{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}
{ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ}لما قدم دعوة الناس عموماً وذكر مبدأهم: دعا بني إسرائيل خصوصاً وهم اليهود، وجرى الكلام معهم من هنا إلى حزب سيقول السفهاء فتارة دعاهم بالملاطفة وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم، وتارة بالتخويف، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم، وذكر العقوبات التي عاقبهم بها.
فذكر من النعم عليهم عشرة أشياء، وهي: {وَإِذْ نجيناكم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ}[ البقرة: 49 ]{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر}[ البقرة: 50 ]، {بعثناكم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ}[ البقرة: 56 ]، {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام}[ البقرة: 57 ]، {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى}[ البقرة: 57 ]، {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم}[ البقرة: 52 ]، {فَتَابَ عَلَيْكُمْ}[ البقرة: 54 ]، {نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم}[ البقرة: 58 ]، {آتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[ البقرة: 53 ]، {فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً}[ البقرة: 60 ].
وذكر من سوء أفعالهم عشرة أشياء: قوله سمعنا وعصينا، واتخذتم العجل، وقالوا أرنا الله جهرة، وبدل الذين ظلموا ولن نصبر على طعام واحد، ويحرفونه، وتوليتم من بعد ذلك، وقست قلوبكم، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق.
وذكر من عقوباتهم عشرة أشياء: ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، ويعطوا الجزية، واقتلوا أنفسكم، وكونوا قردة، وأنزلنا عليهم رجزاً من السماء، وأخذكم الصاعقة، وجعلنا قلوبهم قاسية، وحرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، وهذا كله جزاء لآبائهم المتقدمين، وخوطب المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم متبعون لهم راضون بأحوالهم، وقد وبخ المعاندين لمحمد صلى الله عليه وسلم بتوبيخات أخر، وهي: كتمانهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم مع معرفتهم به، ويحرّفون الكلم ويقولون هذا من عند الله، وتقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم، وحرصهم على الحياة وعداوتهم لجبريل واتباعهم للسحر، وقولهم نحن أبناء الله، وقولهم يد الله مغلولة.
{ نِعْمَتِي}اسم جنس فهي مفردة بمعنى الجمع، ومعناه: عام في جميع النعم التي على بني إسرائيل مما اشترك فيه معهم غيرهم أو اختصهم به كالمن والسلوى، وللمفسرين فيه أقوال تحمل على أنها أمثلة، واللفظ يعم النعم جميعاً{بعهدي}مطلق في كل ما أخذ عليهم من العهود وقيل: الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذلك قويّ لأنه مقصود الكلام{بِعَهْدِكُمْ}دخول الجنة{وإياى}مفعول بفعل مضمر مؤخر لانفصال الضمير، وليفيد الحصر يفسره فارهبون؛ لأنه قد أخذ معموله، وكذلك إياي فاتقون{بِمَآ أَنزَلْتُ}يعني القرآن{مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ}أي مصدقاً للتوراة، وتصديق القرآن للتوراة وغيره، وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم للأنبياء والمتقدمين له ثلاث معان: أحدها: أنهم أخبروا به ثم ظهر كما قالوا فتبين صدقهم في الإخبار به، والآخر: أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنهم أنبياء وأنزل عليهم الكتب، فهو مصدق لهم أي شاهد بصدقهم، والثالث: أنه وافقهم فيما في كتبهم من التوحيد وذكر الدار الآخرة وغير ذلك من عقائد الشرائع فهو مصدق لهم لاتفاقهم في الإيمان بذلك{وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}الضمير عائد على القرآن، وهذا نهيٌ عن المسابقة إلى الكفر به، ولا يقتضي إباحة الكفر في ثاني حال؛ لأن هذا مفهوم معطل؛ بل يقتضي الأمر بمبادرتهم إلى الإيمان به لما يجدون من ذكره، ولما يعرفون من علامته، {وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَناً قَلِيلاً}: الاشتراء هنا استعارة في استبدال: كقوله: اشتروا الضلالة بالهدى، والآيات هنا هي الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والثمن القليل ما ينتفعون به في الدنيا من بقاء رياستهم، وأخذ الرشا على تغيير أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك، وقيل: كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك، واحتج الحنفية بهذه الآية على منع الإجارة على تعليم القرآن{الحق بالباطل}الحق هنا يراد به نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والباطل الكفر به، وقيل: الحق التوراة، والباطل ما زادوا فيها.
{ وَتَكْتُمُواْ}معطوف على النهي، أو منصوب بإضمار أن في جواب النهي، والواو بمعنى الجمع، والأوّل أرجح، لأنّ العطف يقتضي النهي عن كل واحد من الفعلين، بخلاف النصب بالواو، فإنه إنما يقتضي النهي عن الجمع بين الشيئين، لا النهي عن كل واحد على انفراده{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}أي تعلمون أنه حق{الصلاوة وَآتُواْ الزكاوة}يراد بها صلاة المسلمين وزكاتهم، فهو يقتضي الأمر الدخول في الإسلام{واركعوا}خصص الركوع بعد ذكر الصلاة لأنّ صلاة اليهود بلا ركوع فكأنه أمر بصلاة المسلمين التي فيها الركوع، وقيل: اركعوا للخضوع والانقياد{مَعَ الراكعين}مع المسلمين؛ فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دينهم، وقيل: الأمر بالصلاة مع الجماعة.
{ أَتَأْمُرُونَ}تقريع وتوبيخ لليهود{بالبر}عام في أنواعه؛ فوبخهم على أمر الناس وتركهم له، وقيل: كان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يتبعونه، وقال ابن عباس: بل كانوا يأمرون باتباع التوراة، ويخالفون في جحدهم منها صفة محمد صلى الله عليه وسلم{وَتَنْسَوْنَ}أي تتركون، وهذا تقريع{تَتْلُونَ الكتاب}حجة عليهم{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}توبيخ{واستعينوا بالصبر والصلاوة}قيل: معناه استعينوا بها على مصائب الدنيا، وقد روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة»ونُعي إلى ابن عباس أخوه فقام إلى الصلاة فصلّى ركعتين وقرأ الآية، وقيل: استعينوا بهما على طلب الآخرة، وقيل: الصبر هنا الصوم، وقيل: الصلاة هنا الدعاء{وَإِنَّهَا}الضمير عائد على العبادة التي تضمنها الصبر والصلاة، أو على الاستعانة أو على الصلاة{لَكَبِيرَةٌ}أي شاقة صعبة{يَظُنُّونَ}هنا: يتيقنون.