قال المؤلف رحمه الله :"القاعدة الخامسة عشرة: جعل الله الأسباب للمطالب العالية مبشرات لِتَطْمِينِ القلوب وزيادة الإيمان وهذا في عدة مواضع من كتابه".
المقصود بهذه القاعدة أن الله جل وعلا جعل الأسباب الموصلة للمطالب العالية، فالأسباب المقصود بها هنا الوسائل التي تحصل بها المطالب العالية من فوز الدنيا والآخرة، (مبشرات لِتَطْمِينِ القلوب وزيادة الإيمان)، فجعل من أسباب الشيء المبارك الطيب ما يطمئن به قلب الإنسان ويكون حاملاً له على مواصلة السير في طريقه لتحصيل المطالب العالية.
هـٰذا معنى القاعدة، ويتبين ذلك بالأمثلة المذكورة. نعم.
(فمن ذلك:
النصر، قال في إنزاله الملائكة به: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ﴾([1])).
الضمير يعود إلىٰ أي شيء؟ إنزال الملائكة ﴿وَمَا جَعَلَهُ﴾ أي ما جعل الله إنزال الملائكة إلا بشرى، فجعل سبب النصر وسيلة لتطمين النفس وزيادة الإيمان.
(وقال في أسباب الرزق ونزول المطر: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾.([2])
وأعم من ذلك كله قوله: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾([3]). وهي كل دليل وعلامة تدلهم على أن الله قد أراد بهم الخير، وأنهم من أوليائه وصفوته).
تعريف البشرى: (وهي كل دليل وعلامة تدلهم على أن الله قد أراد بهم الخير، وأنهم من أوليائه وصفوته)، فيدخل فيها كل ما يدل على إرادة الله عز وجل بعبده الخير: من توفيقه إلىٰ العلم النافع والعمل الصالح،وغير ذلك مما ذكره المؤلف، فلا تتقيد فقط بتبشير الملائكة عند الموت أو ما أشبه ذلك؛ بل هي أوسع من ذلك. نعم.
(فيدخل فيه الثناء الحسن والرؤيا الصالحة، ويدخل فيه ما يشاهدونه من اللطف والتوفيق، والتيسير لليسرى، وتجنيبهم العسرى.([4])
ومن ذلك، بل من ألطف ذلك: أنه يجعل الشدائد مبشرة بالفرج).
(من ألطف ذلك) يعني من أخفى ذلك، اللطف هنا بمعنى الخفاء؛ يعني لا يتبين فيه أنه من المبشرات، ولكنه يكون عند أولي البصائر من المبشرات، إذا اشتدت الكربة وعظم الخطب فاعلم أن الفرج قريب، وأن التيسير سهل من رب العالمين، فهـٰذا لطيف خفي، فاللطف معناه الخفاء.
(ومن ذلك، بل من ألطف ذلك: أنه يجعل الشدائد مبشرة بالفرج، والعسر مؤذناً باليسر. وإذا تأملت ما قصه عن أنبيائه وأصفيائه، وكيف لما اشتدت بهم الحال، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ﴿وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾([5]) رأيت من ذلك العجب العجاب.
وقـال تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾([6])، ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)﴾([7]). وقـال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً))([8]). وأمثلة ذلك كثيرة، والله أعلم) .
هذه قاعدة واضحة ومفيدة.
([4]) في نسخة: لأن الله يقول: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾[الليل: 5-7]، ويقول: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً﴾[الطلاق: 4]، فإذا رأيت الأمور متيسرة لك ومسهلة، وأن الله يقدر لك الخير حتى وإن كنت لا تحتسبه، فهذه لا شك أنها بشرى، وإذا رأيت الأمر بالعكس فصحح مسارك فإن فيك بلاءً، والنعم ما تكون استدراجاً إلا لمن أقام على معصية الله، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[الأعراف:182]، أما إذا كانت للمؤمن فليست استدراجاً.