إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعيِنُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوُذُ بِاللهِ مِنْ شُروُرِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا. مِنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَليًّا مُرْشِدًا.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَريِكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرسوُلُهُ، صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَىَ يَوْمِ الدِّيِنِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقوُا اللهَ أَيُّها المؤمِنوُنَ، اتَّقوُا اللهَ تَعالَىَ ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ الأنعام: 120, فَإِنَّ رَبَّكُمْ أَمَركُمْ جَلَّ في عُلاهُ بِتَرْك ظاهِرِ الِإثْمِ وَتَرْكِ باطِنِهِ؛ أَتَعْلَموُنَ عِبادَ اللهَ ما ظاهِرُ الِإثْمِ الَّذيِ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعالَىَ بِتَرْكِهِ؟
إِنَّهُ كُلُّ ذَنْبٍ يَشْهَدُهُ النَّاسُ وَيُدْرِكُوُنَهُ بِحَواسِّهِمْ؛ فَذاكَ مِنْ ظاهِرِ الإِثْمِ الَّذِيِ يَجِبُ عَلَىَ المؤْمِنِ تَرْكُهُ وَأَنْ يَبْتَعِدَ عَنْهُ، وَأَمَّا باطِنُ الإِثْمِ: فَإِنَّهُ الذَّنْبُ الَّذيِ لا تَقَعُ عَلَيْهِ أَبْصارُ النَّاسِ، وَلا يَراهُ إِلَّا عالمُ الخفاءِ وَالأَسْرارِ مِنْ ذنوُبِ القُلوُبِ وَمعاصيِها وَما يَقَعُ في السِّرِّ وَالخَفاءِ.
فإِنْ تَنْجُ مِنْها تَنْجُ مِنْ ذيِ عَظيِمَةٍ وَإِلَّا فَإِنِّي لا أَخالُكَ ناجِيًا
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, إِنَّ الذُّنوُبَ أَنْواعٌ وَأَشْكالٌ كُلُّ ذَلِكَ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعالَىَ بِتْركِهِ فيِ قَوْلِهِ: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ الأَنْعامُ: 120 ، إِلَّا أَنَّ مِنْ أَخْطِرِ أَنْواعِ باطِنِ الإِثْمِ: الحَسَدَ ـ نَعوُذُ بِاللهِ مِنْهُ ـ، فَالحَسَدُ مِنْ أَعْظَمِ الأَمْراضِ الَّتِيِ تُصيِبُ القُلوُبَ وَتُبتَلَىَ بِها الأَفْئِدَةُ، ما أَعْظَمَهُ مِنْ بَلاءٍ؛ فَما دَخَلَ الحَسَدُ قَلْبًا إِلَّا أَفْسَدَهُ وَلا أَصابَ نَفْسًا إِلَّا خَرَّبها.
الحَسَدُ - عِبادَ اللهِ - مِنْ أوائِلِ الذُّنوُبِ الَّتِي عُصِيَ اللهُ تَعالَىَ بِها، وَكانَتْ سَبَبًا لِفسادٍ كَبيِرٍ حَتَّىَ قيِلَ: "إِنَّ أَوَّلَ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ تَعالَىَ بِهِ الحَسَدُ"مَجْموُعُ الفَتاوَىَ لابْنِ تَيْمِيَةَ(10/126). فَاتَّقوُا اللهَ أَيُّها المؤْمِنوُنَ، طَهِّروُا قُلوُبَكُمْ مِنَ الحَسَدِ وَالغِلِّ وَسائِرِ الآفاتِ، أَتَعْلموُنَ أَنَّ إِبْليِسَ إِنَّما امْتَنَعَ مِنَ السُّجوُدِ لآدَمَ لما أَمَرَهُ اللهُ تَعالَىَ بِالسُّجوُدِ لَهُ حَسَدًا وَكِبْرًا؛ قالَ اللهُ تَعالَىَ: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ الأَعْرافُ: 12 كِبْرٌ وَحَسَدٌ.
