الزِّنى
الخُطْبَةُ الأُولَىَ:
إِنَّ الحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعدُ.
فاتَّقُوا اللهَ أَيُّها المؤْمِنُونَ، وَاحْذَرُوا أَسْبابَ سَخَطِه وَمُوجِباتِِ عِقابِهِ، فَإِنَّ عَذابَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُرَدُّ عَنِ القَوْمِ المجْرِمِينَ، فَذَرُوا عِبادَ اللهِ ظاهِرَ الإِثْمِ وَباطِنَهُ، صَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، أَلا وَإِنَّ مِنْ كَبائِرِ الإِثْمِ وَعَظائِمِ الذُّنُوبِ ظُهُورَ الزِّنَى وَتَيْسِيرَ أَسْبابِهِ وَسُبُلِهِ، فَإِنَّ ظُهُورَ الزِّنَى مِنْ أَماراتِ خَرابِ العالَمِ وَفَسادِ نِظامِ الكَوْنِ، وَقُرْبِ قِيامِ السَّاعَةِ، فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" قالَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «مِنْ أَشْراطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ العِلْمُ، وَيَظْهَرَ الجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَى»"صَحِيحُ البُخارِيِّ" (81)، وَمُسْلِمٌ (2671) مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ..
عباد الله .
إِنَّ ظُهُورَ الزِّنَى وَتَيْسِيرَ تَحْصِيلِهِ وَانْتِشارَ أَسْبابِهِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبابِ غَضَبِ اللهِ وَمَقْتِهِ وَعاجِلِ عُقُوبَتِه، فَفِي "الصَّحِيحَيْنِ" قالَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كَسَفَتِ الشَّمْسُ: «يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللهِ إِنَّهُ لا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنِ اللهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللهُ لَوْ تَعْلَمُونَ ما أَعْلَمُ لِضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً» أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (986)، وَمُسْلِمٌ (1944) مِنْ حَدِيثِ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها..
فَدَلَّ هَذا عَلَىَ أَنَّ فاحِشَةَ الزِّنَى تُغْضِبُ الجَبَّارَ وَتَقْصِمُ الأَعْمارَ وَتُخَرِّبُ الفَيافِيَ وَالقِفارَ، فَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبابِ الفَقْرِ وَالدَّمارِ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ.
إِنَّ فاحِشَةَ الزِّنَى مِنْ أَعْظَمِ أَسْبابِ ظُهُورِ غَرِيبِ الأَدْواءِ وَجَدِيدِ الأَمْراضِ وَمُنْكراتِ الأَسْقامِ، فَإِنَّها لَمْ تَظْهَرِ الفاحِشَةُ في قَوْمٍ قَطْ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِها إِلَّا فَشا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجاعُ الَّتي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ في أَسْلافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا، كَما قالَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَها نَحْنُ اليَوْمَ نَشاهِدُ صِدْقَ ما أَخْبَرَ بِهِ مَنْ لا يَنطِقُ عَنِ الهَوَىَ، فَها هِيَ مُعْضِلاتُ الأَمْراضِ وَمُنْكُراتُ الأَدْواءِ تَنْتَشِرُ في بَلادِ الإِباحِيِّةِ وَالفُجُورِ، أَعْيَتْ مَهَرَةَ الأَطِبَّاءِ، وَحَيَّرَتِ الخُبَراءَ، وَصَدَقَ اللهُ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾ سُورَةُ الإِسْراءِ (32).
أَيُّها المؤْمِنُونَ.
إِنَّ قُبْحَ فاحِشَةِ الزِّنَى مَرْكُوزٌ في الفِطَرِ، مُقَرَّرٌ في شَرائعِ رُسُلِ مَنْ غَبَرَ، وَإِنَّهُ لَمِنْ عَجائِبِ القَصَصِ وَالأَخْبارِ، ما رَواهُ البُخارِيُّ في "صَحِيحِهِ" عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونِ الأَوْدِيِّ رَحِمَهُ اللهُ قالَ: "رَأَيْتُ في الجاهِلِيَّةِ قِرْداً زَنَى بِقِرْدَةٍ، فاجْتَمَعَ القُرُودُ فَرَجَمُوهُما حَتَّى ماتا"صَحِيحُ البُخارِيُّ" (3849). فَدَلَّ هَذا عَلَىَ أَنَّ الزِّنَىَ مُسْتَقْبَحٌ مَمْقُوتٌ، حَتَّى عِنْدَ بَعْضِ الحَيواناتِ.
