الطالب: فقوله "الحمد لله نستعينه ونستغفره" يتناول الشكر والاستعانة والاستغفار، الحمد لله وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كما كان بعض المشايخ يقرن بين هذه الثلاثة، فالشكر يتناول ما مضى من إحسانه، والاستغفار لما تقدم من إساءة العبد، والاستعانة لما يستقبله العبد من أموره. وهذه الثلاث لا بد لكل عبد منها دائما، فمن قصر في واحد منها، فقد ظلم لنفسه بحسب تقصير العبد وأصل الإحسان هو التصديق بالحق ومحبته، وأصل الشر هو التكذيب به أو بعضه، ويتبعه التصديق بالباطل ومحبته. والتصديق بالحق وحبه هو أصل العلم النافع والعمل الصالح، والتكذيب به أو بعضه هو من الجهل والظلم.
الشيخ: أنسب لقوله: للتصديق بالحق وحبه التصديق بالحق وحبه ويتبعه التصديق بالباطل ومحبته والتصديق بالحق وحبه عندكم ماذا؟ كذلك هنا يقول: والتكذيب به وبغضه وهو أصل العلم النافع والعمل الصالح.
الطالب: والتصديق بالحق وحبه هو أصل العلم النافع والعمل الصالح، والتكذيب به وبغضه هو من الجهل والظلم فالإنسان إذا لم يعلم من الحق ما يحتاج إليه أو لم يقر به أو لم يحبه كان ظالما لنفسه، وإن أقر بباطل أو أحبه واتبع هواه كان ظالما لنفسه، فظلم النفس يعود إلى اتباع الظن وما تهوى الأنفس، وهذا يكون في اتباع الآراء والأهواء، فأصل الشر البدع، وهو تقديم الرأي على النص، واختيار الهوى على امتثال الأمر، وأصل الخير اتباع الهدى، كما قال تعالى: }فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} طه:123، 124 قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية.
الشيخ: هذا كله يعني تلاحظون أن الشيخ –رحمه الله-في الذنوب التي يذكرها يذكر ذنوب القلب ولا يذكر –رحمه الله-ما يقوم بالجوارح من الذنوب كالسرقة والزنا لوضوح هذه لوضوح ظلم النفس بهذه الأمور،فظلم النفس بهذه الأمور واضح يدركه كل أحد ؛ لكن الذي يخفى هو ظلم النفس بهذه السيئات التي لا يدركها كثير من الناس لا تدرك نظرًا ولا تدرك فهمًا، لا تدرك نظرًا، فلا تقع عليها أعين الناس في الغالب، لأنها مما يكون في القلب فالتصديق والتكذيب، وإن كانت تظهر آثاره وثماره، لكن في الأصل هو في القلب، وكذلك الحب والبغض ثم أيضًا عاد الشيخ –رحمه الله-كرر هذا فقال: فظلم النفس يعود إلى إتباع الظن، وما تهوي الأنفس، وهذا يكون في إتباع الآراء والأهواء يعني ليس فقط في السيئات التي هي من أعمال الجوارح، بل حتى في إتباع الآراء والأهواء يكون للإنسان ظلم لنفسه، وهذا يقع كثيرًا حتى فيمن يتعفف عن السيئات البدنية السيئات التي تقوم بالجوارح قد لا يتحفظ من التعصب لرأي، أو إتباع الهوى أو الانتصار للنفس أو بغض الحق أو أشبه ذلك من السيئات التي يحتاج معها إلى أن يستغفر الله –عز وجل-وأن ينزع وأن يتوب.
ولذلك قال –رحمه الله-: فأصل الشر البدع مع أن الناس لا يقيمون لها وزنًا من حيث التحفظ منها ؛ لأنها قد تكون في صورة عمل صالح في حين أنهم يتحرزون ويتحفظون من مثل الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الأعمال ؛ لظهور فسادها وإدراك خطرها ؛ لكن البدع قد تظهر بمظهر جميل ينخدع به الإنسان.
فلذلك قال الشيخ –رحمه الله-: فأصل الشر البدع ثم بين كون هذه من أصل الشر قال: وهو تقديم الرأي على النص واختيار الهوى على امتثال الأمر، وهذا جامع لكل بدعة، فالحقيقة أن هذا ضابط للبدع في الأقوال والعقائد والأعمال ؛ لأن المبتدع يقدم رأيه وما يشتهيه وما يحبه على ما جاءت به النصوص، فهو إعراض عن النص تقديم الرأي على النص واختيار الهوى على امتثال الأمر.
وهذا لا ينطبق في الحقيقة على مثل المخالفة بمثل الزنا وما أشبه ذلك لأنه هناك تقديم الهوى لا لشبهة إنما لشهوة والكلام هنا في تقديم الهوى على النص من أجل الشبهات، تقديم الرأي على النص واختيار الهوى على امتثال الأمر وهذا باب واسع كما ذكرنا يدخل فيه كل بدعة دقيقة وجليلة، صغيرة وكبيرة في العمل أو الاعتقاد وأصل الخير إتباع الهدى ثم ذكر الآية التي قسمت العمل والعمال إلى قسمين؛ ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾[طه: 123] وهذا القسم الأول عملًا وجزاء ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾[طه: 124] وهذا القسم الثاني عملًا وجزاء في الدنيا والآخرة.
العمل في الأول إتباع الهدى، والجزاء فلا يضل ولا يشقى ونفى الضلال والشقاء مطلقًا ولم يقيده بدار لأنه منفي عنهم حالًا ومآلًا، وأما من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، فإنه ذكر العمل وهو الإعراض على الذكر ثم فصل في الجزاء قال: ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ وهي في الحياة الدنيا ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ وهذا فيه جزاء الآخرة، فهو ينتقل من سوء إلى أسوء من ضنك وضيق إلى انقطاع وشر، وهو ما يكون يوم القيامة من عمى في أحوج ما يكون فيه الإنسان إلى الإبصار.
قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل به بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. والصحيح أنه الضلال والشقاء أمر يكون في الدنيا ويكون في الآخرة والضلال ضد الهدى والشقاء ضد الفلاح الآن يبين الشيخ هذا.
الطالب: والضلال والشقاء هو خلاف الهدى والفلاح الذي أخبر به عن المتقين الذين يهتدون بالكتاب، حيث قال: {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}البقرة: 2 إلى قوله: {أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}البقرة:5والضلال والشقاء هو أمر الضالين والمغضوب عليهم المذكورين.
الشيخ: مقصود الشيخ –رحمه الله-الضلال والشقاء هو أحد الضالين والمغضوب عليهم ؛ لأن الله –عز وجل-قال: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾[الفاتحة: 7] والقسمة أن الشقاء هو الضلال أن الشقاء هو المغضوب عليهم والضلال هم الضالين، فالضلال من نصيب النصارى والشقاء من نصيب اليهود فقوله: تحريف ليس بصحيح، وذكر هذا الشيخ –رحمه الله-أيضًا في موضع آخر في موضوع الفتاوى ذكر القسمة لا ما هو في مجموع الفتاوى في بيان تلبيس الجهمية ذكر انقسام الناس إلى قسمين غير المغضوب عليهم ولا الضالين وقال: إن الضلال هم النصارى وغير المغضوب عليهم الذين هم أشقياء هم اليهود، فالضلال للنصارى والشقاء لليهود.
فقوله: هو أحد يعني أحد الأمرين أحد الضالين والمغضوب عليهم، فتكون القسمة معروفة بما تقدم من أن الضلال ضد الهدى واليهود خالفوا في أي شيء في العلم أو في العمل؟ في العلم خالف اليهود في العلم، فالشقاء لليهود ؛ لأنهم خالفوا العلم والضلال للنصارى ؛ لأنهم خالفوا في العمل يعني أحد المذكورين من الضالين والمغضوب عليهم، ولذلك قال: أحد الضالين والمغضوب عليهم المذكورين في قوله ـ تعالى ـ يشمل غيرهم لكن الكلام أن هذين الصنفين، أو هذين الفريقين متحقق فيهما هذا الوصف تحققًا بشهادة القرآن وكل من وافقهم حصل له من الوصف بقدر ما حصلت لهم الموافقة.
الطالب: والضلال والشقاء هو أحد الضالين والمغضوب عليهم المذكورين في قوله: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون"سنن الترمذي (2953)، فإن اليهود عرفوا الحق ولم يعملوا به، والنصارى عبدوا الله بغير علم. ومن عرف الحق ولم يعمل به كان متبعا لهواه، واتباع الهوى هو الغي، ومن عمل بغير علم كان ضالا.
الشيخ: وكثيرًا ما يقدر الله –جل وعلا-في كتابه بين الضلال والشقاء نفيًا وإثباتًا، فنفيًا في مثل قوله تعالى: في الآية التي مرت معنا ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾[طه: 123] وإثباتا في قوله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ﴾[القمر: 47] ضلال واضح مطابق للضلال الذي سنتكلم عنه في اللفظ، وسعر جمع سعير وهي النار وهي غاية الشقاء ومنتهاها.
ولذلك جمع الله –سبحانه وتعالى-لهم بين الضلال والشقاء ونفى عمن اتبع الهدى هذين الأمرين وبهما يحصل كمال الفلاح والاهتداء يعني بالسلامة منهما يحصل كمال الفلاح والاهتداء وبالوقوع فيهما يحصل للإنسان الضلال والرداء نعوذ بالله من الضلال والرداء.
الطالب: ولهذا نزه الله نبيه عن الضلال والغي بقوله: }وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى(1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى{.النجم:1 :2قال ـ تعالى ـ في صفة أهل الغي: }سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا {،الأعراف:146وقال: }وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ{،الأعراف:175وقال في الضلال: }وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ{ الأنعام:119وقال: }وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ{.القصص:50 والعبد إذا عمل بما علم وَرَّثه الله علم ما لم يعلم، كما قال سبحانه.
الشيخ: وهذا يا إخواني واقع ومن نظر إلى سير العلماء المتقدمين وجد شاهدها في كلامهم وما يصيبون من الحق وما يفتح عليهم في أمور لم يتقدم لهم بها علم ومن ذلك ما جرى لابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ في قصة المتوفى عنها زوجها التي لم يدخل بها، فإنه قضى فيها بقضاء وهو أن لها المهر وعليه العدة، فأخبر بأن النبي –صلى الله عليه وسلم-قضى في بروع بنت واشق بمثل ما قضى، ففرح فرحًا عظيمًا وحمد الله على أن وافق قضاءه قضاء رسول الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-وهذا شاهد لقوله –رحمه الله-وهو قول مأثور عن السلف أن العبد إذا عمل بما علم ورثه الله علم ما لا يعلم بالفتح {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَ}فاطر:2 والرحمة هنا مما يحصل به الفتح لأهل العلم أن يوفقهم إلى الصواب في المسائل، فإن الفتح كما تقدم هو التوسيع وإزالة الإبهام والكشف وذلك بأن يوفقه إلى الصواب في قوله وعمله.
فمن أسهل وأيسر ما يحصل به الإنسان العلم أن يعمل به ولذلك ورد عن السلف ـ رحمهم الله ـ أنهم كانوا يستعينون بالعمل بالعلم على حفظ العلم فالشعبي يقول: كنا نستعين على حفظ الحديث بالصيام وذلك أن العمل الصالح تزكو به النفس ويخلو به القلب من الشواغل ويطهر به القلب.
العلم مقره ومحل سكونه في القلب، فإذا كان القلب مهيأ وتهيئته بالعمل الصالح وتهيئته بالصلاح كان قابلًا للعلوم التي ترد عليه، وإذا كان مليئًا بالنكت من جراء المعاصي والسيئات الصغيرة والكبيرة لم يبقى له مكان ويظلم لم يبقى للعلم مكان ويظلم، فلا يستنير ولا يصيب صوابًا، ولذلك كان السلف إذا أعياهم شيء من مسائل العلم أكثروا من الاستغفار ؛ لأن الاستغفار يجلو القلب ويطهره، وإذا طهر القلب وحصل له الجلاء من الآفات انفتح له باب الخير وكثير من الناس في طلبهم للعلم يشتغلون بالأسباب الحسية ويعتنون بها عناية فائقة ويغفلون عن أسباب المعنوية التي هي الأصل في تحصيل العلوم والأسباب المعنوية هي أعمال القلوب وتهيئتها لحصول العلم، وأما الأسباب الحسية كحضور الحلق والاشتغال بالحفظ وسماع الأشرطة وسؤال أهل العلم هذه من الأسباب الحسية التي يحصل بها العلم لا إشكال، لكنه لا يثمر ولا ينمو ولا يزكو ولا يقر إلا بالمعنى الأول يقول ابن القيم نقلًا: وتلك مواهب الرحمن ليست تحصل باجتهاد أو بكسب ولكن لا غنى عن بذل جهد بإخلاص وجد لا بلعب.
يقول عن العلم وعن غيره مواهب يهبها الله –سبحانه وتعالى-من يشاء من عباده لا تحصل بالعناء والكد فقط، بل لابد يعني إنما هي مواهب تحصل من الله سؤالًا ودعاء وإخبات وإقبالًا وتضرعًا وإنابة وما إلى ذلك من الأسباب المعنوية ؛ ولكن هذه الأسباب هذه المواهب جعل الله لها أسباب حسية لابد من سلوكها حتى تحصل ولذلك قال: ولكن لا غنى يعني في تحصيل هذه المواهب، ولكن لا غنى عن بذل جهد بإخلاص وهذا شرط وجد، وهذا شرط، هذان شرطان ثبوتيان لا بلعب، وهذا شرط سلبي يعني وانتفاء اللعب، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذلك.