قال المؤلف رحمه الله: القاعدة الثالثة عشرة: طريقة القرآن في الحجاج والمجادلة مع أهل الأديان الباطلة، قد أمر الله بالمجادلة بالتي هي أحسن، ومن تأمل الطريق التي نصب الله المحاجَّة بها مع المبطلين على أيدي رسله رآها من أوضح الحجج وأقواها، وأقومها وأدلها على إحقاق الحق وإزهاق الباطل، على وجه لا تشويش فيه ولا إزعاج.
فتأمل محاجة الرسل مع أممهم، وكيف دعَوْهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، من جهة أنه المتفرّد بالربوبية، والمتوحد بالنِّعم، وهو الذي أعطاهم العافية، والأسماع والأبصار، والعقول والأرزاق، وسائر أصناف النّعم، كما أنه المنفرد بدفع النقم، وأن أحداً من الخلق ليس عنده نفع ولا دفع، ولا ضر ولا نفع([1])، فإنه بمجرد معرفة العبد بذلك واعترافه به لا بد أن ينقاد للدين الحق، الذي به تتم النعمة، وهو الطريق الوحيد لشكرها.
وكثيراً ما يحتج على المشركين في شركهم وعبادتهم لآلهتهم من دون ربهم بإلزامهم باعترافهم بربوبيته، وأنه الخالق لكل شيء، والرازق لكل شيء، فيتعين أن يكون هو المعبود وحده.
فانظر إلى هذا البرهان، وكيف ينتقل الذهن منه بأول وهلة إلى وجوب عبادة من هذا شأنه([2]) ووجوب الإخلاص له".
هذه القاعدة الثالثة عشرة قال فيها المؤلف رحمه الله: (طريقة القرآن في الحجاج والمجادلة مع أهل الأديان الباطلة) أي بيان ذلك.
و(الحجاج): جمع حجة، وهي مغالبة الخصم بالبرهان.
و(المجادلة) معروفة.
(مع أهل الأديان) يشمل اليهود والنصارى وهم أهل الكتاب، ويشمل غيرهم من الوثنيين كالمشركين.
وبين إجمالاً الطريقة التي سلكها القرآن، وأنها يحصل بها المقصود بأيسر سبيل وأسهل طريق.
ثم مثل لذلك بطريقة القرآن في محاجة المشركين، وأنه يحتج بتوحيد الربوبية وأنهم يقرون به على إثبات الإلهية، وهـٰذا يبين لنا أن من لازم الإقرار بتوحيد الربوبية أن يكون الله جل وعلا هو الإلـٰه الحق الذي لا يستحق العبادة غيره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
(ويجادل المبطلين أيضاً بذكر عيب آلهتهم، وأنها ناقصة من كل وجه، لا تغني عن أهلها([3]) شيئاً.
ويقيم الأدلة على أهل الكتاب بأن لهم من سوابق المخالفات لرسلهم ما لا يستغرب معه مخالفتهم لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ([4])، وينقض عليهم([5]) دعاويهم الباطلة وتزكيتهم لأنفسهم([6]) ببيان ما يضاد ذلك من أحوالهم وأوصافهم، ويجادلهم بتوضيح الحق وبيان براهينه، وأن صدقه وحقيقتَه تدفع بمجردها جميع الشبه المعارضة له: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ﴾([7]).
وهذا الأصل في القرآن كثير، فإنه يفيد الدعوة للحق، ورد كل باطل ينافيه.
ويجادلهم بوجوب تنزيل الأمور منازلها، وأنه لا يليق أن يُجعل للمخلوق العبد الفقير العاجز من كل وجه بعض حقوق الرب الخالق الغني الكامل من جميع الوجوه.
ويتحداهم أن يأتوا بكتاب وشريعة أهدى وأحسن من هذا الكتاب ومن هذه الشريعة، وأن يعارضوا القرآن فيأتوا بمثله إن كانوا صادقين.
ويأمر نبيه بمباهلة من ظهرت مكابرته وعناده، فينكصون عنها؛ لعلمهم أنه رسول الله الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، وأنهم لو باهلوه لهلكوا.
وفي الجملة لا تجد طريقاً نافعاً فيه إحقاق الحق وإبطال الباطل إلا وقد احتوى عليه القرآن على أكمل الوجوه ) .
المباهلة مأخوذة من الابتهال، وهي الدعاء على النفس بالهلكة في مقام إحقاق الحق وإبطال الباطل، ومنه قول الله تعالىٰ لنبيه: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)﴾([8]). فهـٰذا نموذج للمباهلة التي أمر الله بها رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي لا تكون في كل أمر، إنما تكون في الأمور الكبار التي يتيقّن الإنسان فيها الحق يقيناً جازماً لا ريب فيه ولا شك.
وبهذا نعلم خطأ بعض إخواننا الذين يدعون إلىٰ المباهلة في مسائل الخلاف التي يسوغ فيها الخلاف، والأدلة فيها محتمِلة، فإنه لا يسوغ الدعوة إلىٰ المباهلة في هذه الأمور؛ لأن المباهلة لا تكون إلا في الأمور الكبار التي يُقطع فيها بالصواب، ولا احتمال فيها أن يكون الخصم مصيباً.
وهـٰذا ينبغي أن يفقه؛ لأن كثيراً من الناس يدعو إلىٰ المباهلة مثل ما قلنا لكم في أدنى مسألة يختلف فيها مع صاحبه، وهـٰذا خلاف طريقة القرآن.
مباهلة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهؤلاء في أمر عظيم، في إقرار التوحيد ونفي الشرك، وهـٰذا أمر دلت عليه الأدلة المتنوعة، وهو أمر لا إشكال فيه ولا ريب. نعم.
([4]) في نسخة: الذي جاء مصدقاً لما سبقه من الرسالات التي مقصدها جميعاً واحد، وهو فك أغلال التقليد عن قلوب بني آدم؛ لينتفعوا بسمعهم وأبصارهم وأفئدتهم بالتفكر في آيات ربهم، فيعرفوا بذلك أنه الإله الحق، وأن كل ما اتخذه الناس بوحي شياطين الإنس والجن من آلهة، فلا يخرج شيء منها عن أن يكون أثراً من آثار هذه الآيات، وأنها لذلك لا تليق بأي وجه لمشاركة ربها وخالقها في الإلهية، ولا ينبغي أن تعطى إلا حقها في المخلوقية والعبودية.
وأن الخالق الذي ليس كمثله شيء هو المستحق لكل أنواع العبادة، وأن لا يعبد إلا بما أحب وشرع .