إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخريين لا إله إلا هو الرحمن الرحيم, وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله, اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله أوصيكم بما أوصاكم الله تعالى به من تقواه ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾[النساء: 131] ؛ فإن خير ما خرجتم به من هذه الدنيا تقوى الله جل في علاه ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾[البقرة: 197].
التقوى أيها المؤمنون أعظم عمل يتقرب به إلى الله تعالى عباده؛ لأنها العبادة التي بها يتحقق كمال العبودية لله –جل وعلا- في السر والعلن، في الغيب والشهادة، في الظاهر والباطن، في العسر واليسر، في المنشط والمكره، في كل شأن دقيق أو جليل.
فالمتقي هو القائم بطاعة الله تعالى، الطالب لمرضاته، الباذل وسعه في كل ما يحبه مولاه، هكذا يكون العبد تقيًا فالتقوى ليست عبادة وقتية تنتهي بانتهاء الوقت أو مكانية تنتهي بالارتحال عن المكان، بل هي سكن القلب ليلًا ونهارًا، سفرًا وحضرًا، في كل أحواله وفي كل شؤونه، مطلوب منه أن يكون متقيًا هكذا يحقق العبد تقوى الله جل في علاه.
قال عمر بن عبد العزيز –رحمه الله-: "لَيْسَ تَقْوَى اللَّهِ بِصِيَامِ النِّهَارِ، وَلَا بِقَيَامِ اللَّيْلِ، وَالتَّخْلِيطِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ تَقْوَى اللَّهِ تَرْكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَأَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ، فَمَنْ رُزِقَ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ إِلَى خَيْرٍ"أخرجه البيهقي في الزهد الكبير ح(964) هذا هو عنوان التقوى، القيام بما أمر الله –جل وعلا- في السر والعلن في الظاهر والباطن في حقه وفي حق خلقه، وترك ما حرم الله تعالى في حقه وحق خلقه في السر والإعلان، عندما تتحقق لك تلك الصفة فأبشر فإنك من المتقين.
إن الله تعالى بين في أول آيات كتابه من هم المتقون فقال جل في علاه في وصف خِصالهم وبيان صِفاتهم قال جل في علاه: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾[البقرة: 2] ثم أورد جملة من صفاتهم, من تحقق بها كان من المتقين ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾[البقرة: 3- 4] إنهم قوم تحلوا بطيب الخِصال وكريم الأخلاق في الظاهر والباطن, فهم يؤمنون بالغيب, وهم يقومون الصلاة, وهم يبذلون ما يستطيعون مما رزقهم الله تعالى, وهم مؤمنون مُقِرُّون بكل ما جاءت به الرسل، وهم مؤمنون باليوم الآخر يرقبونه وبين أعينهم, يومَ يقفون فيه بين يدي الله –عز وجل- يحاسبهم على الدقيق والجليل.
وقد قال الله تعالى لقوم ظنوا أن التقوى خصال مؤقتة أو أحوال معينة ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾[البقرة: 177].
هكذا يسرد الله تعالى صفات هؤلاء الذين يحبهم، ووعدهم جميل الأجر في الدنيا وعظيم الثواب في الآخرة فمن تخلق بتلك الخصال واتصف بتلك الأعمال، فليبشر؛ فإنه من المتقين الذين تولاهم الله تعالى وأعد لهم خيرًا عظيمًا في الدنيا والآخرة.
إن القاعدة التي يبنى عليها كل خصال المتقين هي إخلاص العمل لله –عز وجل- إخلاص العمل بقصده وطلب مرضاته والسعي إليه دون ما سواه بالمحبة والتعظيم، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾[البينة: 5] هذا هو أول ما ينبغي أن يتصف به المتقي أن يطهر قلبه من كل تعلق سوى الله، أن يملأ قلبه بمحبة مولاه، أن يملأ قلبه بمحبة الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وأن يملأه بتعظيمه جل في علاه؛ فلا يكون في قلبه محبوب, ولا مُعظم سوى الله جل في علاه, تتساقط كل المحبات وتتلاشي كل التعظيمات أمام محبته جل في علاه وتعظيمه.
أيها المؤمنون, إن الإخلاص لله –عز وجل- ليس كلمة تُقال فارغة عن معناها إن الإخلاص لله هو قول لا إله إلا الله، قوله بالقلب أولا ثم قوله باللسان ثانيًا؛ إذا قال بقلبه ولسانه انقادت جوارحه لمعنى هذه الكلمة أنه لا محبوب إلا الله جل في علاه، ولا مُعظَّم إلا هو ولا مُتوجَّه إليه بطلب ولا قصد إلا إياه –سبحانه وبحمده- فلا إله إلا الله معناها أنه لا يُحب أحدا من المحبوبات أو شيئًا من المحبوبات سوى الله جل في علاه، ولا يعُظم أحدا من المعظمين سواه جل في علاه والمقصود بالمحبة والتعظيم محبة العبادة، أما المحبة الطبيعية التي تقتضيها الجِبلة من محبة الوالد لولده، والمولود لوالده، والزوج لزوجته، والصديق لصديقه فهذا شيء آخر خارجة عن محبة العبادة.
فإذا كانت حائلة دون تحقيق محبة الله، فإنها تكون معصية له جل في علاه، وإذا كانت حاملة له على طاعة الله كانت من طاعة الله، فينبغي أن نعرف أن لا إله إلا الله التي هي القاعدة الكبرى لتحقيق صفات المتقين أن يكون قلبك ذليلًا لله، أن يكون قلبك خاشعًا لله، أن يكون قلبك معظمًا لله محبًا له –سبحانه وبحمده-.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المفلحين وأوليائك الصالحين أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه أنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده حق حمده لا أحصي ثناء عليه هو كما أثني على نفسه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله, اتقوا الله تعالى وحققوا التقوى في أخلاقكم وأعمالكم، واعلموا أن من صفات المتقين أن يكون العبد عادِلًا في كل شؤونه؛ فالعدل أمر الله تعالى به الناس أجمعين ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[النحل: 90].
فالعدل به أنزل الله تعالى الكتب ولأجله أقام الله تعالى الرسالات، فإن ذلك كله لتحقيق العدل في معاملته وتحقيق العدل في معاملة الخلق، وتحقيق العدل في كل شأن دقيق أو جليل، فإن العدل هو أقرب الخصال للتقوى قال تعالى في محكم كتابه ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[البقرة: 237] وقال –جل وعلا: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾[الفرقان:72]، ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾[الفرقان: 63] كل ذلك في صفات المتقين الذين يحققون العدل في معاملتهم لله –عز وجل- وفي معاملتهم للخلق.
إن العدل به قامت السموات والأرض، إن العدل به يصلح حال الإنسان ومآله، مستقبله وحاضره، فمن أقام العدل فليبشر في كل شأن بخير، والعدل ليس مقصورًا على قاعة المحكمة وفصل الخصومات فحسب، العدل يكون في كل شأن في معاملتك مع نفسك وفي معاملتك مع ولدك، وفي معاملتك مع زوجك، وفي معاملتك مع والديك، وفي معاملتك مع جيرانك، وفي معاملتك مع كل من تعامل حتى في معاملتك مع الحيوان أنت بحاجة إلى العدل.
العدل ليس فقط ما يكون في فصل الخصومات والمنازعات بين الناس، بل هو مسلك يكون في كل شيء:
أن تكون على الجادة دون إفراط ولا تفريط، دون زيادة ولا نقص، أن تُعطي كل ذي حق حقه هذا هو العدل, فالموظف الذي يُعطِّل مهام الناس ومعاملاتهم هذا لم يأتي بالعدل فهو ظالم، فإذا قام بما يجب عليه من أداء الوظيفة وقضاء حوائج الناس على الوجه الذي يرضاه الله تعالى وينجز به ما عاهد عليه من اشتغل عنده وعمل فقد حقق العدل.
العدل يكون في الكلمات عندما تصف الناس أو تتكلم عنهم فاتق الله واحذر لسانك، لذلك إذا استشعرنا معنى العدل في مفهومه الواسع الذي يشمل كل الصفات وكل الخصال، حققنا العدل الذي أمر الله تعالى به في أول المأمورات ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾[النحل: 90].
ثم الإحسان هذه المرتبة الثانية؛ لأن أقل ما تقابل به الناس في معاملتك أن تعدل معهم، ما زاد فضل ما زاد إحسان لكن الذي لا يجوز أن ينزل عنه الإنسان في معاملة الخالق ومعاملة الخلق أن ينزل عن مرتبة العدل لذلك قدمه الله في الأمر قبل غيره من المأمورات، ذاك أنه الحد الأدنى المطلوب في سير الإنسان وسلوكه ومعاملته.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المفلحين وأوليائك الصالحين، ومن العدل أن نعرف حق الأشهر الحرم ونحن في شهر حرام وهو شهر رجب الذي قال فيه النبي –صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ، مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى، وَشَعْبَانَ»البخاري(3197), ومسلم(1679) هذا هو رابع الأشهر الحرم.
والأشهر الحرم أشهر اصطفاها الله واختارها من بين الأشهر فجعل لها حرمة ومكانة ومنزلة بين أيام الزمان في تعظيمها وصيانتها ووقاية النفس من الوقوع في الظلم فيها ولذلك قال: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾[التوبة: 36] وظلم النفس يكون بكل معصية دقيقة أو جليلة، صغيرة أو كبيرة، عامة أو خاصة في حق الله أو في حق الخلق، فاحذروا من ظلم أنفسكم في هذه الأشهر.
ومنها هذا الشهر الذي نحن فيه شهر رجب، ليس لرجب فضيلة على بقية الأشهر من الأعمال الصالحة، فلم يثبت في ذلك شيء عن النبي –صلى الله عليه وسلم- لا في صيامه ولا في قيامه ولا في تخصيص بعض لياليه ولا في شيء من لحظاته، فهو شهر كسائر الأشهر فيما يتعلق بفضائل الأعمال لكنه شهر محرم له منزلة عند الله، من عَظَّمه دخل في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[الحج: 32].
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار واجعلنا من حزبك المتقين يا رب العالمين أقول هذا القول وأساله جل في علاه أن يسلك بنا سبيل الرشاد.
اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، اغفر لنا الظاهر والباطن، أصلح قلوبنا وزكي أعمالنا واختم بالصالحات أعمارنا يا رب العالمين، اللهم اختم بالصالحات أعمارنا، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك يا رب العالمين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان اللهم سدد رميهم وأظهر أمرهم واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، اللهم انصرهم في سوريا وفي سائر البلدان، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سوريا يا رب العالمين، اللهم ألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم، اللهم أنجي المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اكتب لهم فرجًا عاجلًا، اللهم عليك بالظلمة المستبدين، اللهم إنهم لا يعجزونك، اللهم من سعى في المسلمين بسوء أو شر أو فساد فعليك به فإنه لا يعجزك يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم من أرادنا وبلادنا وبلاد المسلمين بسوء أو شر فأشغله بنفسه واكفي المسلمين شره وأعذنا من كيده ومكره ندرأ بك في نحر كل عدو لنا.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، اللهم انصرنا على من بغى علينا، اللهم آثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم اهدنا ويسر الهدى لنا، اللهم اجعلنا لك ذاكرين شاكرين راهبين راغبين أواهين منيبين، اللهم تقبل توبتنا وثبت حجتنا واغفر زلتنا وأقل عثرتنا وسل السَّخائِم من قلوبنا يا رب العالمين, اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.