الطالب: وأما ما ذكره أبو عبد الله الحكيم الترمذي من أصناف الرحمة، فلا ريب أن الرحمة أصناف متنوعة ومتفاوتة، كما ذكره من أن له رحمة عمت الخلق مؤمنهم وكافرهم، ورحمة خصت المؤمنين، ثم رحمة خصت خواص المؤمنين على قدر درجاتهم، والحديث ليس فيه "رحمة من عندي"، وإنما فيه "فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني"، ولكن مقصوده أن شبه هذا بقوله: (وَهَب لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحمَةً)، وهو قد جعل هذه المغفرة المسئولة من عنده مغفرة مخصوصة ليست مما يبذل للعامة، كما أن الرحمة منها رحمة مخصوصة ليست مما تبذل للعامة.
وهذا الكلام في بعضه نظر.
الشيخ: مع أن الشيخ –رحمه الله-قرر هذا في شرحه أو كلامه على هذا الحديث في عدة مواضع وقرره ابن القيم –رحمه الله-أن قول النبي –صلى الله عليه وسلم-في توجيهه لأبي بكر في الدعاء "اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كبيرًا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك" قال: إن المقصود بالعندية هنا هو المغفرة الخاصة التي يخصه الله بها وكان يكفي أن يقول: "اللهم اغفر لي مغفرة" ولا يحتاج أن يقول "من عندك" لكن ذكر العندية هنا للتخصيص، فنحتاج إلى معرفة وجه قول الشيخ –رحمه الله-على هذا القول وهذا الكلام في بعضه نظر.
الطالب: الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-تعالى في كتابه شرح حديث أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا".
قال –رحمه الله-: وهو قد جعل هذه المغفرة المسئولة من عنده مغفرة مخصوصة ليست مما يبذل للعامة، كما أن الرحمة منها رحمة مخصوصة ليست مما يبذل للعامة، وهذا الكلام في بعضه نظر، فالحكيم الترمذي ـ رحمه الله ـ في الحديث والتصوف، وتكلمه على أعمال القلوب واستشهاده على ذلك لما يذكره في الآثار، وما يبديه عليها من المناسبات والاعتبار هو في هذا الطريق كغيره من المصنفين في صوب العلم كالتفسير والفقه ونحو ذلك. وكثيراً ما يوجد في هذه الكتب من الآثار الضعيفة ؛ بل المضلة ما لا يجوز الالتفات إليه، وكذلك الحكيم الترمذي، فإن له كتبا متعددة كنوادر الأصول والصلاة وغيرها.
الشيخ: فلتقرأ المكتوب حتى يعدل، فإن له هي الصواب كتبًا إلا إن كان في الكلام سقط، عندنا كتب فإن له كتب عندكم النصب إذن نصحح النصب، فإن له كتبًا متعددة صوبوا عندكم حتى ندرك تصويبها.
الطالب: وكذلك الحكيم الترمذي، فإن له كتبًا متعددة كنوادر الأصول والصلاة وغيرها، وفي كتبه فوائد ومقاصد مستحسنة مقبولة، وفيها أيضا أقوال لا دليل عليها، وأقوال مردودة يعلم فسادها، وآثار ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها.
ومن أضعف ما ذكره ما تكلم عليه في كتاب "ختم الولاية"، فإنه تكلم على حال من زعم أنه خاتم الأولياء بكلام مردود ومخالف لإجماع الأمة، ويناقض في ذلك.
وهذا كان سبب من تكلم في ختم الأولياء وادعى ذلك لنفسه، كابن العربي وابن حمويه ونحوهما، فإن الترمذي أخطأ مقدارا من الخطأ.
الشيخ: بعض المحققين الله يهديه يترك المهم، أو الأهم ويشتغل بما هو مهم، أو بما ليس بمهم أهم ما يكون في التحقيق تصويب بالمتن الذي يحققه أقل الأحوال تنبيها إذا ما جرى على تصويبها أن ينبه أن هذا مخالف للقواعد، أو ما أشبه ذلك تجد بعض المحققين يملأ الحواشي من الفوائد الخارجة عن مقصود التحقيق، ويغفل ما هو ظاهر يدركه كل أحد من الأخطاء في الأصل المتن المحقق.
الطالب: فإن الترمذي أخطأ مقدارا من الخطأ، فزادوا على ذلك زيادات كثيرة حتى خرج بهم الأمر إلى الاتحاد، وقل متكلم في الوجود يوزن كلامه بالكتاب والسنة.
وكلامه على الحديث من أوسط كلامه، وفيه نظر.
الشيخ: عندك بقية لهذا الكلام وقل متكلم في الوجود هذا الصواب ؛ لأنه إذا قال: قل متكلم الكلام ما تم قل متكلم في وجود يوزن كلامه بالكتاب والسنة يعني المعنى لم يتم بعد، والصواب كل متكلم في الوجود يوزن كلامه بالكتاب والسنة.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فهذا الكلام من شيخ الإسلام –رحمه الله-في الحكيم الترمذي كلام عدل قسط، والإمام الشيخ ابن تيمية –رحمه الله-من أبرز الأئمة في كلامه على المخالفين حيث أنه –رحمه الله-يتحرى في كلامه العلم والعدل فقل أن تجد في كلامه حيفًا وظلمًا وتجاوز، بل إنه –رحمه الله-ينقل كلام المنقول عنه ويطلب له العذر ويحمله أحسن المحامل، ومن ذلك ما تكلم به –رحمه الله-عن الحكيم الترمذي، فإن الناس فيه على طرائق منهم من بالغ في النيل منه والطعن في عقيدته وإلحاقه بالزنادقة ومنهم من عظمه وأغفل أخطائه والحق ما قاله الشيخ –رحمه الله-من التوسط فإنه كغيره، وإن كان له أغلاط كبيرة وهي كبيرة بما آلت إليه كما أشار إليه –رحمه الله-في قوله: ومن أضعف ما ذكره ما تكلم عليه في كتابه ختم الولاية، فإنه تكلم عن حال من زعم أنه خاتم الأولياء بكلام مردود مخالف لإجماع الأمة ويناقض في ذلك يعني يخالف.
وهذا كان سبب من تكلم في ختم الأولياء يعني مبدأ الشرع في هذا الباب كان من جراء ما تكلم به الحكيم الترمذي، وهو ممن يعتمد الأحاديث الموضوعة والضعيفة في الاستنباطات وفي الأحكام لكن الشيخ –رحمه الله-قوم كتبه فقال: وفي كتبه فوائد ومقاصد مستحسنة مقبولة هذا القسم الأول وفيها أيضًا أقوال لا دليل عليها وأقوال يعلم فسادها يعني وهناك فرق بين ما لا يعلم دليله وبين ما هو معلوم الفساد، فما لا يعلم دليله ليس له شاهد يدل عليه، وما يعلم فساده وما يعارض الكتاب والسنة وآثار ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها، وهذا تقسيم جيد لما كتبه الحكيم الترمذي –رحمه الله-وغفر له والمراد أن الشيخ –رحمه الله-من أئمة طلب العذر للمخالف، فإنه –رحمه الله-يطلب له العذر ويعدل في كلامه فيه ويتحرى عدم الظلم، بل يتحرى الاعتذار وهذا هو دأب الأئمة، فإن الأئمة ـ رحمهم الله ـ يحملون كلام المقابل على أحسن المحامل حتى وإن كان ظاهر كلام الخصم، أو المتكلم خلاف ما يظن فيه، فإنهم يحملونه على المحمل الحسن، واذكر في هذا قصة للشافعي –رحمه الله-فإنه لما مرض دخل عليه أحد أصحابه وهو في مرضه، فقال له: يا أبا عبد الله قوى الله ضعفك. فقال له الشافعي –رحمه الله-: لا تقل هكذا. قال: والله يا أبا عبد الله ما أردت إلا الخير. قال: والله إني لأعلم أو لأظن أنك لو دعوت علي ما أردت إلا الخير. يعني يقول: حتى لو كان دعائك صريحًا علي بأن الله يهلكني أو ما أشبه ذلك ما وقع في قلبي إلا إنك تريد الخير بهذا الدعاء، وهذا فيه إحسان الظن بالمؤمن، وأنه إنما يقول ما يقوله لحسن قصده، وهذا الذي أداه إليه اجتهاده، وهذا ـ يا إخواني ـ نحتاج أن نربي أنفسنا عليه، وهو أن ننظر إلى النوايا بمنظار حسن، مهما توصلنا إلى ذلك سبيلًا، ومهما أمكننا أن نحمل كلام المتكلم على أحسن المحامل، فإن لم نجد في كلامهما ما يحسن حمله حملناه من جهة قصده وإرادته فهذا لا شك أن هو الذي ينبغي، وهو الذي يخفف حدة الاختلاف بين المختلفين في الأقوال والآراء والاجتهادات، فينبغي لطالب العلم أن يتحلى بهذه الآداب، وأن تكون منه على بال، وأن يستفيد من الأئمة علومهم وآدابهم وأخلاقهم ومنهاجهم في معاملة المخالفين لا فقط في أقوالهم العلمية، وفي فوائدهم التي يستفيدها منهم في فقه الكتاب والسنة، بل حتى في ترجمة ذلك خلقًا وقولًا وعملًا مع الناس، فإن أهل السنة والجماعة رحمة للخلق يعظمون الحق ويرحمون الخلق خلافًا لمن يعظمون الخلق ويغفلون الحق أو طرائق هي أعدل الطرائق طريق أهل السنة والجماعة يعظمون الحق ويرحمون الخلق، ومن الناس من يعظم الخلق ويظلم الحق، ومنهم من يعظم الحق ويظلم الخلق، وهذا كله خطأ ومخالف لطريق أهل السنة والجماعة، فطريق أهل السنة والجماعة طريق رحمة وهدى، هدى في إتباع ما جاء به النبي –صلى الله عليه وسلم-ورحمة في الشفقة على الناس في إنقاذهم من الضلالات، كما قال الله –جل وعلا-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء: 107] يشمل المسلم والكافر، البر والفاجر فهو رحمة –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-فبقدر ما يكون المؤمن العالم طالب العلم رحمة للخلق بقدر ما يكون متأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ثم يعود الشيخ –رحمه الله-إلى بيان المؤاخذة في كلام الترمذي في قوله: هذه المغفرة المسئولة من عنده مغفرة مخصوصة ليست مما يبذل للعامة، وكلامه على الحديث من أوساط كلامه يعني فيه وسط فيه حق، وباطل ليس مردودًا بالكلية ولا مقبولًا بالكلية يبين ذلك.
الطالب: وكلامه على الحديث من أوسط كلامه، وفيه نظر أحدهما: فإن قوله "مغفرة من عندك"، وقوله: (وهب لنا من لدنك رحمة) ونحو ذلك، ليس في ذلك ما يقتضي اختصاص هذا الشخص الداعي بهذا المطلوب المسؤول، ولو كان كذلك لما كان يسوغ لغيره أن يدعو بهذا الدعاء، وهذا خلاف الإجماع.
الشيخ: واضح الوجه الأول أن تفسير مغفرة من عندك يعني مغفرة خاصة لكانت خاصة بمن وجه النبي –صلى الله عليه وسلم-ممن وجهه النبي –صلى الله عليه وسلم-إلى الدعاء به وليس مما يشترك فيه الجميع ومعلوم أن هذا الدعاء ليس خاصًا بأبي بكر بل هو عام للأمة.
الطالب: وإن قيل: مراده أن هذا المطلوب يختص من دعا هذا الدعاء. قيل له: كذلك يمكن أن يقال في كل مطلوب بدعاء، فإن ذلك المطلوب هو مختص بذلك الدعاء.
وإن قال: بل غير هذا من المطلوبات قد ينال بلا دعاء. قيل له: وهذا أيضا قد ينال بلا دعاء، فمن أين لنا أن هذه المغفرة والرحمة المطلوبة لا تنال إلا بهذا الدعاء؟ وأن سائر ما يطلب من الله قد ينال بغير الطلب. ومن المعلوم أن الدعاء والطلب سبب لنيل المطلوب المسؤول، فإن جاز أن يكون للمسؤول سبب غير الدعاء في غير هذا الموضع فكذلك في هذا الموضع.
وأيضا فقوله "من عندك" ليس فيه ما يدل على اختصاصه بالطلب ولا بالمطلوب، وتفسير اللفظ بما لا دليل عليه هو من جنس تفسير القرامطة الذين يفسرون الألفاظ لما أرادوا، وأكثر أهل الإشارات الذين يقعون في أشياء مثل قطعة كثيرة من الحكايات المذكورة في "حقائق التفسير" لأبي عبد الرحمن السلمي، والإشارات التي يعتمدها المشايخ العارفون، هي من جنس القياس والاعتبار. وهي كشبه غير المنطق بالمنطق لكونه في معناه أو أولى بالحكم منه، كما يفعل مثل ذلك في القياس الفقهي، كما إذا قيل في قوله: لا يمسه إلا المطهرون إذا كان المصحف الذي كتب فيه ظاهره لا يمسه إلا البدن الطاهر، فالمعاني التي هي باطن القرآن لا يمسها إلا القلوب المطهرة، وأما القلوب المنجسة لا تمس حقائقه، فهذا معنى صحيح.
الشيخ: وهذا يسمى بماذا؟ التفسير الإشاري وهو أخذ معن بعيد من اللفظ تضمن اللفظ الإشارة إليه وهو نوع من الاستنباط البعيد لكنه منه ما هو صواب ومنه ما هو غلط، من الصواب ما ذكره الشيخ –رحمه الله-في تفسير قوله تعالى: ﴿لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾[الواقعة: 79] فإن بعض العلماء يستدل بهذا على وجوب مس المصحف على طهارة، وأنه من واجبات مس المصحف أن يكون المؤمن طاهرًا الماس طاهرًا فأخذوا من هذا أنه إذا كان المس الحسي لا يكون إلا من طاهر، فإن المس المعنوي كذلك لا يحصل إلا بطهارة القلب طهارته من الشرك، طهارته من الشبهة، طهارته من البدعة، طهارته من المعصية، وبقدر ما يحقق من هذه الطهارات بقدر ما يتحقق له الكشف والفهم لمعاني الكتاب وكذلك معاني السنة لكن الكلام في كتاب الله –عز وجل-والشيخ –رحمه الله-يقول: والإشارات التي يعتمدها المشايخ العارفون هي من جنس القياس والاعتبار ومعلوم أن القياس منه ما هو فاسد ومنه ما هو صحيح، منه ما هو قياس مردود، ومنه ما هو قياس مقبول.
فعلى هذا هذه الإشارات تمحص وينظر منها ما هو موافق للصواب وينظر منها ما هو المردود فيرد، من أشهر الكتب في التفسير الإشاري تفسير روح المعاني للألوسي، فإنه اعتنى بهذا عناية أكثر من غيره وقوله: المشايخ العارفون المراد بهذا مشايخ الصوفية لكن الصوفية المقتصدة وليست الصوفية الغلاة الذين خرجوا عن الطريق والصراط إنما هم المشايخ الذين غلب عليهم التعبد على العلم.