وَلا قَتَلَ هابِيِلُ قابِيِلُ إِلَّا مِنَ الحَسَدِ ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ المائدة: 27
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, إِذا حَسَدَ الإِنْسانُ غَيْرَهُ انْفَتَحَ لَهُ بابُ البَغْيِ وَالظُّلْمِ وَالعُدْوانِ، فَتَوَرَّطَ فيِ أَلْوانٍ مِنَ السَّيِّئاتِ وَصُنوُفٍ مِنَ الآثامِ وَالذُّنوُبِ الظَّاهِرَةِ وَالباطِنَةِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ بَغْيٍ أَوْ اسْتَطالَةٍ عَلَىَ الأَعْراضِ أَوِ انْتِهاكٍ لِلحقوُقِ أَوْ مَنْعٍ لِلواجِباتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَلْوانِ المعاصِيِ وَالسَّيِّئات
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, حَذَّركُمْ رَسوُلُ اللهِ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الحَسَدِ، وَعَظَّمَ أَمْرَهُ فيِ أَحاديِثَ كَثيِرَةٍ؛ فَمِنْها ما رَواهُ أَبُوُ هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ تَعالَىَ عَنْهُ - قالَ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَديثِ، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَحاسَدُوا، ولا تَدابَرُوا، ولا تَباغَضُوا، وكُونُوا عِبادَ اللَّهِ إخْوانًا» البُخارِيُّ(6064), وَمُسْلِمٌ(2563).
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, الحَسَدُ فَسادُ الدِيِنِ وَالدُّنْيا؛ لما يَفْتَحُهُ عَلَىَ الإِنْسانِ مِنَ الشُّروُرِ وَالآفاتِ؛ قالَ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيِما رَواهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَديِثِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» أخرجه الترمذي(2510), وَأَحْمَدُ(1412)بِإِسْنادٍ الرَّاجِحُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ, وَحُسِّنَ لِغَيْرِهِ بِشاهِدٍ أَخْرَجُهُ البُخارِيُّ فيِ الأَدَبِ المفْرَدِ ح( 260).
أَيُّها المؤْمِنوُنَ, الحَسَدُ مِنْ أَعْظَمِ ما يُفْنيِ الحَسناتِ وَيُفْسِدُ الطَّاعاتِ وَيَُخِّربُّ قَلْبَ الِإنْسانِ؛ قالَ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيَّاكم والحَسَدَ» أَيْ: احْذَروُهُ وَاجْتَنبوُهُ؛ «فإنَّ الحَسَدَ يأكُلُ الحسَناتِ كما تأكُلُ النَّارُ الحَطَبَ»أَخْرَجَهُ أَبُوُ داودَ(4903), بِإِسْنادٍ ضَعيِفٍ, وَلَهُ شَواهِدُ.
عِبادَ اللهِ, أيها المؤمنون, أتدرون متى يكون الإنسان حاسدًا؟
إِنَّ الإِنْسانَ يَكوُنُ حَاسِدًا إِذا كَرِهَ إِنْعامَ اللهِ عَلَىَ غَيْرِهِ، مَتَىَ كَرِهَ الإنسان نعمة الله التي تفضل بها على غيره في دين أو دنيا أو في نفسه أو أهله أو ماله أو ولده أو بلده فإنه قد تورط في شعبة من شعب الحسد وقامت فيه هذه الخصلة القبيحة، فأنقذ نفسك يا عبد الله، أنقذ نفسك من أن يدب إليك ويتسلسل إليك شيء من الحسد من حيث لا تشعر وطهر قلبك من كل ذلك بقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»البخاري(13), ومسلم(45).
