ثمَّ أَمر نبيه بالتأسي بِهِ سُبْحَانَهُ فِي الصَّبْر على مَا يَقُول أعداؤه فِيهِ كَمَا أَنه سُبْحَانَهُ صَبر على قَول الْيَهُود أَنه استراح وَلَا أحد أَصْبِر على أَذَى يسمعهُ مِنْهُ ثمَّ أمره بِمَا يَسْتَعِين بِهِ على الصَّبْر وَهُوَ التَّسْبِيح بِحَمْد ربه قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا وبالليل وأدبار السُّجُود فَقيل هُوَ الْوتر وَقيل الركعتان بعد الْمغرب وَالْأول قَول ابْن عَبَّاس وَالثَّانِي قَول عمر وَعلي وَأبي هُرَيْرَة وَالْحسن بن عَليّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس وَعَن ابْن عَبَّاس رِوَايَة ثَالِثَة أَنه التَّسْبِيح بِاللِّسَانِ أدبار الصَّلَاة المكتوبات ثمَّ ختم السُّورَة بِذكر الْمعَاد ونداء الْمُنَادِي بِرُجُوع الْأَرْوَاح إِلَى أجسادها للحشر وَأخْبر أَن هَذَا النداء من مَكَان قريب يسمعهُ كل أحد يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَق بِالْبَعْثِ ولقاء الله يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ كَمَا تشقق عَن النَّبَات فَيخْرجُونَ سرَاعًا من غير مهلة وَلَا بطء ذَلِك حشر يسير عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ ثمَّ أخبر سُبْحَانَهُ أَنه عَالم بِمَا يَقُول أعداؤه وَذَلِكَ يتضمّن مجازاته لَهُم بقَوْلهمْ إِذْ لم يخف عَلَيْهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يذكر علمه وَقدرته لتحقيق الْجَزَاء .
ثمَّ أخبرهُ أَنه لَيْسَ بمسلط عَلَيْهِم وَلَا قهّار وَلم يبْعَث ليجبرهم على الْإِسْلَام ويكرههم عَلَيْهِ وَأمره أَن يذكر بِكَلَامِهِ من يخَاف وعيده فَهُوَ الَّذِي ينْتَفع بالتذكير وَأما من لَا يُؤمن بلقائه وَلَا يخَاف وعيده وَلَا يَرْجُو ثَوَابه فَلَا ينْتَفع بالتذكير
فَائِدَة
قَول النَّبِي لعمر وَمَا يدْريك أَن الله اطّلع على أهل بدر فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم أشكل على كثير من النَّاس مَعْنَاهُ فَإِن ظَاهره إِبَاحَة كل الْأَعْمَال لَهُم وتخييرهم فِيمَا شاؤا مِنْهَا وَذَلِكَ مُمْتَنع فَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم ابْن الْجَوْزِيّ لَيْسَ المُرَاد من قَوْله اعْمَلُوا الِاسْتِقْبَال وَإِنَّمَا هُوَ للماضي وَتَقْدِيره أَي عمل كَانَ لكم فقد غفرته قَالَ وَيدل على ذَلِك شَيْئَانِ أَحدهمَا أَنه لَو كَانَ للمستقبل كَانَ جَوَابه قَوْله فسأغفر لكم وَالثَّانِي أَنه كَانَ يكون إطلاقا فِي الذُّنُوب وَلَا وَجه لذَلِك وَحَقِيقَة هَذَا الْجَواب أَنِّي قد غفرت لكم بِهَذِهِ الْغَزْوَة مَا سلف من ذنوبكم لكنه ضَعِيف من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن لفظ اعْمَلُوا يأباه فَإِنَّهُ للاستقبال دون الْمَاضِي وَقَوله قد غفرت لكم لَا يُوجب أَن يكون اعْمَلُوا مثله فَإِن قَوْله قد غفرت تَحْقِيق لوُقُوع الْمَغْفِرَة فِي الْمُسْتَقْبل كَقَوْلِه {أَتَى أَمر الله} وَجَاء رَبك ونظائره الثَّانِي أَن نفس الحَدِيث يردّه فَإِن سَببه قصّة حَاطِب
وتجسسه على النَّبِي وَذَلِكَ ذَنْب وَاقع بعد غَزْوَة بدر لَا قبلهَا وَهُوَ سَبَب الحَدِيث فَهُوَ مُرَاد مِنْهُ قطعا فَالَّذِي نظن فِي ذَلِك وَالله أعلم أَن هَذَا خطاب لقوم قد علم الله سُبْحَانَهُ أنّهم لَا يفارقون دينهم بل يموتون على الْإِسْلَام وَأَنَّهُمْ قد يقارفون بعض مَا يقارفه غَيرهم من الذُّنُوب وَلَكِن لَا يتركهم سُبْحَانَهُ مصرِّين عَلَيْهَا بل يوفّقهم لتوبة نصوح واستغفار وحسنات تمحو أثر ذَلِك وَيكون تخصيصهم بِهَذَا دون غَيرهم لِأَنَّهُ قد تحقق ذَلِك فيهم وَأَنَّهُمْ مغْفُور لَهُم وَلَا يمْنَع ذَلِك كَون الْمَغْفِرَة حصلت بِأَسْبَاب تقوم بهم كَمَا لَا يَقْتَضِي ذَلِك أَن يعطّلوا الْفَرَائِض وثوقا بالمغفرة فَلَو كَانَت قد حصلت بِدُونِ الِاسْتِمْرَار على الْقيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذَلِك إِلَى صَلَاة وَلَا صِيَام وَلَا حج وَلَا زَكَاة وَلَا جِهَاد وَهَذَا محَال.