَّ هذه الفريضة العظيمة.
الشيخ خالد: لا شك أن الحج جائزته كبرى وفضله عظيم، وفضله في حديثين الأول: حط الذنوب والخطايا والسيئات، والثاني الفوز بالجنة، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبلغني وإياكم الفردوس الأعلى، وأن يحط عنا كل خطيئةٍ وسيئة.
المقدم: اللهم آمين.
الشيخ خالد: الحط للخطايا والسيئات دليله هذا الحديث الشريف الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ»سبق فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من حج وحقق في حجه هذا الوصف أنه لم يرفث، والرفث هو: الكلام القبيح والرديء، وكذلك يطلق على الكلام الذي يتعلق بما يُخرج الإنسان عما يكون عليه من حال الإحرام من اجتناب التمتع بالنساء، واجتناب النساء التمتع بالرجال، فهو مما يتعلق بالجماع، وما يتصل به.
»منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ» أي لم يقع منه رفث بقول قبيح، أو بقول يتعلق بالاستمتاع بالنساء أو نحو ذلك، «وَلَم يفْسُقْ» أي ولم يقع في فسق، والفسق هنا يشمل محظورات الإحرام، ويشمل ترك فرائض الإحرام، ويشمل المعاصي على وجه العموم من الكذب والغيبة والنميمة والنظر المحرم والكبر والاحتقار للخلق، والعجب بالعمل وسائر أوجه الفسق التي تكون سببًا، تكون من جملة معصية الله -عز وجل- سواء كانت قَلبِيَّة، أو كانت قولية، أو كانت عملية، فقوله: «وَلَم يفْسُقْ» يشمل كل هذه الأوجه.
فإذا سَلِم الإنسان في حجه من الرفث وهو ما يتعلق بمحظورات الإحرام على وجه الخصوص، والجماع ومقدماته، والفسق وهو يشمل كل ما نُهي عنه المسلم عمومًا في معاشه، وكذلك فيما يتعلق بحال إحرامه وهي محظورات الإحرام، رجع أي من حجه كيوم ولدته أمه، أي مثل اليوم الذي ولدته أمه، ومعلوم أنه يشير بهذا إلى أنه يخرج من ذنوبه وخطاياه بهذا العمل المبارك.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن الحديث يقصد به حطُّ الصغائر من الذنوب، وأما الكبائر فإنه لا بد فيها من توبة، هكذا قال جمهور العلماء، وهو قول كثير من أهل العلم من السلف والخلف، وقال طائفة من أهل العلم: الحديث عامٌّ وليس فيه تخصيص لصغير أو كبير، فيبقى على إطلاقه أو على عمومه شاملاً لكل الخطايا صغيرها وكبيرها، وبهذا قال الطبري، وهو مما يفهم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض المواضع، وبه قال ابن المنذر من الشافعية، وقال به جماعات من أهل العلم.
وبقي بعد ذلك نوع ثالث من أنواع الذنوب، هذه الصغائر والكبائر كلها فيما يتعلق بحق الله، النوع الثالث من الذنوب ما يتعلق بحقوق الخلق وهي التبعات، هذه أيضًا أكثر العلماء على أنها لا تدخل؛ لأن حقوق العباد مَبْنِيَّة على المشاحَّة، ولا يكفي في التوبة منها أن يتوب الإنسان، بل التوبة نفسها لا تكفي في التبعات حتى يرد الحقوق إلى أهلها.
وعلى كل حال من أهل العلم ومنهم ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- في كتابه "قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج" مال إلى أنه حتى التبعات فإنه يغفر منها ما لا يقدر الإنسان على ردِّه، وما يقدر على رده فإنه يجب عليه أن يردَّه.
وعلى كل حال فضل الله واسع وعطاؤه جزيل، وينبغي للمؤمن أن يتوب وهو مقبل على هذه العبادة برد المظالم، ويتوب بترك المعاصي حتى يتأهل ويتهيأ لهذا الفضل العظيم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ»سبق، هذا ما يتعلق بفائدة حط الخطايا والسيئات، شرطه أن يكون الحج على هذا النحو من السلامة من الرفث والفسق، وطبعًا وأن يكون خالصًا لله؛ فإن الإخلاص مفتاح القبول، ولا قبول لعملٍ بلا إخلاص، وأيضًا بالمتابعة.
وهذه يكتمل بها المعنى المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ»سبق فإن الحج المبرور هو الذي تحط به الخطايا، وهو الذي يدرك به الإنسان الجنة؛ لأن الجنة لا يدخلها إلا الطيبون، نسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم، فما كان خالصًا لله، وفق هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالمًا من المعاصي والسيئات والخطايا فإنه يرجى أن يكون مبرورًا يدرك به الإنسان أن يعود كيوم ولدته أمه، وأن يفوز بالفردوس الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ»، نسأل الله الفردوس منها.