عِبادَ اللهِ، اتَّقُوا اللهَ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَىَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً، فَهُوَ وَاللهِ أْقبَحُ سَبِيلٍ وَشَرُّ طَرِيقِ خِزْيٍّ وَعَذابٍ في الدنيا والآخرةِ، أما الدنيْا فـ: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ سُورَةُ النُّور (2) ، هَذا إِنْ كانا غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ.
أَمَّا إِنْ كانَ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ مُحْصَنَيْنِ فَحَدُّهُما رَمْيٌّ بِالحِجارَةِ حَتَّى الموْتِ، هَذِهِ عُقُوبَةُ البَدَنِ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَشَدُّ عَذابُ القَلْبِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ قالَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (2295)، وَمُسْلِمٌ (86) ، فَإِذا زَنَىَ العَبْدُ انْخَلَعَ مِنْهُ الإيمانُ، وَكانَ -؛أَيِ: الإِيمانُ- كالسَّحابَةِ فَوْقَ رَأْسِهِ ما دَامَ عَلَىَ هَذِهِ المعْصِيَةِ، فَإِنْ شاءَ اللهُ سَلَبَهُ إِيَّاهُ، وَإِنْ شاءَ جَلَّ وَعَلا رَدَّهُ عَلَيْهِ.
أيها المؤمنون.
هَذِهِ عُقُوبَتُهُ في الدُّنْيا، أَمَّا عُقُوبَتُهُ في البَرْزَخِ بَعْدَ الموْتِ، وَقَبْلَ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ لِرَبِّ العالمينَ، فَما رَواهُ البُخاريُّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيانِي فَأَخْرَجانِي، فانْطَلَقْتُ مَعَهُما فَإِذا أَنا بِبِناءٍ عَلَىَ مِثْلِ التَنُّورِ، أَعْلاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ، يُوقَدُ تَحْتَهُ نارٌ، فِيهِ رِجالٌ وَنِساءٌ عُراةٌ، فَإِذا أُوقِدَتِ النَّارُ ارْتَفَعُوا حَتَّى يَكادُوا يَخْرُجُونَ، وَإِذا خمَدَتْ رَجَعُوا، فَقُلْتُ لِلرَّجُلَيْنِ: مَنْ هَؤُلاء؟ قالا: هُمُ الزُّناةُ»"صَحِيحُ البُخارِيِّ" (6525) .فَلا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، ما أَعْظَمَ عَذَابَهُمْ وَأَشَدَّ بُؤْسَهُمْ.
أيها المؤمنون.
أمَّا عَذابُهُمْ في الآخِرَةِ، فَقالَ جَلَّ وَعَلا فِيهِ: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً. يُضاعَفُ لَهُ العَذابُ يَوْمَ القِيامَةِ﴾ سُورَةُ الفُرْقانُ (68-69).
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ حَقَّ تُقاتِهِ، وَاجْتَنِبُوا هَذِهِ الفاحِشَةَ المبَيِّنَةَ وَالموبِقَةَ الكَبِيرَةَ، فَإِنَّ اللهَ تَعالَى نَهاكُمْ عَنْ قُربانِها فَضْلاً عَنِ الوُقُوعِ فِيها: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾ سُورَةُ الإِسْراءِ (32).
أيها المؤمنون.
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبابِ الوُقُوعِ في فاحَشِةِ الزِّنَى: التَّساهُلَ في أَسْبابِه وَدواعِيهِ، كإِطْلاقِ البَصَرِ في المحَرَّماتِ وَالنَّظرِ لِلنِّساءِ الأَجْنَبِيَّاتِ في الأَسْواقِ أَوِ الصُّحُفِ أَوِ المجلَّاتِ، أَوْ مِنْ خِلالِ الشَّاشاتِ وَالقَنَواتِ.
وَمِنْ أَسْبابِهِ أَيْضاً: سَماعُ الأَغانِي الَّتِي تُهيِّجُ النُّفُوسَ عَلَىَ الرَّذائِلِ وَسَماعِ الكَلِماتِ الَّتي تَبْعَثُ في القَلْبِ الشَّهواتِ.