أيها المؤمنون, إذا كره الإنسان إنعام الله على غيره في دين أو دنيا، في علم أو فضل، في مال أو أهل أو ولد أو بلد فقد وقع في الحسد، فإذا أضاف إلى ذلك تمني زوال تلك النعمة عن ذلك الإنسان فقد أضاف إلى الحسد بغيًا وعدوانًا وشرًّا وطغيانًا، فاتقوا الله عباد الله.
إن الحسد يُنْبِئُ عَنْ اعتراضٍ على قدر الله تعالى ومقابلة ومعارضة لتدبيره؛ فربك الحكيم العليم لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، يعطي لحكمة ويمنع لحكمة، هو الذي قسم الأرزاق في الأديان والأموال والأهل والولد، كل ذلك برحمته وعلمه، ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ﴾ الزخرف: 32 فهذه القسمة التي أوغرت صدرك من مال أو علم أو دين أو صلاح أو دنيا أو ولد أو غير ذلك، هذه القسمة التي ضقت بها مما أفاض الله تعالى به وأنعم على غيرك هي قسمة الله تعالى، فسخطك لها وكراهيتك لها هي سخط لقسمة الحكيم العليم، قسمة أحكم الحاكمين رب العالمين.
فالحاسد معترض على الله، الحاسد ساعٍ في تعطيل ما قدَّره الله تعالى وقضاه؛ قال الله تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ الزخرف: 32 .
أيها المؤمن, إذا قام في قلبك نظر لنعمةٍ أنعم الله تعالى بها على غيرك في دينه أو ماله أو ولده أو أهله فافزع إلى ربك؛ فهو الذي يعطيك وهو الذي يمنعك، فتوجه إليه بالسؤال ولا تشتغل بما في أيدي الناس؛ فإنما في أيدي الناس عرض زائل، والله تعالى هو الذي وهبه وهو الذي يسلبه، فهو الذي يهب من يشاء ويمنع من يشاء، لا تعلق قلبك بشيء من الخلق، عَلِّق قلبك بالله، سله من كل فضل فهو القريب المجيب، وأنزل حاجتك به فلن يخيبك إذا صدقت في اللجأ إليه.
قال الله تعالى في مفاضلة خَلقية بين الذكور والإناث، قال سبحانه بعد أن ذكر تفضيل جنس الرجال على جنس الإناث: ﴿وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾ النساء: 32 ثم قال -سبحانه وتعالى - في الطريق الذي تدرك به الآمال وتحصن به الأمنيات ويدرك به الإنسان ما يأمل من خير الدنيا والآخرة: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ النساء: 32 .
اللهم إنا نسألك من فضلك، اللهم طهِّر قلوبنا من الحسد، واعمرها بكل فضل وخير يا ذا الجلال والإكرام. أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، أحمده حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، الزموا تقواه في السر والعلن؛ تجلب لكم كل خير، وتدفع عنكم كل سوء وشر، اللهم اجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المفلحين وأوليائك الصالحين يا رب العالمين.
أيها المؤمنون عباد الله, الحسد شأنه عظيم، أول ضحاياه هو الحاسد؛ إن الحاسد في أمرٍ مريج؛ ذاك الذي كره الخير للناس معذب مهموم مغموم مكدر حتى قيل: "لم نر ظالـمًا أشبه بمظلوم من الحاسد"العقد الفريد لابن عبد ربه(2/170). وقد وصف بعض الناس حال الحاسد فقال: "طول أسفٍ، ومحالفة كآبة، وشدة تحرق، فهو مكدِّر للنعمة لا يجد لها طعمًا، يرى كل نعمة على الخلق نقمةً عليه ونقصًا في حقه" .
الحاسد - أيها الإخوة - طويل الهم، دائم السخط، مُنَغَّص العيش، وهذا عاجل عقوبته، هذا من عدل الله - عز وجل - وحكمته وعظيم عدله في عباده، هذا عاجل عقوبته، عقوبته هم وغم بغير اجتلاب دنيا مع ذهاب دين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، نعوذ بالله من الخذلان.
