ثمَّ انْتقل سُبْحَانَهُ إِلَى تَقْرِير النبوّة بِأَحْسَن تَقْرِير وأوجر لفظ وأبعده عَن كل شُبْهَة وَشك فَأخْبر أَنه أرسل إِلَى قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَقوم لوط وَقوم فِرْعَوْن رسلًا فكذّبوهم فأهلكهم بأنواع الْهَلَاك وَصدق فيهم وعيده الَّذِي أَو عدتهمْ بِهِ رسله إِن لم يُؤمنُوا وَهَذَا تَقْرِير لنبوّتهم ولنبوة من أخبر بذلك عَنْهُم من غير أَن يتَعَلَّم ذَلِك من معلّم وَلَا قَرَأَهُ فِي كتاب بل أخبر بِهِ إِخْبَارًا مفصّلا مطابقا لما عِنْد أهل الْكتاب وَلَا يرد على هَذَا إِلَّا سُؤال البهت والمكابرة على جحد الضروريات بِأَنَّهُ لم يكن شَيْء من ذَلِك أَو أَن حوادث الدَّهْر ونكباته أَصَابَتْهُم كَمَا أَصَابَت غَيرهم وَصَاحب هَذَا السُّؤَال يعلم من نَفسه أَنه باهت مبَاحث جَاحد لما شهد بِهِ العيان وتناقلته الْقرن قرنا بعد قررن فإنكاره بِمَنْزِلَة إِنْكَار وجود الْمَشْهُورين من الْمُلُوك وَالْعُلَمَاء والبلاد النائية ثمَّ عَاد سُبْحَانَهُ إِلَى تَقْرِير الْمعَاد بقوله {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول} يُقَال لكل من عجز عَن شَيْء عيي بِهِ وعيي فلَان بِهَذَا الْأَمر قَالَ الشَّاعِر
عيوا بأمرهم كَمَا ... عييت ببيضتها الْحَمَامَة
وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَلَمْ يعي بخلقهن} قَالَ ابْن عَبَّاس يُرِيد أفعجزنا وَكَذَلِكَ قَالَ مقَاتل قلت هَذَا تَفْسِير بِلَازِم اللَّفْظَة وحقيقتها أَعم من ذَلِك فان الْعَرَب تَقول أعياني أَن أعرف كَذَا وعييت بِهِ إِذا لم تهتد لَهُ لوجهه وَلم تقدر على مَعْرفَته وتحصيله فَتَقول أعياني دواؤك إِذا لم تهتد وَلم تقف عَلَيْهِ ولازم هَذَا الْمَعْنى الْعَجز عَنهُ وَالْبَيْت الَّذِي اسْتشْهدُوا بِهِ شَاهد لهَذَا الْمَعْنى فان الْحَمَامَة لم تعجز عَن بيضتها وَلَكِن أعيادها إِذا أَرَادَت أَن تبيض أَيْن ترمي بالبيضة فَهِيَ تَدور وتجول حَتَّى ترمي بهَا فَإِذا باضت أعياها أَيْن تحفظها وتودعها حَتَّى لَا تُنال فَهِيَ تنقلها من مَكَان إِلَى مَكَان وتحار أَيْن تجْعَل مقرّها كَمَا هُوَ حَال من عى بأَمْره فَلم يدر من أَيْن يقْصد لَهُ وَمن أَيْن يَأْتِيهِ وَلَيْسَ المُرَاد بالإعياء فِي هَذِه الْآيَة التَّعَب كَمَا يظنّه من لم يعرف تَفْسِير الْقُرْآن بل هَذَا الْمَعْنى هُوَ الَّذِي نَفَاهُ سُبْحَانَهُ عَن نَفسه فِي آخر السُّورَة بقوله {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ أنّهم {فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} أَي أَنهم الْتبس عَلَيْهِم إِعَادَة الْخلق خلقا جَدِيدا ثمَّ نبههم على مَا هُوَ من أعظم آيَات قدرته وشواهد ربوبيّته وأدلّة الْمعَاد وَهُوَ خلق الْإِنْسَان فَإِنَّهُ من أعظم الْأَدِلَّة على التَّوْحِيد والمعاد وَأي دَلِيل أوضح من تركيب هَذِه الصُّورَة الآدميّة بأعضائها وقواها وصفاتها وَمَا فِيهَا من اللَّحْم والعظم وَالْعُرُوق والأعصاب والرباطات والمنافذ والآلات والعلوم والإرادات والصناعات كل ذَلِك من نُطْفَة مَاء فَلَو أنصف العَبْد ربه لاكتفى بفكره فِي نَفسه وَاسْتدلَّ بِوُجُودِهِ على جَمِيع مَا أخْبرت بِهِ الرُّسُل عَن الله وأسمائه وَصِفَاته ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ عَن إحاطة علمه بِهِ حَتَّى علم وساوس نَفسه ثمَّ أخبر عَن قربه إِلَيْهِ بِالْعلمِ والإحاطة وَأَن ذَلِك أدنى إِلَيْهِ من الْعرق الَّذِي هُوَ دَاخل بدنه فَهُوَ أقرب إِلَيْهِ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَالْعلم بِهِ من ذَلِك الْعرق وَقَالَ شَيخنَا المُرَاد بقول نَحن أَي ملائكتنا كَمَا قَالَ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قرآنه} أَي إِذا قَرَأَهُ عَلَيْك رَسُولنَا جِبْرِيل قَالَ وَيدل عَلَيْهِ قَوْله {إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان} فقيد الْقرب الْمَذْكُور بتلقّي الْملكَيْنِ وَلَو كَانَ المُرَاد بِهِ قرب الذَّات لم يتَقَيَّد بِوَقْت تلقي الْملكَيْنِ فَلَا فِي صَحبه الْآيَة لحلولي وَلَا معطّل ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ أَن على يَمِينه وشماله ملكَيْنِ يكتبان أَعماله وأقواله وَنبهَ بإحصاء الْأَقْوَال وكتابتها على كِتَابَة الْأَعْمَال الَّتِي هِيَ أقل وقوعا وَأعظم أثرا من الْأَقْوَال وَهِي غايات الْأَقْوَال ونهايتها ثمَّ أخبر عَن الْقِيَامَة الصُّغْرَى وَهِي سكرة الْمَوْت وَأَنَّهَا تَجِيء بِالْحَقِّ وَهُوَ لقاؤه سُبْحَانَهُ والقدوم عَلَيْهِ وَعرض الرّوح عَلَيْهِ وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب الَّذِي تعجل لَهَا قبل الْقِيَامَة الْكُبْرَى ثمَّ ذكر الْقِيَامَة الْكُبْرَى بقول {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيد} ثمَّ أخبر عَن أَحْوَال الْخلق فِي هَذَا الْيَوْم وَأَن كل أحد يَأْتِي الله سُبْحَانَهُ ذَلِك الْيَوْم وَمَعَهُ سائق يَسُوقهُ وشهيد يشْهد عَلَيْهِ وَهَذَا غير شَهَادَة جوارحه وَغير شَهَادَة الأَرْض الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا لَهُ عَلَيْهِ وَغير شَهَادَة رَسُوله وَالْمُؤمنِينَ فَإِن الله سُبْحَانَهُ يستشهد على العَبْد الْحفظَة والأنبياء والأمكنة الَّتِي عمِلُوا عَلَيْهَا الْخَيْر وَالشَّر والجلود الَّتِي عصوه بهَا وَلَا يحكم بَينهم بمجرّد علمه وَهُوَ أعدل العادلين وَأحكم الْحَاكِمين وَلِهَذَا أخبر نبيه أَنه يحكم بَين النَّاس بِمَا سَمعه من إقرارهم وَشَهَادَة البيّنة لَا بمجرّد علمه فَكيف يسوغ لحَاكم أَن يحكم بِمُجَرَّد علمه من غير بيّنة وَلَا إِقْرَار ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ أَن الْإِنْسَان فِي غَفلَة من هَذَا الشَّأْن الَّذِي هُوَ حقيق بِأَن لَا يغْفل عَنهُ وَأَن لَا يزَال على ذكره وباله وَقَالَ {فِي غَفلَة من هَذَا} وَلم يقل عَنهُ كَمَا قَالَ {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مريب} وَلم يقل فِي شكّ فِيهِ وَجَاء هَذَا فِي الْمصدر وان لم يجىء فِي الْفِعْل فَلَا يُقَال غفلت مِنْهُ وَلَا شَككت مِنْهُ كَأَن غفلته وشكه ابْتِدَاء مِنْهُ فَهُوَ مبدأ غفلته وشكّه وَهَذَا أبلغ من أَن يُقَال فِي غَفلَة عَنهُ وَشك فِيهِ فَإِنَّهُ جعل مَا يَنْبَغِي أَن يكون مبدأ التَّذْكِرَة وَالْيَقِين ومنشأهما مبدأ للغفلة وَالشَّكّ ثمَّ أخبر أَن غطاء الْغَفْلَة والذهول يكْشف عَنهُ ذَلِك الْيَوْم كَمَا يكْشف غطاء النّوم عَن الْقلب فيستيقظ وَعَن الْعين فتنفتح فنسبة كشف هَذَا الغطاء عَن العَبْد عِنْد المعاينة كنسبة كشف غطاء النّوم عَنهُ عِنْد الانتباه ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ أَن قرينه وَهُوَ الَّذِي قرن بِهِ فِي الدُّنْيَا من الْمَلَائِكَة يكْتب عمله وَقَوله يَقُول لمّا يحضرهُ هَذَا الَّذِي كنت وكّلتني بِهِ فِي الدُّنْيَا قد أحضرته وَأَتَيْتُك بِهِ هَذَا قَول مُجَاهِد وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة الْمَعْنى هَذَا مَا كتبته عَلَيْهِ وأحصيته من قَوْله وَعَمله حَاضر عِنْدِي وَالتَّحْقِيق أَن الْآيَة نتضمن الْأَمريْنِ أَي هَذَا الشَّخْص الَّذِي وكلت بِهِ وَهَذَا عمله الَّذِي أحصيته عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يُقَال {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} وَهَذَا إِمَّا أَن يكون خطابا للسائق والشهيد
أَو خطابا للْملك الْمُوكل بعذابه وَإِن كَانَ وَاحِدًا وَهُوَ مَذْهَب مَعْرُوف من مَذَاهِب الْعَرَب فِي خطابها أَو تكون الْألف منقلبة عَن نون التَّأْكِيد الْخَفِيفَة ثمَّ أجري الْوَصْل مجْرى الْوَقْف.