قال المؤلف رحمه الله :" القاعدة الثالثة والعشرون : إرشادات القرآن على نوعين:
أحدهما: أن يرشد أمراً ونهياً وخبراً إلى أمر معروف شرعاً أو معروف عرفاً كما تقدم.
والنوع الثاني: أن يرشد إلىٰ استخراج الأشياء النافعة من أصول معروفة، ويعمل الفكر في استفادة المنافع منها.
وهذه القاعدة شريفة جليلة القدر.
أما النوع الأول: فأكثر إرشادات القرآن في الأمور الخيرية([1]) والأمور الحُكْمية داخلة فيها.
وأما النوع الثاني: وهو المقصود هنا، فإنه دعا عباده في آيات كثيرة إلى التفكر في خلق السماوات والأرض، وما خلق الله فيهما من العوالم، وإلى النظر فيها.
وأخبر أنه سخّرها لمصالحنا ومنافعنا، وأنه أنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَٰوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾([2]). ونبه العقول على التفكر فيها، واستخراج أنواع العلوم والفوائد منها.
وذلك أننا إذا فكرنا فيها، ونظرنا حالها وأوصافها وانتظامها، ولأي شيء خلقت، ولأي فائدة أبقيت؟ وماذا فيها من الآيات، وما احتوت عليه من المنافع؟ أفادنا هذا الفكر فيها علمين جليلين".
هذه القاعدة الثالثة والعشرون أشار فيها الشيخ رحمه الله إلىٰ أن القرآن (يرشد إلىٰ استخراج الأشياء النافعة من أصول معروفة، ويعمل الفكر في استفادة المنافع منها) . هـٰذا المقصود بالقاعدة، والنوع الأول تقدم في القاعدة الحادية والعشرين، وهي: إجراء الأمور على ما اقتضاه العرف فيما لم يرد فيه تحديد من الشرع، وأن الشرع رد الناس فيما يختلفون فيه إلى العرف.
النوع الثاني من القواعد هو: النظر في آلاء الله عز وجل، وآياته الكونية الدالة على عظيم خلقه وصنعه جل وعلا.
فالنوع الأول تقدم في القاعدة الحادية والعشرين، والنوع الثاني سيأتي له إشارة أو سيأتي له بعض البيان في هذه القاعدة.
وما ذكره الله جل وعلا في آيات الكون الخلْقية، وما امتن به عليهم من الخلق أفاد فائدتين:
(أحدهما: أننا نستدل بها على ما لله من صفات الكمال والعظمة، والحكم البالغة، وما له من النعم الواسعة والأيادي المتكاثرة، وعلى صدق ما أخبر به من المعاد والجنة والنار، وعلى صدق رسله وحقيقة ما جاؤوا به.
وهذا النوع قد أكثر منه أهل العلم، ولكل من ذلك ما وصل إليه علمه، فإن الله أخبر أن الآيات إنما ينتفع بها أولو الألباب.
وهذا أجل العِلْمين وأعلاهما، وأكملهما.
والعلم الثاني: أننا نتفكر فيها ونستخرج منها المنافع المتنوعة، فإن الله سخرها لنا، وسلطنا على استخراج جميع ما لنا فيها من المنافع والخيرات الدينية والدنيوية. فسخّر([3]) لنا أرضها لنحرثها ونزرعها ونغرسها، ونستخرج معادنها وبركتها، وجعلها طوع علومنا وأعمالنا لنستخرج منها الصناعات النافعة. فجميع فنون الصناعات على كثرتها وتنوعها وتفوقها –لا سيما في هذه الأوقات- كل ذلك داخل في تسخيرها لنا.
وقد عرفنا([4]) الحاجة؛ بل الضرورة في هذه الأوقات إلى استنباط المنافع وترقية الصنائع إلى ما لا حد له، وقد ظهر في هذه الأوقات من موادها وعناصرها أمور فيها فوائد عظيمة للخلق.
