قال المؤلف رحمه الله :" القاعدة العشرون: القرآن كله محكم باعتبار، وكله متشابه باعتبار، وبعضه محكم وبعضه متشابه باعتبار ثالث".
وبهـٰذا التقسيم الذي ذكره المؤلف رحمه الله في وصف القرآن بالإحكام والتشابه نعلم أن التشابه والإحكام ليسا واردين على معنى واحد، بل على معنيين:
فالإحكام الذي وصف به القرآن على وجه العموم معناه الإتقان، وذلك كقوله تعالىٰ: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)﴾([1]) فهـٰذا الإحكام الذي وصف به القرآن هو الإتقان.
والتشابه الذي وصف به القرآن على وجه العموم أيضاً، وذلك في مثل قوله تعالىٰ: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا﴾([2]) فالمقصود بالتشابه هنا أنه يصدّق بعضه بعضاً، فمعنى التشابه تصديق بعضه بعضاً وتناسب بعضه مع بعض.
وأما الإحكام الذي وصف به بعض القرآن والتشابه الذي وصف به بعض القرآن فهو بخلاف المعنى المتقدم:
فالإحكام الذي وُصف به بعض القرآن هو ظهور المعنى، فما كان معناه ظاهراً لا يشتبه على أحد فهو من الآيات المحكمات.
وأما التشابه الذي وصف به بعض القرآن فالمراد به خفاء المعنى؛ وذلك أن من الآيات ما يخفى معناها على بعض من يقرأ كتاب الله عز وجل.
فعرفنا بهذا أن التشابه الذي وُصف به الكتاب هو غير التشابه الذي وُصفت به بعض الآيات، والإحكام الذي وصف به الكتاب هو غير الإحكام الذي وصف به بعض الآيات.
فليتنبه إلىٰ هـٰذا، وسيأتي إن شاء الله تعالىٰ بيان ذلك في كلام المؤلف.
(وقد وصفه الله تعالى بكل واحد من هذه الأوصاف الثلاثة.
فوصفه بأنه محكم في عدة آيات، وأنه:﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾([3]) ومعنى ذلك أنه في غاية الإحكام ونهاية الانتظام، فأخباره كلها حق وصدق، لا تناقض فيها ولا اختلاف، وأوامره كلها خير وبركة وصلاح، ونواهيه متعلقة بالشرور والأضرار والأخلاق الرذيلة والأعمال السيئة، فهذا إحكامه) .
هـٰذا الوصف هل يخص بعض الآيات أو جميع القرآن؟ نعم جميع القرآن.
(ووصفه بأنه متشابه في قوله من سورة الزمر: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً﴾([4]) أي: متشابهاً في الحسن والصدق والحق، ووروده بالمعاني النافعة المزكية للعقول، المطهرة للقلوب، المُصلحة للأحوال، فألفاظه أحسن الألفاظ ومعانيه أحسن المعاني.
ووصفه بأنه: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾([5]). فهنا وصفه بأن بعضه هكذا وبعضه هكذا، وأن أهل العلم بالكتاب يردون المتشابه منه إلى المحكم، فيصير كله محكماً ويقولون: ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾([6]). أي: وما كان من عنده فلا تناقض فيه، فما اشتبه منه في موضع، فسره الموضع الآخر المحكم، فحصل العلم وزال الإشكال.
ولهذا النوع أمثلة:
منها: ما تقدّم من الإخبار بأنه على كل شيء قدير، وأنّه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
فإذا اشتبهت على من ظن به خلاف الحكمة، وأن هدايته وإضلاله يكون جزافاً لغير سبب، وضحت هذا الإطلاق الآيات الأخر الدالة على أن هدايته لها أسباب، يفعلها العبد ويتصف بها، مثل قوله: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلام﴾،([7]) وأن إضلاله لعبده له أسباب من العبد، وهو توليه للشيطان: ﴿فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إنهم اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّه﴾،([8]) ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾.([9])
وإذا اشتبهت آيات على الجبري الذي يرى أن أفعال العباد مجبورون عليها، بينتها الآيات الأُخر الكثيرة الدالة على أن الله لم يجبر العباد، وأن أعمالهم واقعة باختيارهم وقدرتهم، وأضافها إليهم في آيات غير منحصرة.
كما أنّ هذه الآيات التي أضاف الله فيها الأعمال إلى العباد حسنها وسيِّئها، إذا اشتبهت على القدرية النفاة، وظنوا أنها منقطعة عن قضاء الله وقدره، وأنّ الله ما شاءها منهم ولا قدّرها، تليت عليهم الآيات الكثيرة الصريحة الدالة على تناول قدرة الله لكل شيء من الأعيان والأعمال والأوصاف، وأنّ الله خالق كل شيء.
ومن ذلك: أعمال العباد، وأن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين.
وقيل للطائفتين- الجبرية والقدرية؛ المثال سيق فيهما-: إن الآيات والنصوص كلها حق، ويجب على كل مسلم تصديقها والإيمان بها كلها، وإنها لا تتنافى).
هـٰذا يسمى الجواب الإجمالي، وهـٰذا يسلكه العلماء المحققون في رد الشبه الواردة عليهم من كلام المشبهين؛ يجيبون بجواب إجمالي ينتظم جميع ما يورده الخصم من شبه.
ثم بعد تقرير هـٰذا الجواب الإجمالي الذي يصلح الجواب به على كل شبهة فيه جواب تفصيلي على أفراد الشبه التي يوردونها، هـٰذا الكلام المقدم في قوله: (وقيل للطائفتين: إن الآيات والنصوص كلها حق، ويجب على كل مسلم تصديقها والإيمان بها كلِّها)هـٰذا كله من الجواب الإجمالي. نعم.
(وقيل للطائفتين: إن الآيات والنصوص كلها حق، ويجب على كل مسلم تصديقها والإيمان بها كلها، وإنها لا تتنافى، فهي واقعة منهم وبقدرتهم وإرادتهم، والله تعالى خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم.
وما أُجْمِلَ في بعض الآيات فسرته آيات أخر، وما لم يتوضح في موضع توضح في موضع آخر، وما كان معروفاً بين الناس وورد فيه القرآن أمراً أو ناهياً، كالصلاة والزكاة والزنى والظلم، ولم يفصله فليس مجملاً؛ لأنه أرشدهم إلى ما كانوا يعرفون، وأحالهم على ما كانوا به متلبسين، فليس فيه إشكال بوجه، والله أعلم) .
وهـٰذا الكلام الأخير لرفع دعوى من يدعي الإجمال في هذه الأمور التي ذكرها المؤلف من الصلاة والزكاة والزنى والظلم، فإن من المبتدعة المنحرفين عن الصراط المستقيم من يفسر هذه الأمور بأمور غير ما عُرفت شرعاً ولغة.
وهـٰذا من الإلحاد في القرآن والميل به عن ظاهره.
فالمؤلف رحمه الله يقول: الصلاة والزكاة والزنى والظلم التي ورد الأمر بها والنهي عنها مجملاً في كلام الله عز وجل قد ردّ الشرع الناس في معرفة هذه الأمور إلىٰ ما كانوا يعرفونه من معاني هذه المأمورات و هذه المنهيات، مع أن الشارع في كل هذه الأمور قد أضاف إضافات لا تقتضيها اللغة، ولذلك تجد أن التعريف الاصطلاحي أو الشرعي ل هذه الأمور إما أن يزيد على ما هو معروف لغة وهـٰذا قليل، وإما أن يقصر عما هو معروف لغة وهـٰذا هو الأغلب.
فالصلاة في اللغة معناها: الدعاء، وفي الشرع: التعبد لله عز وجل بأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، فالمعنى أخص.
لكن المراد أن أصل المعنى في هذه المأمورات وأصل المعنى في هذه المنهيات معروف لدى المخاطبين، وإنما جاء الشرع بزيادة بيان وتوضيح.
نعم قبل أن ننتقل من هذه القاعدة نذكِّر:
أن الإحكام العام معناه الإتقان.
والتشابه العام معناه التصديق.
والإحكام الخاص الذي في بعض الآيات: ظهور المعنى بحيث لا يشتبه.
والتشابه الخاص: خفاء المعنى.
فالواجب في المحكم والمتشابه رد المتشابه إلىٰ المحكم بحيث يكون الكتاب كله محكماً.