المقدم: اللهم آمين، فضيلة الشيخ هناك نقاط معينة وتفصيلية فيما يتعلق بالحج، نريد أن نتحدث عن الذين عليهم ديون أو أصحاب الديون، وأيضًا سنتحدث عن نقطة الاستدانة للحج، النقطة الأولى فضيلة الشيخ يعني تكاد تكون معلومة عند الناس أو كثير من الناس يتكلم عنها، لكن نريد أن نتحدث عنها بتفصيل وهي الذين عليهم ديون هل يجب عليهم الحج؟ هل هم من الذين يستطيعون، أم يسددوا ديونهم ابتداءً ومن ثم يحجون، ما التفصيل في هذه المسألة؟
الشيخ خالد: الأصل يا أخي الكريم كما تقدم أن الحج من شروط وجوبه الاستطاعة، فلا يجب الحج على غير المستطيع، إذا كان كذلك فإن من اشتغلت ذِمَّتُه بدين ليس مستطيعًا للحج، لا سيما الديون التي ما عند الإنسان يقصر عن وفائها، أما الديون التي تكون عند الإنسان ناتجة لمعاملات مالية وأمواله تغطي هذه الديون، ولكنها مؤجلة بأجل مؤخر أو مقسطة.
المقدم: مثل القروض البنكية فضيلة الشيخ؟.
الشيخ خالد: يعني القروض البنكية إذا كان بعض الناس عليه قرض مثلاً مائة ألف ريال، الآن الناس غالبهم، غالب الناس ذممهم مشغولة بنوع من أنواع المداينات إما بتمويل، وإما بشراء بضائع، وإما بمعاملات تجارية، لا يخلو في غالب الحال كثير من الناس في نوع من الدين تشتغل به ذمته، هذه الديون لا تمنع من وجوب الحج، وإلا ما حج أحد على هذا الوجه، وإنما المقصود الدين الذي يكون مؤثرًا في الاستطاعة.
أما إذا كان عنده من الأموال ما يزيد على قدر الدين، والديون مقسَّطة أو حتى حالَّة لكن عنده ما يزيد على الوفاء، وإنما أخر الوفاء لسبب أو لآخر، فهذا لا يؤثر على الحج بمعنى أنه يجب عليه أنه يبادر إلى الحج؛ لأنه مستطيع لكن ما يسأل عنه بعض الناس إن أنا ليس عندي من المال ما أتمكَّن به من الحج إلا أن أستدين فهل أستدين لأحج؟ الجواب: بالتأكيد أن الله لم يوجب على من لا قدرة معه على الحج أن يستدين ليحج، إذ أن الله فرض الحج على المستطيع.
ومن كانت أحواله على قدر من الضيق لا يتمكن معه من الحج، فإنه لا يجب عليه أن يحج في هذه الحال، وليس من المشروع أن يستدين ليحج، بل ينتظر حتى يمكِّنه الله تعالى من الحج بما يفتح الله تعالى عليه من الرزق والكسب، أما أن يستدين فإن هذا ليس مشروعًا.
لكن لو أن شخصًا حجَّ، استدان وحجَّ حجُّه صحيح، وإنما أخطأ في كونه حمل نفسه ما لم يفرضه الله تعالى عليه، وبعض الناس يتهاون في الدين وتجده يتوسع في أخذ أموال الناس بأوجه كثيرة، وهو في الحقيقة غافل عن خطورة الدين، الدين أمره خطير، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم عِظَم شأنه في قوله صلى الله عليه وسلم «نفسُ المؤمن مُعلَّقَةٌ بدَيْنِه حتى يُقْضى»سنن الترمذي (1079) وقال: هذا حديث حسن وأنت ما تأمن مَن بعدك أن يقضي دينك حتى لو تركت مالاً؛ لأن بعض الورثة يشحون في وفاء ديون حتى صاحب المال الذي مات عنه.
وبالتالي ينبغي للإنسان ألا يشغل ذمته بالديون ويجتنب ذلك إلا ما دعت إليه حاجة أو اقتضته مصلحة، فعند ذلك يستحضر في قلبه نية الأداء ويعزم عليه فإنه من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله تعالى عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله، وينبغي لمن كان راغبًا في الحج، وغير قادرٍ عليه أن يستحضر أن من رغب في خيرٍ عجز عنه كتب الله له الفضل والأجر ولو لم يقم بالعمل ما دام أنه صادق في نيته وجازم في رغبته، وحريص، لكن حال دونه ودون ذلك حائل أو مانع فليبشر بالخير.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو عائدٌ من غزوة تبوك وهي ذات العسرة التي كانت من أشد الغزوات على النبي صلى الله عليه وسلم لقلة ذات اليد وبُعد المسافة وقوة العدو، قال: «إن أقوامًا بالمدينة ما سِرتُم مسيرًا ولا نزلتم واديًا إلا شاركوكم في الأجر» قالوا: وهم في المدينة يا رسول الله؟ قال: «وهم في المدينة حَبَسَهم العذر»صحيح البخاري (4423)، ومسلم (1911) وفي رواية «حبسهم المَرَض»صحيح مسلم (1911).
فيرجى لكل من رغب في الحج وعجز عنه لعدم قدرته أن ينال الأجر بِنِيَّتِه وفضل الله واسع، ولعل الله أن يوسع عليه فيتمكن من الحج في عامٍ قادم.
المقدم: جميل، فضيلة الشيخ أيضًا نقطة أخرى، من مات، توفَّاه الله -عز وجل- ولم يحج، يعني هناك نقطتان، من مات وكان مستطيعًا يعني سوَّف وتكاسل عن أداء هذه الفريضة، ومن مات ولم يستطع الحج طيلة عمره يعني هل يقضى عنه الحج؟ ما هو التفصيل في هذه المسألة؟
الشيخ خالد: فيما يتعلق بمن مات ولم يحج، فإن كان مستطيعًا فالعلماء لهم قولان:
جمهور العلماء على أنه يحج من ماله، أي يقام من يحج عنه من ماله، فيحبس قدر قيمة الحج من تركته توضع فيمن يحج عنه.[مذهب الشافعية(المجموع7/98)، والظاهرية(المحلى7/62)، والحنابلة(شرح منهى الإرادات1/519)]
ومن أهل العلم من يقول: إن هذا لا ينفعه؛ لأنه ترك الحج باختياره مع قدرته عليه فلا ينفعه ذلك، والأقرب والله تعالى أعلم أن يحج عنه؛ لعل الله أن ينفعه بذلك.
أما إن كان غير مستطيع فلا شيء عليه، لكن إن حج عنه ولده، أو رغب في أن يحج عنه قريبه، فهذا من الإحسان لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن حج عن غيره في حديث ابن عباس أن النبي سمع رجلاً يقول: لبيك عن شُبْرُمة قال: «مَن شبرمة؟» قال: أخٌ لي أو قريب، قال: «أَحَجَجْتَ عن نفسك؟» قال: لا، قال: «حُجَّ عن نَفسِك، ثم حُجَّ عن شبرمة»سنن أبي داود (1811)، وابن ماجه (2903)، وصححه الألباني، ففي هذه الحال يكون جزاؤه جزاء الإحسان الحج عن غيره ولو كان غير مستطيع في حياته.
هنا مسألة وهي ما يتعلق بترتيبات وتنظيمات الحج الحديثة التي تتعلق باستصدار تصاريح والانضمام لحملات، هل هذا مما يعتبر في الاستطاعة؟
الجواب: نعم هذا من الاستطاعة التي ينبغي أن تستحضر بمعنى أن من كان لا يستطيع الانضمام للحملات وفق الترتيب الذي تنظمه الجهات المختصة بالحج فإنه ليس مستطيعًا، وبالتالي لا يجب عليه الحج ما دام أنه لا يتمكن من كلفة الحج الذي يستطيع من خلاله أن يحج وفق الترتيبات والتنظيمات التي تنظمها الدولة وفقها الله.
وكذلك فيما يتعلق بالتصاريح، التصاريح هي من جملة الاستطاعة التي لا بد من تحصيلها ليتحقق وصف الاستطاعة في الإنسان، فمن كان لا يقوى على استصدار تصريح، فإنه ليس مستطيعًا، وأما يفعله بعض الناس من الذهاب من غير مراعاة الأنظمة ولا اتباع للتوجيهات التي تصدرها الجهات المختصة سواء كانت الجهات الأمنية أو الجهات في وزارة الحج أو غير ذلك من الجهات التي تعنى بترتيب هذه الفريضة وتنظيمها، فإنه يكون بذلك آثمًا؛ لأن طاعة ولاة الأمر في مثل هذا مما فرضه الله تعالى وهو الأصل في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ النساء:59.
وليعلم أن هذه التنظيمات والترتيبات غرضها التوسيع لا التضييق، فإن بعض الناس يتعامل معها على أنها قيود، ولكن الواقع أن هذه التنظيمات غرضها وغايتها التوسيع على الناس والرفق بهم، وتمكين الناس من أداء النسك على وجهٍ تندفع به المشقة عنهم، ولا يُهلك بعضهم بعضًا، أنتم تعرفون أن عدد المسلمين اليوم في العالم يزيد على مليار ونصف، والطاقة الاستيعابية للمناسك محدودة، وبالتالي لا بد من تنظيمات وترتيبات تَكفُل أن يؤدي الحجاج نُسَكَهم على وجهٍ يحققون به المقصود الشرعي، ويأمنون به على أنفسهم وعلى ممتلكاتهم مما يمكن أن يكون سببًا للهلاك والتلف.
فأوصي إخواني وأخواتي بالاحتساب عند الله -عز وجل- في اتباع هذه الأنظمة، فإن ذلك مما يؤجر عليه الإنسان إذا احتسب الأجر عند الله -عز وجل-.
المقدم: جميل، فضيلة الشيخ أيضًا نقطة أخيرة نريد أن نتحدث عنها فيما يتعلق بمشروعية المنفعة والاستفادة من الحجيج، مثلاً أهل سكان مكة المكرمة وسكان المدينة المنورة أيضًا يستفيدون من الحجيج كالبيع والشراء وغيرها من أنواع المنفعة التي قد يتحصلها الإنسان من قدوم هؤلاء الحجيج إلى مكانه، أسأل عن مشروعية المنفعة هذه؟
الشيخ خالد: لا حرج في ذلك، فهم بهذا ينفعون أنفسهم وينفعون الحجيج بقضاء حوائجهم، بتقديم هذه الخدمات وهذه السلع التي تقضي حوائج الحجيج سواء كانت في المطاعم أو المشارب أو الملابس أو غير ذلك مما تقتضيه الحوائج الطبيعية للإقامة أو حتى الهدايا وما إلى ذلك، لكن ينبغي أن يتقيَ الله تعالى الباعة، وأن يرفقوا بهؤلاء الذين هم ضيوف الرحمن، وقد جاءوا من أماكن بعيدة فلا يغرروا بهم، ولا يوقعوهم في غرر، ولا يبيعون عليهم بأسعار فيها غبن وتجاوز للتسعيرات للمثل الذي يباع به مثل هذه الأشياء عادةً.
وأنا أقول: الدولة -وفقها الله- أقامت واستنفذت جميع الجهات التي تحقق للحجيج وقاصدي المسجد الحرام والمسجد النبوي الأمن على أنفسهم، والأمن على أموالهم، والأمان بكل صوره، الأمن والأمان على النفس وعلى المال والأمن الصحي والأمن الغذائي، وينبغي أيضًا أن يراعي الناس هذا الأمر فيحققوا حسن التعامل وطيب الاستقبال، ولا حرج في البيع والشراء سواء من الجهات في المناسك في أرض المناسك، أو في الأسواق وسائر الأماكن التي يؤذن فيها بالبيع، شرط أن يكون ذلك على نحوٍ من العدل وعدم الظلم وأكل المال بالباطل.
المقدم: جميل، فضيلة الشيخ نختم بسؤال خارج موضوع الحلقة قليلاً من الأخت أم نواف في الواتس آب تسأل عن حكم إبر البلازما المستخدمة لنضارة الوجه تسأل عن حكمها؟
الشيخ خالد: إذا كان هذا لإزالة مرض عارض فلا بأس به، بأن يكون هناك حادث أو هناك مثلاً تشوهات أو عيوب، أما إذا كان هذا فقط لأجل.
المقدم: هي تسأل للنضارة، فقط للزينة يا فضيلة الشيخ.
الشيخ خالد: أنا لا أعرف ما هي إبر البلازما لكن إن كانت هي كالتي تحقن لنفخ الوجه فهذه عدَّها كثير من علماء العصر من صور تغيير خلق الله، أما إذا كانت لإكساب الوجه نضارة وإزالة نوع مثلاً من البقع أو تغير اللون بالشمس أو ما إلى ذلك، فهذا لا بأس به.
المقدم: حقيقة أنا أشكرك فضيلة الشيخ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه في جامعة القصيم، وعضو لجنة الإفتاء بمنطقة القصيم.
الشيخ خالد: بارك الله فيكم، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحفظ حجاج بيت الله الحرام، وأن يوفقهم، وأن ييسر لنا النسك، وأن يعيننا على طاعته، وأن يوفق قيادتنا الرشيدة إلى ما فيه خير البلاد والعباد، وأن يجزيهم خيرًا على ما يبذلونه من جهود متلاحقة متواصلة لخدمة حجاج بيت الله، وأن يوفق رجال أمننا الذين يحرسوننا ويحرسون حدودنا من كل سوء وشر وأن يهديهم، وأن يسدد رميهم، وأن ينصرهم على أعدائهم، وأن يحفظنا وبلاد المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وصلى الله وسلم على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته مستمعينا الكرام وصلنا لختام هذه الحلقة من برنامج "الدين والحياة" عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة.