قال المؤلف رحمه الله:" القاعدة السابعة عشرة: بعض الأسماء الواردة في القرآن إذا أفرد دل على المعنى المناسب له، وإذا قرن مع غيره دل على بعض المعنى، ودل ما قرن معه على باقيه.
ولهذه القاعدة أمثلة كثيرة:
منها: الإيمان، أُفرد وحده في آيات كثيرة، وقُرن مع العمل الصالح في آيات كثيرة.
فالآيات التي أُفرد فيها يدخل فيه جميع عقائد الدين وشرائعه الظاهرة والباطنة، ولهذا يرتب الله عليه حصول الثواب، والنجاة من العقاب، ولولا دخول المذكورات ما حصلت آثاره. وهو عند السلف: قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح.
والآيات التي قرن الإيمان فيها بالعمل الصالح،كقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾([1]) يُفسَّر الإيمان فيها بما في القلوب من المعارف والتصديق، والاعتقاد والإنابة. والعمل الصالح بجميع الشرائع القولية والفعلية".
القاعدة أنه إذا أطلق اللفظ أو الاسم في بعض السياقات يدل على العموم، الإيمان إذا لم يقرن بالعمل دخل فيه العمل؛ لأن الإيمان عند أهل السنة والجماعة كما قال المؤلف رحمه الله: (قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح) . واضح، وإذا قرن مع العمل، فإنه يكون دالاًّ على بعض معناه، وهو ما يتعلق بعمل القلب، وأما ما يتعلق بالجوارح والأعمال البدنية فهي داخلة في العمل الصالح.
و هذه القاعدة أشار إليها ابن كثير رحمه الله في تفسيره لسورة البقرة في أول السورة، وذكرها شيخ الإسلام وابن رجب وجماعة من العلماء والمفسرين، وهي قاعدة مفيدة تحل كثيراً من الإشكالات.
ويعبر عنها بعضهم بقاعدة: إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا. يعني إذا افترق اللفظان اجتمعا فدخل أحدهما في الآخر، إذا اجتمعا افترقا، فإذا اجتمعا دل كل واحد منهما على شيء، وإذا افترقا اجتمعا فدخل معنى كل واحد منهما في الآخر.
(وكذلك لفظ (البر والتقوى): فحيث أفرد البر دخل فيه امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وكذلك إذا أفردت (التقوى). ولهذا يرتب الله على (البر) وعلى (التقوى) عند الإطلاق: الثواب المطلق والنجاة المطلقة، كما يرتبه على الإيمان.
وتارة يُفسِّر أعمال البر بما يتناول أفعال الخير وترك المعاصي، وكذلك في بعض الآيات تفسَّر خصال التقوى، كما في قوله: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾([2]) إلى آخر ما ذكره من الأوصاف التي تتم بها التقوى.
وإذا جُمع بين البر والتقوى، مثل قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ ([3]) كان (البر) اسماً جامعاً لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، وكانت (التقوى) اسماً جامعاً يتناول ترك جميع المحرمات.
وكذلك لفظ (الإثم) و(العدوان): إذا قرنا، فُسر الإثم بالمعاصي التي بين العبد وبين ربه، والعدوان بالتجرؤ على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
وإذا أُفرد(الإثم) دخل فيه كل المعاصي التي تُؤثِّم صاحبها، سواء كانت بينه وبين ربه أو بينه وبين الخلق، وكذلك إذا أُفـرد (العدوان).
وكذلك لفظ (العبادة والتوكل)، ولفظ (العبادة والاستعانة): إذا أفردت (العبادة) في القرآن تناولت جميع ما يحبه الله ويرضاه ظاهراً وباطناً، ومن أول ما يدخل فيها: التوكل والاستعانة،([4]) نحو ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾([5])، ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾([6]). فسِّرت العبادة بجميع المأمورات الباطنة والظاهرة، وفسِّر التوكل باعتماد القلب على الله في حصولها وحصول جميع المنافع ودفع المضار، مع الثقة التامة بالله في حصولها.
وكذلك (الفقير والمسكين): إذا أُفرد أحدهما دخل فيه الآخر كما في أكثر الآيات، وإذا جُمع بينهما كما في آية الصدقات، وهي قوله: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾([7]) فسِّر (الفقير) بمن اشتدت حاجته وكان لا يجد شيئاً، أو من يجد شيئاً لا يقع منه موقعـاً، وفسِّـر (المسكين) بمن حاجته دون ذلك.
ومثل ذلك الألفاظ الدالة على تلاوة الكتاب والتمسك به وهو اتباعه، يشمل ذلك: القيامَ بالدين كله، فإذا قُرِنت معه الصلاة كما في قوله تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ﴾،([8]) وقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ﴾([9]). كان ذكر الصلاة تعظيماً لها وتأكيداً لشأنها، وحثاًّ عليها، وإلا فهي داخلة في الاسم العام وهو التلاوة والتمسك به وما أشبه ذلك من الأسماء) .
هذه أمثلة كلها على القاعدة، وهي واضحة؛ ولكن فيه فائدة في قوله رحمه الله: (ومثل ذلك الألفاظ الدالة على تلاوة الكتاب والتمسك به وهو اتباعه) التلاوة، الذي يتبادر إلىٰ أذهان كثير من الناس أنها مجرّد القراءة، هـٰذا خلاف استعمال القرآن للتلاوة؛ فالتلاوة في كتاب الله هي القراءة مع العمل والاتباع، وليست مجرد القراءة اللفظية. نعم.