وقد تقدّم لنا في قاعدة اللازم: أنّ ما لا تتم الأمور المطلوبة إلا به فهو مطلوب. وهذا يدلّ على أن تعلم الصناعات والمخترعات الحادثة من الأمور المطلوبة شرعاً، كما هي مطلوبة لازمة عقلاً، وأنها من الجهاد في سبيل الله، ومن علوم القرآن.
فإنّ القرآن([5]) نبه العباد على أنه جعل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وأنه سخر لهم ما في الأرض. فعليهم أن يسعوا لتحصيل هذه المنافع من أقرب الطرق إلى تحصيلها، وهي معروفة بالتجارب.
وهذا من آيات القرآن. وهو أكبر دليل على سعة علم الله وحكمته ورحمته بعباده بأن أباح لهم جميع النعم، ويسّر لهم الوصول إليها بطرق لا تزال تحدث وقتاً بعد وقت. وقد أخبر في عدة آيات أنه تذكرة يتذكر بها العباد في كل ما ينفعهم فيسلكونه وما يضرهم فيتركونه، وأنه هداية لجميع المصالح) .
إذاً أمر الله جل وعلا بالنظر في الآيات الكونية- وهو كثير في كتاب الله عز وجل- يفيدنا فائدتين:
الفائدة الأولى: الاستدلال بها على عظيم الربّ الذي خلقها وسخرها لعباده.
الأمر الثاني: هو الاستفادة مما فيها مما سخّره الله عز وجل لبني آدم.
وهاتان فائدتان جليلتان.
أما الفائدة الأولى فيزداد بها الإيمان، وتعمر بها الآخرة؛ لأنها مما يصلح به القلب.
وأما الفائدة الثانية: فهو لعمارة الدنيا وإقامتها، وتحقيق مصالحها وتحصيلها.
ولاشك أن الثاني مقصود، كما أنّ الأول مقصود؛ لكن القصد الأكبر والأعظم هو الأول، ولذلك قال الله جل وعلا: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾([6]). فهـٰذا هو المقصود الأكبر والأعظم من هذه الآيات التي أمر الله جل وعلا بالنظر إليها؛ ولكن مما يستفاد أيضاً من هذه الآيات هو تحقيق ما سخرها الله جل وعلا من أجله، وهو الانتفاع بها في عمارة الدنيا، على أن لا يطغى ذلك على المعنى الأول، وعلى أن يضبط ذلك بالإطار العام، وهو أن لا يخرج بها عن المقصود، وهو عبادة الله جل وعلا.
وقول الشيخ رحمه الله: (وهذا يدلّ على أنّ تعلم الصناعات والمخترعات الحادثة من الأمور المطلوبة شرعاً) لا إشكال في ذلك، فهو من فروض الكفايات التي يجب على الأمة تحصيلها، (كما هي مطلوبة لازمة عقلاً، وأنها من الجهاد في سبيل الله) لأنها من الإعداد الذي ذكره الله جل وعلا في قوله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾([7]). وتقدم لنا أن القوة أوسع من كونها القوة الحربية، بل القوة المعنوية والقوة النفسية وغير ذلك من القوى، ولا شك أن الأمة إذا كانت متخلفة ليس عندها معرفة ولا إتقان لما تُعمر به الدنيا- كما هو الحال الآن- أن ذلك من الضعف والوهن؛ ولذلك قال رحمه الله: (وأنها من الجهاد في سبيل الله، ومن علوم القرآن) من علوم القرآن على وجه العموم لا على وجه التفصيل، فلم يأت القرآن كتاب فيزياء، ولم يأتِ الكتاب كشرح لما تضمنه علم الأحياء أو علم الكيمياء أو غير ذلك من علوم الطبيعية، إنما أتى بلفت النظر إلىٰ هذه الأمور والاستفادة منها في تحقيق غاية الوجود وهي عبادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم ضرب مثالاً لذلك بتسخير الحديد وذكر الله جل وعلا أن فيه بأساً شديداً، وأن هـٰذا الذكر وهـٰذا الامتنان للاستدلال على قوة من خلقه وعظمة الصانع جل وعلا، وأيضاً للاستفادة منه في عمارة الدنيا.