أيها المؤمنون, إن محبة المساواة في الخير ومحبة المشاركة في الفضل، بل حتى محبة الامتياز على الغير في فضل وخير مما يهبه الله تعالى - ليس ذلك من الحسد في شيء، كونك تتمنى ما رزق الله غيرك من الخير، كونك تأمل أن يسوق الله لك ما تحب مما رأيت عند غيرك من الفضل؛ هذا ليس من الحسد في شيء، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا حَسَدَ إلّا في اثْنَتَيْنِ» هذه غبطة سميت حسدًا «لا حَسَدَ إلّا في اثْنَتَيْنِ رجلٌ أعطاه اللهُ الحِكْمَة» أي: علمًا «فهو يقضي بها ويعلمها، ورَجُلٍ آتاهُ اللَّهُ مالًا، فَسَلَّطَهُ على هَلَكَتِهِ في الحَقِّ»البخاري(73), ومسلم(816), فإذا رأيت من فَتَح الله عليه في علم أو عبادة أو فَتَح عليه في دنيا فتمنيت أن تكون شريكًا له في ذلك الخير أو مشابهًا له أو حتى أكثر منه تحصيلًا لذلك؛ فلا حرج عليك مادمت لم تكره إنعام الله عليه ولم تتمنَّ أن يُزيل الله تعالى تلك النعمة عنه، فليس هذا من الحسد.
أيها المؤمنون؛ إن من الحسد ما يقع من الأمم والشعوب، فقد حسد أهل الكتاب أهل الإسلام كما قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ البقرة: 109 .
سأل مشركو مكة اليهود: أيهم أفضل محمد ومن معه أم المشركون وما كانوا عليه من عبادة غير الله؟ فقال أولئك اليهود في جوابهم: أنتم خير من محمد. قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ النساء: 52 وهم اليهود ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ وهو ما كان عليه المشركون ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ﴾ أي: أهل الشرك والكفر ﴿أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾ يقول الله تعالى في سبب ذلك ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ النساء: 54 .
أيها المؤمنون, إن بلادكم تنعم بخير كثير في دين ودنيا، فتح الله لكم أرزاقًا عظيمة من بطون الأرض وكنوزها، وأغدق عليكم خيرات كثيرة في أنفسكم وأهليكم وأمنكم وسائر مكتسباتكم، وأنعم عليكم بتحكيم الشريعة في بلادكم، فبلادكم من بين بلاد الدنيا كلها تُحكِّم الكتاب والسنة، وتجتهد في إقامة الشريعة والملة؛ ذاك فضل الله الذي خص الله تعالى به هذه البلاد، فأثار ذلك حفيظة أقوام كثيرين، وجدوا لذلك حنقًا وحسدًا، فحسدوكم على تلك النعم وتمنوا زوالها، وكرهوا أن ساق الله تعالى إليكم الأرزاق بعد أن كنتم عالة فقراء ليس عندكم من متع الدنيا شيء قد غفل الناس عنكم، فتح الله لكم كنوز الأرض فأصبحتم شامة بين الناس، وولاكم الله تعالى نعمًا كثيرة ويسر لكم ولاة أمر يحكمون الشريعة ويسعون في إصلاح شئونكم قدر المستطاع والطاقة، فكان ذلك موجبًا للحسد والحقد، وهذا ما يفسر تلك الأقلام والألسن والقلوب الحانقة التي تنفس شرًّا عظيمًا، وتتكلم بزور كبير تجاه هذه البلاد قيادةً وشعبًا.
فاتقوا الله عباد الله, حافظوا على ما أنعم الله تعالى به عليكم، واعلموا أن ذلك الحسد الذي ملأ قلوب أولئك الأقوام فنطقت به ألسنتهم وعملت به وسائل إعلامهم وتحركت به كلماتهم؛ يدفعه عنكم صدق اعتصامكم بالكتاب والسنة، وصدق لجوئكم إلى الله تعالى؛ فإن الحسد في الأمر الخاص وفي الأمر العام لا يُستدفع بمثل التقوى؛ فإن التقوى سبب لدفع كل سيئة وشر؛ ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)﴾ النحل: 128 .
فالتقوى سبب للخيرات ومدافعة رب الأرض والسموات، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الحج: 38 ، فمدافعة الله عن العبد تدفع عنه كل سوء وشر، فادفعوا عنكم ذلك الحسد في خاصة أنفسكم وأموركم الخاصة وفي عامة شأنكم وفي بلادكم وولاتكم بتقوى الله - عز وجل-.
أيها المؤمنون, إن مما يدفع عن الإنسان حسد الحاسدين أن يلجأ إلى الله رب العالمين؛ فإنه ما دفع شر بمثل الاعتصام بالله واللجَأ إليه، والفزع إليه سبحانه بالدعاء والتضرع والإنابة والذكر؛ لذلك أنزل سورةً في الكتاب الحكيم في دفع شر الحاسدين: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)﴾ الفلق: 1- 5 شرع الله لكم قراءتها أدبار الصلاة، وفي الغدو والآصال، في أذكار الصباح والمساء، وعند النوم، وفي مناسبات كثيرة، فما استدفع الحسد بمثل الاستعاذة بالله وطلب الحماية منه والعصمة، فالجأوا إلى الله - عز وجل -، واحرصوا على عامة الأذكار؛ فإنها من أسباب دفع شر الحاسدين.
أيها المؤمنون, إن من أعظم ما يدفع الإنسان به الشر عن نفسه وعن أهله وعن ولده وعن بلده وعن أمته - أن يكثر التوبة والاستغفار؛ فإنه ما أصيب أحد إلا بذنب؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾ الشورى: 30 جل في علاه: ﴿يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾ يتجاوز ويصفح عن كثير، فما نزل بك مما تكره في خاصة أمرك أو عامته في دقيق أو جليل إنما هو بذنبك؛ ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾ الشورى: 30 لذلك كانت التوبة من أعظم ما يستدفع به ما يكره.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "فليس للعبد" انتبه لهذه الكلمات الموجزات "فليس للعبد إذا بُغي عليه" أي: ظلمه أحد وتسلط عليه أحد "ليس للعبد إذا بغي عليه شيء أنفع من التوبة النصوح إلى الله تعالى"بدائع الفوائد(2/242)؛ فتوبوا إلى الله أيها المؤمنون لعلكم تفلحون، توبوا توبةً صادقةً من صغير الذنب وكبيره، من ظاهره وسره، أنيبوا إلى الله، وأكثروا من الاستغفار؛ فإن الله يدفع عنكم بالتوبة شرًّا عظيمًا في الدنيا والآخرة.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المفلحين وأوليائك الصالحين يا رب العالمين، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، اللهم اغفر لنا السر والإعلان، الدقيق والجليل، الصغير والكبير يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ربنا أعنا ولا تعن علينا، اللهم انصرنا على من بغى علينا، اللهم آثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم اهدنا ويسر الهدى لنا، اللهم اجعلنا لك ذاكرين شاكرين راغبين راهبين أواهين منيبين، اللهم تقبل توبتنا وثبت حجتنا واغفر زلتنا وأقل عثرتنا وسلَّ السخائم من قلوبنا.
اللهم طهِّر قلوبنا من الغل والحسد والحقد والشرك والكفر والنفاق وسائر الآفات، اللهم اعمرها بمحبتك وأسكنها تعظيمك، واجعلنا من أصحاب القلوب المطمئنة بذكرك، واصرف عنا كل سوء وشر يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم إنا نسألك من فضلك ونعوذ بك من سوء أعمالنا وشر منقلبنا، اللهم اهدنا فيمن هديت يا ذا الجلال والإكرام واغفر لنا الخطأ والزلل يا رحمن.
اللهم إنا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا وارحمنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد.