الخمورُ والمخدِّراتُ
الخطبة الأولى :
إِنَّ الحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ.
فيا أيها المؤمنون.
إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالهُدَىَ وَدِينِ الحَقِّ، بَشِيراً وَنَذِيراً، يَأْمُرُكُمْ بِالمعْرُوفِ، وَيَنْهاكُمْ عَنِ المنْكِرِ، وَيُحلُّ لَكُمُ الطَّيَّباتِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْكُمُ الخَبائِثَ، قالِ اللهُ تَعالَى في وَصْفِ ما جاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِث﴾ سُورَةُ الأَعْرافِ: 157.
أَلا، وَإِنَّ أُمَّ الخَبائِثِ الخَمْرُ، كَما قالَ النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «الخَمْرُ أُمُّ الخَبائِثِ» أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (4610)مِنْ حِدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، وَحَسَّنَهُ الأَلْبانِيُّ، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّها مِفْتاحُ الشُّرُورِ، فَعَنْ أَبِي الدَّرْداءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « لا تَشْرَبِ الخَمْرَ، فَإِنَّها مِفْتاحُ كُلِّ شَرٍّ» أَخْرَجَهُ ابْنُ ماجَهْ (3371)، وَصَحَّحَهُ الأَلْبانِيُّ .
وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّهُ قَدْ اجْتَمَعَ فِيها مِنَ الشُّرُورِ وَالآثامِ وَالخَبائِثِ مالَمْ يَجْتَمِعُ في غَيْرِها، كَيْفَ لا وَالمرْءُ إِذا سَكِرَ خَرَجَ عَنْ طَوْرِه، وَفَقَدَ عَقْلَهُ، وَضاعَ سَمْتُهُ، وَغَرِقَ في أَلْوانِ المعاصِي وَالموبِقاتِ؟!.
فالخَمْرُ يا أَيُّها المؤْمِنُونَ، تُفْسِدُ الأَدْيانَ، وَتُهْلِكُ الأَنْفُسَ، وَتُعَطِّلُ العُقُولَ، وَتَهْتِكُ الأَعْراضَ، وَتُتْلِفُ الأَمْوالَ، وَهَذا سِرُّ تَسْمِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخَمْرَ: أُمَّ الخَبائِثِ، وَأُمَّ الفَواحِشِ، فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « الخَمْرُ أُمُّ الفَواحِشِ، وَأَكْبَرُ الكَبائِرِ، مَنْ شَرِبها وَقَعَ عَلَىَ أُمِّهِ وَخالَتِهِ وَعَمَّتِهِ » أَخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ (11209) ،وَحَسَّنَهُ الأَلْبانِيُّ في صَحِيحِ وَضَعِيفِ الجامِعِ الصَّغِيرِ . نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِيَّاكَ يامَنْ يَرْجُو نَجاتَهُ:
وَإِيَّــاكَ شُـرْباً لِلخُـمُورِ فَإِنَّها *** تُسَوِّدُ وَجْهَ العَبْدِ في اليَوْمِ وَالغَـَدِ
وَكُلُّ صِفاتِ الذَّمِّ فِيها تَجَمَّعتْ *** كَذا سُمِّيَت أُمُّ الفُـجُورِ فَأَسْنِدِ
وَقَدْ جاءَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ في الكِتابِ وَالسُّنَّةِ، فَقالَ تَعالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ سُورَةُ المائِدَةِ: 90-91.
أَمَّا السُّنَّةُ، فالأَحادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَىَ تَحْرِيمها كَثِيرَةٌ عَدِيدَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ ما رَواهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرامٌ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2003).، وَعَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « كُلُّ شَرابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرامٌ » أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (242)، وَمُسْلِمٌ (2001)، وَقَدْ أَجْمَعَ المسْلِمُونَ عَلَىَ تَحْرِيمِها، وَهَذا الحُكْمُ ثابِتٌ لِكُلِّ ما أَسْكَرَ، سَواءٌ كانَ مَشْروباً أَوْ مَطْعُوماً أَوْ مُسْتَنشِقاً أَوْ مُتَعاطِياً بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَالمخَدِّراتُ وَما شَابَهَها حُكْمُها حُكْمُ الخَمْرِ، أَوْ أَشَدُّ.
أيها المؤمنون.
إِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ وَتَعالَى تَوَعَّدَ مَنْ خالَفَ أَمْرَهُ، وَتَعَدَّىَ حُدُودَهُ، فَشَرِبِ الخَمْرَ، تَوَعَدَّهُ بِعُقوباتٍ دِينِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَعُقُوباتٍ كَوْنِيَّةٍ قَدَرِيَّةٍ.
فَمَنِ العُقُوباتِ الشَّرِعِيَّةِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لَعَنَ في الخَمْرِ تِسْعَةً، فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ:«لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخَمْرَ، وَشارِبَها ،وَساقِيَها ،وَبائِعَها ،وَمُبْتاعَها، وَعاصِرَها وَمُعْتَصِرَها ،وَحامِلَها ،وَالمحْمُولَةَ إِلَيْهِ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ (5683)، وَصَحَّحَهُ الأَلْبانِيُّ في الإِرْواءِ (1529)..
وَمِنَ العُقُوباتِ الشَّرْعِيَّةِ الكُبْرَىَ: أَنَّ شارِبَ الخَمْرِ مُهَدَّدٌ بِنَزْعِ الإيمانِ، وَرَفْعِه من قلبِه، ففي "الصحيحين" قال صلى الله عليه وسلم :«ولا يشربُ الخمرَ حِينَ يَشْرَبُها، وَهُوَ مُؤْمِنٌ » أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (5578)، وَمُسْلِمٌ (57). ، قالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ :"مَنْ زَنَى أَوْ شَرِبَ الخَمْرَ نَزَعَ اللهُ مِنْهُ الإِيمانَ، كَما يَخْلَعُ الإِنْسانُ القَمِيصَ مِنْ رَأْسِهِ" أَخْرَجَهُ الحاكِمُ (57). ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الخُذْلانِ.
أيها المؤمنون.
إِنَّ مِنَ العُقُوباتِ الشَّرْعِيَّةِ لِشارِبِ الخَمْرِ أَنَّهُ لا تُقْبَلُ لَهُ صَلاةٌ أَرْبِعينَ يَوْماً، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: « مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ وَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَباحاً، وَإِنْ ماتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تابَ تابَ اللهُ عَلَيْهِ، مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ وَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلَ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَباحاً، وَإِنْ ماتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تابَ تابَ اللهُ عَلَيْهِ، مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ وَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَباحاً، وَإِنْ ماتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تابَ تابَ اللهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عادَ كانَ حَقًّا عَلَىَ اللهِ أَنْ يُسْقِيَهُ مِنْ رَدْغَةِ الخَبالِ، يَوْمَ القِيامَةِ ،قالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، وَما ردْغَةُ الخَبالِ؟ قالَ: عُصارَةُ أَهْلِ النَّارِ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ (1862)، وابْنُ ماجَهْ (3377)، وَحَسَّنَهُ التٍّرْمِذِيُّ.
وَمِنَ العُقُوباتِ الشَّرْعِيَّةِ: أَنَّ شارِبَ الخَمْرِ في هَذِهِ الدُّنْيا يُحْرَمُ شُرْبَها في الآخِرَةِ، فَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" قالَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ في الدُّنْيا فَماتَ وَهُوَ يُدْمِنُها، لَمْ يَشْرَبْها في الآخِرَةِ » أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2003) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما..
بَلِ الأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَدْهَىَ، فَإِنَّ شارِبَ الخَمْرِ متَوَّعَّدٌ بِحِرْمانِ الجَنَّةِ، فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ عاقٌّ، وَلا مُدْمِنُ خَمْرٍ، وَلا مُكَذِّبٌ بِالقَدَرِ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ (6853)، وَحَسَّنَهُ الأَلْبانِيُّ في ظِلالِ الجَنَّةِ (321)، وَفِي رِوِِِِِايَةٍ عَنْ أَبِي موُسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَ ابْنِ حِبَّان:« لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مُدْمِنُ خَمْرٍ،ولا مُؤْمَنٌ بِالسِّحْرِ، وَلا قاطِعُ رَحِمٍ » أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانٍ (6137)، وَحَسَّنَهُ الأَْلبانٍي في صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ (3050).
ومن أعظم ما ورد في حال مدمن الخمر، ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مدمنُ الخمرِ إذا ماتَ لقِيَ اللهََ كعابدِ وثنٍ » أخرجه أحمد (2449)، وصححه الهيثمي في مجمع الزوائد (8210)..
ومن العقوباتِ الشرعيةِ أن يُجلدَ شاربُ الخمرِ، فعن أنسٍ رضي الله عنه : « أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم جلدَ في الخمرِ بالجريدِ والنِّعَالِ، وجلد أبو بكر رضي الله عنه أربعين » أخرجه البخاري (6773)، ومسلم (1706)، فإن تكرَّر ذلك منه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه معاويةُ رضي الله عنه :«من شرَبَ الخمرَ فاجلدوه، فإذا عادَ في الرابعةِ فاقتلوه» أخرجه أحمد (16893)، وأبو داود (4485) ،وصححه الهيثمي في مجمع الزوائد (10667).
فمن أدمنَ الخمرَ، فهو عنصرٌ فاسدٌ، يجبُ على المجتمعِ أن يتخلَّص منه؛ دفعاً لشرِّه وأذاه.
أيها المؤمنون، هذه بعضُ العقوباتِ الشرعيةِ.
أما العقوباتُ القدريةُ الكونيةُ، فكثيرةٌ لا حدَّ لها، إلا أن منها: أن شربَ الخمورِ والمخدراتِ، وما شابهها سببٌ للإصابةِ بأنواعٍ من الأسقامِ، والأمراضِ الصحيةِ والنفسيةِ، وقد أفاضَ المختصُّون في بيانِ تأثيرِ هذه الموبقاتِ على صحةِ الإنسانِ، فما من عضوٍ من أعضاءِ البَدَنِ، إلا وتطاله آثارُ شُرْبِها، وعقوبةُ تعاطِيها.
أما الأمراضُ النفسيةُ والعصبيةُ، فذاك البحرُ الذي لا ساحلَ له، فإن شاربَها يعاني من ألوانِ الاضطراباتِ، وأضرابِ الضيقِ والضنكِ، فلا يسكنُ همُّه، ولا يذهبُ غمُّه إلا بمعاقرةِ الخمورِ، ومداومةِ شربِها، فللهِ ما أصدقَ ما أخبرَ به الصادقُ المصدوقُ صلى الله عليه وسلم ، فعن طارقٍ الجعفي رضي الله عنه أنه سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الخمرِ فنهى عنها، فقال: إنما أصنعُها للدواءِ، فقال:«إنها ليست بدواءٍ، ولكنها داءٌ» أخرجه مسلم (3670).
أما أضرارُ الخمرِ الاجتماعيةُ، فللهِ كم هدمت من بيتٍ، وشتَّتت من شملٍ، وأزهقت من نفسٍ، وأفسدت من عقلٍ، ونغَّصت من عيشٍ.
وللهِ كم بَنَتْ من منكرٍ، وقلَعَت من معروفٍ، كيف لا؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :«من شرِبَها وقعَ على أمِّه وخالتِه وعمتِه» أخرجه الطبراني في الكبير (11209).
فشؤمُ معاقرة الخمورِ وشربِها لا يقتصرُ على شاربِها، بل يمتدُّ ذلك إلى أُسرتِه، وأهلِ بيتِه ومجتمَعِه، فمدمنُ الخمرِ وشاربُها بليدُ الإحساسِ، غيرُ مهتمٍّ بأولادِه أو أهلِه، ولا هو أهلٌ لتحمُّل المسؤوليةِ.
ومن أضرارِ شربِ الخمورِ يا عبادَ اللهِ: إشاعةُ الفاحشةِ والجريمةِ بين المسلمين، فإن شاربَ الخمرِ المتورِّطَ بها عضوٌ فاسدٌ في مجتمعِه، يزيِّنُ الشرَّ ويحسِّنُه، ولا يَقَرُّ قرارُه حتى يجرَّ غيرَه إلى هذا المستنقعِ القذرِ.
كما أن متعاطِيَّ الخمورِ والمخدراتِ هُم روادُ الجريمةِ وتجَّارُها، فكثير من الجرائم تقع بسبب شرب الخمر، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال محذِّراً:«لا تشرب الخمرَ؛ فإنها مفتاحُ كلِّ شرٍّ» أخرجه ابن ماجه (3371)، وحسنه الكناني في مصباح الزجاجة (9611)، فتباعدوا يا عباد الله عنها وعن أهلها.
فتباعدوا عن شربِ مفتاحِ الرَّدَى ومغالق للخيرِ والإيمانِ
الخطبة الثانية :
الحمدُ لله الذي أحلَّ لنا الطيباتِ، وحرَّم علينا الخبائثَ والمنكراتِ، وأصلي وأسلِّم على نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي ختم الله به الرسل والنبوات، وعلى آله وأصحابه وسائر المؤمنين والمؤمنات.
أما بعد.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وتعاونوا على البرِّ والتقوى، كما أمركم اللهُ تعالى، فتعاونوا جميعاً، صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً، أفراداً وجماعاتٍ، على مكافحةِ هذا الداءِ العضالِ الفتاكِ، الذي إذا تفشى في المجتمعِ كان أحدَ أهمِّ أسبابِ هلاكِه ودمارِه، ويشهدُ لذلك أن الخمرَ تنتشرُ في آخرِ الزمانِ، الذي هو وقتُ قربِ هلاكِ الدنيا، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من أشراطِ الساعةِ أن يُرفعَ العلمُ، ويثبت الجهلُ، ويُشرب الخمرُ، ويظهرُ الزِّنى» أخرجه البخاري (80)، ومسلم (2671).
إن أهمَّ وسائلِ مكافحةِ هذا البلاءِ الكبيرِ، والداءِ الخطيرِ بناءُ الإيمانِ وإشاعتُه، وترسيخُ الوازعِ الدينيِّ في النفوس، فإن القلوبَ إذا لم تكن قد عُمِرت بالإيمان فلن يردعَها أضرارٌ صحيةٌ، ولا أزماتٌ نفسيةٌ، ولا مشاكلُ أسريةٌ أو اجتماعيةٌ، ولا ضائقةٌ اقتصاديةٌ، فالنفوسُ ضعيفةٌ، والشهواتُ جذابةٌ؛ ولذا فإن الله سبحانه وتعالى لم يحرِّم الخمرَ في بداية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، بل حرَّمها بعد أن استقر الإيمانُ في قلوب المسلمين، ورسخَ وأينعَ وأثمرَ، فمَعَ شدةِ تعلُّقِ العربِ بالخمر في ذلك الوقتِ، إلا أن الإيمانَ الصادقَ الراسخَ قد تغلب على هذا العشقِ الجامحِ للخمر، قال أنس رضي الله عنه : "حُرِّمت الخمرُ، ولم يكن للعرب عيشٌ أعجبَ منها، وما حرُم عليهم شيءٌ أشدَّ من الخمرِ" الدر المنثور 1 / 605،606.
ويوضِّحُ شدةَ تعلُّقِ العربِ بالخمر قبل تحريمِها أن بعضَ الصحابةِ رضي الله عنهم لم يُقلِعوا عنها إلا عند التصريحِ بتحريمِها، مع توالي الآياتِ التي تزهِّدُ فيها، وتنفِّرُ منها، فما أن نادى منادي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم :"ألا إنَّ الخمرَ قد حُرِّمت"، حتى أهرَقَ الصحابةُ رضي الله عنهم الشرابَ، وكسروا الكؤوسَ والقلالَ، حتى سالت أزِقَّةُ المدينةِ بالخمرِ، وتوقَّفَ الناسُ عن شربِها، وقالوا: انتهينا ربَّنا، انتهينا.
أيها المؤمنون.
هكذا يفعلُ الإيمانُ الراسخُ، أمَّةٌ تربَّتْ على عِشْقِ الخمورِ والتعلُّقِ بها، حتى قال قائلُها عند موتِه موصياً:
إذا مِتُّ فادفني إلى جنبِ كَرْمةٍ *** تروِّي عظامي بعد موتي عروقُها
ولا تدفنَّني بالـفلاةِ فـإنِّني *** أخافُ إذا ما مِتُّ أن لا أذوقَها الأغاني 18/384
يرتفعُ كلُّ هذا الحبِّ والتعلُّقِ، ويزول عندما سمعوا قولَ المنادي: "ألا إنَّ الخمرَ قد حُرِّمت" ،فللهِ درُّهم! ما أعمقَ إيمانَهم.
أيها المؤمنون.
إن مكافحةَ المخدراتِ والخمورِ شغلٌ شاغلٌ لكثيرٍ من الأممِ، ولكننا أمةَ الإسلامِ لن نحقَّقَ النجاحَ، في مكافحةِ السوءاتِ، إلا بإشاعةِ خِلال الإيمانِ وخصالِه، وتربيةِ المجتمعِ عليها، فقبل أن نقول: "لا للخمورِ ولا للمخدراتِ"، ونعلِّق على جدرانِنا وشوارعِنا: "لا للخمورِ أو لا للمخدراتِ" يجبُ أن نرسِّخ في قلوبِنا: "لا إله إلا الله" وأن نصبغَ حياتَنا بمقتضياتها، وأن نطهِّرَ إعلامَنا المرئيَّ والمسموعَ والمقروءَ، من كلِّ ما يزيِّن الخمورَ والفواحشَ، وما يدعو إليها، وبغيرِ ذلك لن نجنيَ إلا العطْبَ، ولن نصيبَ إلا الخبالَ، والشاهدُ على ذلك قائمٌ ناطقٌ، فأمريكا سنَّت في أوائلِ هذا القرنِ الميلادي قانوناً يمنعُ شربَ الخمورِ وصناعتَها وبيعَها، فما هو إلا أن مرَّتْ سنواتٌ إلا وتهاوى هذا القانونُ، وأَفَلَ هذا النظامُ، وكانت النتيجةُ عكسيةً، فزادت نسبةُ الشاربين للخمرِ، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾ سورة النور (39).
أيها المؤمنون.
إن من أهمِّ وسائلِ مكافحةِ هذا الداءِ الفتاكِ إظهارَ الأمرِ بالمعروفِ، والنهيِّ عن المنكر في المجتمع، ودعمِ الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، الذين لهم أثرٌ ملموسٌ، ودورٌ رائدٌ، وجهدٌ مشكورٌ في محاربة أهل الزيغ والفساد، فللهِ درُّهم، ما أحسنَ صنيعَهم، فكَمْ من مصنعِ خمرٍ قد هدموه، وكم من مروِّجٍ له قد فضحوه، وكم من تائهٍ ضائعٍ حائرٍ، غارقٍ في المعاصي والآثام والذنوب قد انتشلوه وأنقذوه.
أيها المؤمنون! إن من وسائلِ مكافحةِ انتشارِ هذه البلايا إقامةَ الحدودِ وإظهارَها، فإن الحدودَ على اسمِها، تحُدُّ من انتشارِ الرذائلِ والآثامِ، فبها يضعفُ الشرُّ وينحسرُ، وينقمعُ أهلُ الباطلِ ويخنسون.
ومن وسائلِ الوقايةِ من هذه الكبيرة: حفظُ الأولادِ وتوعيتُهم، والابتعادُ بهم عن أسباب الوقوع في هذه القاذورات، من رفقةٍ سيئةٍ خبيثةٍ، تزين الباطل وتدعو إليه ،أو إعلامٍ مدمرٍ يغري بالخبائث، ويزين الفواحشَ، أو سفرٍ إلى بلاد خلعت ثوبَ الإيمان، ولبست لباسَ الكفرِ والإباحيةِ والفجورِ والعصيانِ.
وأخيراً أقولُ لأولئك الذين استنزلهم الشيطانُ، فتورَّطوا في شربِ الخمورِ أو غيرِها من الآثامِ.
فالبدارَ البدارَ، التوبةَ التوبةَ، الإقلاعَ الإقلاعَ، قبل فواتِ الأوانِ، وانصرامِ الزمان، فقد دعاك مولاك إلى التوبة، فأخبِرْ خيرَ جوابٍ، قال الله تعالى:﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ سورة الزمر (53).
فقل كما قال الأول:
فللهِ عهدٌ لا أخيسُ بعهدِهِ *** لئن فُرِجَتْ أن لا أزورَ الحَوانيا التذكرة الحمدونية 1/271.