إِنَّ الحَمْدَ للهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيِنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيِهِ، وَنَعوُذُ بِاللهِ مِنْ شروُرِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيِكَ لَهُ، يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالملائِكَةُ مِنْ خَيِفَتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرسوُلُهُ، صَفِيُّهُ وَخَليِلُهُ، خِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَىَ يَوْمِ الدِّيِنِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، اتَّقوُا اللهَ جَلَّ في عُلاهُ حَقَّ تَقْواهُ؛ فَتَقْوَىَ اللهِ تَجْلَبُ كُلَّ خَيْرٍ وَتَدْفَعُ كُلَّ شَرٍّ، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا 2 وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾الطلاق:2-3، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾الطلاق:5، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾الطلاق:4.
أَيُّها المؤْمِنوُنَ عِبادَ اللهِ, إِنَّ اللهَ تَعالَىَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالهُدَىَ وَدِيِنِ الحَقِّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بَشيِرًا وَنَذيرًا، فَقامَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أَمَرَهُ اللهُ بِهِ، مِنْ بَلاغِ رِسالَتِهِ، وَهِدايَةِ الخَلْقُ، وَبَيانِ ما يَجِبُ للهِ تَعالَىَ عَلَىَ عِبادِهِ، فَدَعا النَّاسَ إِلَىَ أَنْ يَعْبدوُا اللهَ وَحْدَهُ لا شَريِكَ لَهُ، وَأَنَّ يقولوُا: لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ لاَ مَعْبوُدَ بَحَقٍّ إِلاَّ هُوَ، خَالِصَةً بِها قُلوُبُهمْ. وَكَما قالَ اللهُ تَعالَىَ في بَيانَ عَظيمِ وَصْفِهِ، وَما لَهُ مِنْ كَريِمِ الصِّفاتِ وَجَليِلِ السَّجايا: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾التوبة:128.
هَذِهِ خِلالِهِ، وَتِلْكَ هِيَ صِفاتُهُ تَتَجَلَّىَ فِيِ أَقْوالِهِ وَأَعْمالِهِ وَمُعامَلَتِهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، }عَزيِزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتَّمْ{، يَشُقُّ عَلَيْهِ كُلُّ ما يَشُقَّ عَلَىَ أُمَّتِهِ؛ فَهُوَ بِهِمْ رؤوُفٌ رَحيِمٌ، هُوَ حَريِصٌ عَلَىَ أَنْ يُحَقِّقوُا عِبادَةَ اللهِ عَلَىَ الوَجْهُ الَّذِي يُرْضيِهِ دوُنَ أَنْ تَلْحَقُهُمْ مَشَقَّةٌ أَوْ عَنَتٌ؛ وَلِذَلِكَ كانَ بِناءَ هَذهِ الشَّريِعَةِ عَلَىَ دَفْعْ الحَرَجِ وَاليُسْرِ الَّذِيِ يُدْرِكُ بِهِ الإِنْسانُ سَعادَةَ الدُّنْيا وَفوْزَ الآخِرَةِ، يُحَقَّقُ بِهِ عُبوُدَيَّتَهُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، يُحَقَّقُ عُبوُدَيَّةَ اللهِ تَعالَىَ، وَالعِبادَةَ لَهُ عَلَىَ الوَجْهِ الَّذِيِ يُرْضِيِهُ دوُنَ أَنْ يُعيِقَ نَفْسَهُ عَنْ إِدْراكِ ما يُمكُنُ إِدْراكُهُ مِنْ مَصالحِ الدُّنْيا.
﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾التوبة:128، وَتَأَمَّلوُا ذَلِكَ فيِ كُلِّ ما شَرَعَهُ اللهُ تَعالَىَ لَكُمْ، قالَ اللهُ تَعالَىَ في الضَّابِطِ العامِّ الَّذيِ يَنْتَظِمُ الشَّريِعَةُ كُلُّها: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾التغابن:16، وَفِي الأَرْكانِ قالَ: «صَلِّ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ»البخاري(1117)مِنْ حَديِثِ عِمْرانَ بِنْ حُصَيْنٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ ، وفي الزكاةِ فَرَضَها صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَىَ الأَغْنياءِ تُرَدُّ إِلَىَ الفُقَراءِ، قالَ اللهُ تَعالَىَ: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾التوبة:103 فَهِيَ طُهْرَةٌ تُؤْخَذُ مِنَ الأَغْنياءِ فَتُرَدُّ إِلَىَ الفُقرَاءِ.
وَفيِ الصِّيامِ قالَ اللهُ تَعالَىَ: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾البقرة:184، وَقالَ في الحَجِّ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾آل عمران:97ـ فَكُلُّ ذَلِكَ يُؤكِّدُ أَنَّ هَذِهِ الشَّريعةَ، وَأَنَّ هذا الرَّسوُلَ الكريمَ جاءَ بما لا مَشَقَّةَ فِيِهِ وَلا عُسْرَ, بِما يُحَقِّقُ بِهِ النَّاسُ عِبادَةَ اللهِ تَعالىَ عَلَىَ وَجْهٍ مِنَ الكَمالِ الَّذيِ تَصْلُحُ بِهِ قُلوُبُهُمْ، وَتَسْتَقيِمُ بِهِ أَعْمالُهُمْ، وَيَسْعَدوُنَ بِهِ في دُنْياهُمْ
وَأُخْراهُمْ دوُنَ حَرَجٌ وَلا مَشَقَّةُ ولاَ شَطَطٌ ولا نَقْصٌ وَلا غُلُوٌّ وَلا جَفاءٌ، فَلِلهِ الحُمْدُ كَثيرًا.