وَمِنْ أَسْبابِ الزِّنَىَ يا عِبادَ اللهِ: الاخْتِلاطُ بِالنِّساءِ وَالخَلْوَةُ بِهِنَّ في البُيوتِ وَالسَّيَّاراتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِليْهِ تُرْجَعُونَ.
أيها المؤمنون.
احْذَرُوا هَذا اليَوْمَ ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
واعلموا: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ سورة الإسراء (36).
فاحْفَظُوا عِبادَ اللهِ أَبْصارَكُمْ وَأَسْماعَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ وَأَيْدِيكُمْ عَنِ الزِّنَى، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«العَيْنانِ تَزْنِيَانِ وَزِناهُما النَّظَرُ، وَالأُذُنانِ تَزْنِيانِ وَزِناهُما الاسْتِماعُ، وَاللِّسانُ يَزْنِي وَزِناهُ الكَلامُ، وَاليَدُ تَزْنِي وَزِناها البَطْشُ، وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِناها الخُطا، وَالقَلْبُ يَهْوَىَ وَيَتَمَنَّى، وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ (3902) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، وَصَحَّحَهُ الأَلْبانِيُّ في ظِلالِ الجَنَّةِ (193).
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعْدُ فاتَّقُوا اللهَ أَيُّها المؤْمِنُونَ وَقُوا أَنْفُسَكُمْ شَرَّ الزِّنَىَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً، احْفَظُوا أَبْصارَكُمْ وَجَوارِحَكُمْ عَمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطانُ وَيُزَيِّنُهُ لَكُمْ، بادِرُوا إِلَى الزَّواجِ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلفَرْجِ ،تَفَكَّرُوا في عَواقِبِهِ الوَخِيمَةِ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ ،اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَتَذَكَّرُوا ما أَعَدَّهُ اللهُ لِعبادِهِ المتَّقِينَ مِنَ الجِنانِ وَالنَّعِيمِ وَالفَوْزِ بِرِضا اللهِ الكَرِيمِ ،تَذَكَّرُوا عُقُوبَةَ العاصينَ وَما أَعَدَّهُ اللهُ لَهُمْ مِنَ العَذابِ وَبِئْسَ المصِيرُ ذَهَبَتْ اللَّذاتُ وَبَقِيَتِ الحَسراتُ ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً. يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً ﴾ سُورَةُ الفُرْقانِ (27-28)..
أَيُّها المؤْمِنُونَ قُوا أَهْلِيكُمْ وَأَزْواجَكُمْ أَبْناءَكُمْ بِناتِكُمْ هَذِهِ البَلِيَّةَ الكُبْرَى فامْنَعُوا عَنْهُمْ أَسْبابَ الفَسادِ وَدَواعِي الشَّرِّ، بادِرُوا إِلَى تَزْوِيجِ مَنْ بَلَغَ مِنْ أَبْنائِكُمْ وَبَناتِكُمْ وَلا تُؤَخِّرُوا ذَلِكَ ،فَإِنَّ أَسْبابَ الانْحِرافِ كَثِيرَةٌ وَدَواعِي الفَسادِ مُنْتَشِرَةٌ وَأَسْبابُهُ مُيَسَّرَةٌ وَطُرُقُهُ مُذَلَّلٌة لا سِيَّما في هَذِهِ العُصُورِ المتَأَخِّرَةِ الَّتِي ضَعُفَ فِيها الإِيمانُ وَرَاجَتْ فِيها سُوقُ الشَّيْطانِ.
عِبادَ اللهِ تُوُبُوا إِلَىَ اللهِ جَمِيعاً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، تُوبُوا قَبْلَ فَواتِ الأَوَانِ، تُبْ يا عَبْدَ اللهِ مِنَ النَّظْرَةِ المحَرَّمَةِ وَالكَلِمَةِ القَبِيحَةِ وَالزَّلَّةَ الخَفِيَّةِ وَالسَّيِّئَةِ الظَّاهِرَةِ، اسْتَكْثِرُوا عِبادَ اللهِ مِنْ أَعْمالِ البِرِّ وَالخَيْرِ فَإِنَّ الحَسَناتِ يُذْهَبْنَ السَّيِّئاتِ.
ِ