وَمن أوجب الْوَاجِبَات التَّوْبَة بعد الذَّنب فضمان الْمَغْفِرَة لَا يوجّب تَعْطِيل أَسبَاب الْمَغْفِرَة وَنَظِير هَذَا قَوْله فِي الحَدِيث الآخر أذْنب عبد ذَنبا فَقَالَ أَي ربّ أذنبت ذَنبا فاغفره لي فغفر لَهُ ثمَّ مكث مَا شَاءَ الله أَن يمْكث ثمَّ أذْنب ذَنبا آخر فَقَالَ أَي ربّ أصبت ذَنبا فَاغْفِر لي فغفر لَهُ ثمَّ مكث مَا شَاءَ الله أَن يمْكث ثمَّ أذْنب ذَنبا آخر فَقَالَ رب أصبت ذَنبا فاغفره لي فَقَالَ الله علم عَبدِي أَن لَهُ رَبًّا يغْفر الذَّنب وَيَأْخُذ بِهِ قد غفرت لعبدي فليعمل مَا شَاءَ فَلَيْسَ فِي هَذَا إِطْلَاق وَإِذن مِنْهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِي المحرّمات والجرائم وَإِنَّمَا يدل على أَنه يغْفر لَهُ مَا دَامَ كَذَلِك إِذا أذْنب تَابَ
واختصاص هَذَا العَبْد بِهَذَا لِأَنَّهُ قد علم أَنه لَا يصر على ذَنْب وَأَنه كلما أذْنب تَابَ حكم يعم كل من كَانَت حَاله حَاله لَكِن ذَلِك العَبْد مَقْطُوع لَهُ بذلك كَمَا قطع بِهِ لأهل بدر وَكَذَلِكَ كل من بشّره رَسُول الله بِالْجنَّةِ أَو أخبرهُ بِأَنَّهُ مغْفُور لَهُ لم يفهم مِنْهُ هُوَ وَلَا غَيره من الصَّحَابَة إِطْلَاق الذُّنُوب والمعاصي لَهُ ومسامحته بترك الْوَاجِبَات بل كَانَ هَؤُلَاءِ أَشد اجْتِهَادًا وحذرا وخوفا بعد الْبشَارَة مِنْهُم قبلهَا كالعشرة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ وَقد كَانَ الصديّق شَدِيد الحذر والمخافة وَكَذَلِكَ عمر فَلهم علمُوا أَن الْبشَارَة الْمُطلقَة مقيّدة بشروطها والاستمرار عَلَيْهَا إِلَى الْمَوْت ومقيدة بانتقاء موانعها وَلم يفهم أحد مِنْهُم من ذَلِك الْإِطْلَاق الْإِذْن فِيمَا شاؤا من الْأَعْمَال.
فَائِدَة جليلة قَوْله تَعَالَى
{هُوَ الَّذِي جعل لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور} أخبر سُبْحَانَهُ أَنه جعل الأَرْض ذلولا منقادة للْوَطْء عَلَيْهَا وحفرها وشقّها وَالْبناء عَلَيْهَا وَلم يَجْعَلهَا مستصعبة ممتنعة على من أَرَادَ ذَلِك مِنْهَا وَأخْبر سُبْحَانَهُ أَنه جعلهَا مهادا وفراشا وبساطا وقرارا وكفاتا وَأخْبر أَنه دحاها وطحاها وَأخرج مِنْهَا ماءها ومرعاها وثبَّتها بالجبال ونهج فِيهَا الفجاج والطرق وأجرى فِيهَا الْأَنْهَار والعيون وَبَارك فِيهَا وقدّر فِيهَا أقواتها وَمن بركتها أَن الْحَيَوَانَات كلهَا وأرزاقها وأقواتها تخرج مِنْهَا وَمن بركاتها أَنَّك تودع فِيهَا الْحبّ فتخرجه لَك أَضْعَاف أَضْعَاف مَا كَانَ وَمن بركاتها أَنَّهَا تحمل الْأَذَى على ظهرهَا وَتخرج لَك من بَطنهَا أحسن الْأَشْيَاء وأنفعها فتوارى مِنْهُ كل قَبِيح وَتخرج لَهُ كل مليح وَمن بركتها أَنَّهَا تستر قبائح العَبْد وفضلات بدنه وتواريها وتضمّه وتؤويه وَتخرج لَهُ طَعَامه وَشَرَابه فَهِيَ أحمل شَيْء للأذى وأعوده بالنفع فَلَا كَانَ من التُّرَاب خير مِنْهُ وَأبْعد من الْأَذَى وَأقرب إِلَى الْخَيْر
وَالْمَقْصُود أَنه سُبْحَانَهُ جعل لنا الأَرْض كَالْجمَلِ الذلول الَّذِي كَيْفَمَا يُقَاد ينقاد وَحسن التَّعْبِير بمناكبها عَن طرقها وفجاجها لما تقدّم من وصفهَا بِكَوْنِهَا ذلولا فالماشي عَلَيْهَا يطَأ على مناكبها وَهُوَ أَعلَى شَيْء فِيهَا وَلِهَذَا فسرت المناكب بِالْجَبَلِ كمناكب الْإِنْسَان وَهِي أعاليه قَالُوا وَذَلِكَ تَنْبِيه على أَن الْمَشْي فِي سهولها أيسر وَقَالَت طَائِفَة بل المناكب الجوانب والنواحي وَمِنْه مناكب الْإِنْسَان لجوانبه وَالَّذِي يظْهر أَن المُرَاد بالمناكب الأعالي وَهَذَا الْوَجْه الَّذِي يمشي عَلَيْهِ الْحَيَوَان هُوَ العالي من الأَرْض دون الْوَجْه الْمُقَابل لَهُ فان سطح الكرة أَعْلَاهَا وَالْمَشْي إِنَّمَا يَقع فِي سطحها وَحسن التَّعْبِير عَنهُ بالمناكب لما تقدّم من وصفهَا بِأَنَّهَا ذَلُول ثمَّ أَمرهم أَن يَأْكُلُوا من رزقه الَّذِي أودعهُ فِيهَا فذلّلها لَهُم ووطّأها وفتق فِيهَا السبل والطرق الَّتِي يَمْشُونَ فِيهَا وأودعها رزقهم فَذكر تهيئة الْمسكن للِانْتِفَاع والتقلب فِيهِ بالذهاب والمجيء وَالْأكل مِمَّا أودع فِيهَا للساكن ثمَّ نبّه بقوله وَإِلَيْهِ النُّشُورُ على أنّا فِي هَذَا الْمسكن غير مستوطنين وَلَا مقيمين بل دخلناه عابري سَبِيل فَلَا يحسن أَن نتخذه وطنا ومستقرّا وَإِنَّمَا دخلناه لنتزوّد مِنْهُ إِلَى دَار الْقَرار فَهُوَ منزل عبور لَا مُسْتَقر حبور ومعبر وممر لَا وَطن ومستقر فتضمّنت الْآيَة الدّلَالَة على ربوبيّته ووحدانيّته وَقدرته وحكمته ولطفه والتذكير بنعمه وإحسانه والتحذير من الركون إِلَى الدُّنْيَا واتخاذها وطنا ومستقرا بل نسرع فِيهَا السّير إِلَى دَاره وجنّته فَالله فِي مَا ضمن هَذِه الْآيَة من مَعْرفَته وتوحيده والتذكير بنعمه والحث على السّير إِلَيْهِ والاستعداد للقائه والقدوم عَلَيْهِ والإعلام بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يطوي هَذِه الدَّار كَأَن لم تكن وَأَنه يحي أَهلهَا بعد مَا أماتهم وَإِلَيْهِ النشور