أَقوُلُ هَذا القَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العظيمَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتغْفِروُهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفورُ الرَّحيمُ.
* * *
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمينَ، لَهُ الحَمْدُ فيِ الأوُلَىَ وَالآخِرَةِ، وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجُعوُنَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شريِكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسوُلُهُ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُمْ بِإِحْسانٍ إِلَىَ يَوْمِ الدِّيِنِ.
أَمَّا بَعْدَ:
فاتَّقوُا اللهَ عِبادَ اللهِ، اتَّقوُا اللهَ حَقَّ التَّقْوَىَ وَرَاقِبوُهُ في السِّرِّ وَالعَلَنِ، في الدِّقيِقِ وَالجَليِلِ، في الصَّغيِرِ وَالكَبيِرِ، في حَقِّهِ وَفيِ حَقِّ عِبادَهِ، فَباِلتَّقْوَىَ تَنالوُنَ الفَوْزَ وَالسَّبْقَ في الدَّارَيْنِ، وَبِالتَّقْوَىَ تَسْلَموُنَ مِنْ كُلِّ البَلايا وَالنَّوازِلِ وَالمشاقِّ وَالعُسْرِ وَالحَرَجِ. قالَ اللهُ تَعَالَىَ: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾الطلاق:4، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ فَاليُسْرُ وَهُوَ تَسْهيِلُ الأُموٌرِ، وَالسَّلامَةِ مِنَ الحرَجِ، وَالخروُجِ مِنَ المضايِقِ إِنَّما يُنالُ بِتَقْوَىَ اللهِ تَعالَىَ، تَقْواهُ سُبْحانَهُ وَبَحَمْدِهِ تَتَحَقَّقُ بِالقِيامِ بما أَمَرَ بِهِ وَاجْتِنابِ ما نَهَىَ عَنْهُ، وَفيِما إِذا عَثَرَ الإِنْسانُ بِخَطيِئَةٍ أَوْ ذَنْبٍ بِتَرْكِ وَاجِبٍ أْوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ، فَالتَّقْوَىَ أَنْ يُبادِرَ إِلَىَ التَّوْبَةِ إِلَىَ اللهِ، فَتوُبوُا إِلَىَ اللهِ جَميِعًا أَيُّها المؤْمِنوُنَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحوُنَ، توُبوُا إِلَيْهِ في السِّرِّ وَالعَلَنِ، توُبوُا إِلَيْهِ في الصَّغِيرِ وَالكبيِرِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كانَ يُحْسَبُ لَهُ في المجلِسِ الواحِدِ أَكْثِرَ مِنْ سَبْعيِنَ اسْتِغْفارًا".أخرجه البخاري(6307), رَبِّ اغْفِرْ ليِ وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوابُ الرَّحيمُ، يَعُدُّها أَصْحابُهُ لَهُ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَسَلَّمَ في مَجْلَسِ مِنْ مَجالِسِهِ فَأَكْثروُا مِنَ التوَّبَةِ وَالاسْتِغْفارِ، وَأَنيِبوُا إِلَىَ العزيزِ الغَفَّارِ، وَاعْلَموُا أَنَّهُ بِقَدْرِ الِإنابَةِ إِلَيْهِ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ يَنالُ العَبْدُ مِنَ الانْشراحِ وَالبَهْجَةِ وَالسُّروُرِ وَطِيِبِ المعاشِ وَجَميِلِ المنْقَلَبِ وَالمآلِ.
الَّلهُمَّ أَعِنَّا عَلَىَ ذَكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، خُذْ بِنَواصِينا إِلَىَ ما تُحِبُّ وتَرْضَىَ، وَاصْرِفْ عَنَّا السُّوُءَ وَالفَحْشاءَ، الَّلهُمَّ أَعِذْنا مِنَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ، رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحمَنْا لَنَكوُنَنَّ مِنَ الخَاسِريِنَ.
الَّلهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُموُرنِا، وَاجْعَلْ وَلايَتَنا فيِمَنْ خافَكَ واتَّقاكَ وَاتبَّعَ رِضاكَ يا ذا الجَلالِ وَالِإكْرامِ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِنا إِلَىَ ما تُحِبُّ وَتَرْضَىَ، خُذْ بِنواصيِهِمْ إِلَىَ البِرِّ وَالتَّقْوَىَ، سَدِّدْهُمْ في الأَقْوالِ وَالأَعْمالِ، وَأَعِنْهُمْ عَلَىَ ما فيِهِ خَيْرُ العِبادِ وَالبِلادِ، وَاكْتُبْ مِثْلَ ذَلِكَ لِسائِرِ وُلاةِ المسْلِميِنَ يا رَبَّ العالميِنَ.
الَّلهُمَّ أَجِرْنا مِنْ سوُءِ المنْقَلَبِ، الَّلهُمَّ إِنَّا نَعوُذُ بِكَ مِنْ دَرَكِ الشَّقاءِ، وَجَهْدِ البَلاءِ، وَشَماتَةِ الأَعْداءِ، الَّلهُمَّ إنَّا نَعوُذُ بِكَ مِنْ شَرَّ ما اسْتعاذَكَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.