قال المؤلف رحمه الله :" القاعدة الرابعة والعشرون: التوسط والاعتدال وذم الغلو.
القرآن يرشد إلى التوسط والاعتدال في الأمور، ويذم التقصير والغلو ومجاوزة الحد في كل الأمور.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ﴾([1])، وقال:﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾([2]). والآيات الآمرة بالعدل والإحسان والناهية عن ضدهما كثيرة.
والعدل في كل الأمور: لزوم الحد فيها وأن لا يغلو ويتجاوز الحد، كما لا يقصر ويدع بعض الحق" .
هذه قاعدة التوسط، هي قاعدة التوسط، و هذه في قوله تعالىٰ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ﴾([3]). فجعل الله عز وجل هذه الأمة وسطاً، وجعل الوسطية سبباً لكونها شاهدة على الناس الأولين والآخرين، ف هذه الأمة أمة وسط في الاعتقاد، وفي العمل، وفيما يتعلق بالأخلاق، وفيما يتعلق بأمور الدنيا، وسط في كل شيء، على خلاف أمتين عظيمتين: أمة اليهود وأمة النصارى.
فاليهود أخذوا في جانب الغلو والتشديد.
والنصارى أخذوا في جانب التفريط والتقصير.
و هذه الأمة وسط في جميع شؤونها: في عقائدها، وفي أعمالها، وفي أخلاقها، وفيما يتعلق بأمر معاشها ودنياها، وهـٰذا من نعمة الله عز وجل. والشيخ رحمه الله استدل لهذه الوسطية بقوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾؛([4]) لأن الوسط في قوله تعالىٰ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ هم الخيار العدل، فلا وكس ولا شطط، لا غلو ولا تقصير، سيضرب أمثلة لوسطية الأمة في جوانب عديدة. نعم.
(ففي عبادة الله أمر بالتمسك بما عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آيات كثيرة، ونهى عن مجاوزة ذلك في آيات كثيرة، وتعدي الحدود في آيات كثيرة، وذم المقصرين عنه في آيات كثيرة.
فالعبادة التي أمر الله بها ما جمعت الإخلاص للمعبود والمتابعة للرسول، فما فقد فيه الأمران([5]) أو أحدهما فهي لاغية) .
دليل ذلك، دليل هذين الأصلين: العبادة لا بد فيها من الإخلاص والمتابعة: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا﴾ هـٰذا فيه المتابعة ﴿وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾([6]) هـٰذا فيه الإخلاص، والأدلة على هذين الأصلين -وهما شرطا قبول العمل- كثيرة في الكتاب والسنة.
(وفي حق الأنبياء والرسل عَلَيْهِم الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ أمر بالاعتدال، وهو: الإيمان بهم، ومحبتهم المقدمة على محبة الخلق، وتوقيرهم، واتّباعهم، ومعرفة أقدارهم ومراتبهم التي أكرمهم الله بها. ونهى عن الغلو فيهم في آيات كثيرة، وهو: أن يُرفعوا فوق منزلتهم التي أنزلهم الله، ويُجعل لهم من حقوق الله التي لا يشاركه فيها مشارك. كما نهى عن التقصير في حقهم في الإيمان بهم ومحبتهم وترك توقيرهم أو عدم اتباعهم. وذمَّ الغالين فيهم كالنصارى ونحوهم في عيسى، كما ذمَّ الجافين لهم كاليهود حين قالوا في عيسى ما قالوا، وذمَّ من فرق بينهم فآمن ببعض دون بعض، وأخبر أن هذا كفر بجميعهم ) .
استهزاء اليهود بمقام الأنبياء وحقهم، في القول والعمل: في القول بما رموا به عيسىٰ ابن مريم من التهمة بأنه ولد زنى، وفي العمل بسعيهم في قتله وقتل غيره من الأنبياء، فإنهم كانوا يقتلون أنبياءهم كما ذكر الله ذلك في كتابه.
وأما النصارى فهم ضالون: غلوا في عيسىٰ فجعلوه ابناً لله عز وجل، تعالىٰ الله عما يقولون علوّاً كبيراً.
والأمة -ولله الحمد- وسط بين هذه الطريق و هذه الطريق.
وكل من غلا في النبوة سواء في الأنبياء السابقين أو في نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فله نصيب من طريق الضالين.
وكل من جفا في مقام النبوة وقصر واتهم وتنقص، فله نصيب من طريق المغضوب عليهم وهم اليهود.
والواجب على أهل الإسلام أن يقِفُوا في هـٰذا الباب عند ما وقف عليه سلف الأمة الصالحون -من الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم ومن بعدهم من أهل القرون المفضلة-، فإنّهم أكمل الناس محبة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكل من ادعى المحبة وسلك طريقاً غير طريقهم فهو كاذب. وهـٰذا يجب أن يشاع وأن يعلن وأن يعرفه أهل الإسلام، وأن يبلغ الناس ذلك؛ لأن كثيراً ممن يدعون محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقعون في أنواع من الغلو والبدع والإحداثات التي تخالف طريقه، وتخرج عن رسم هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم إنهم لا يكتفون بذلك؛ بل يتهمون المستقيمين على الصراط المستقيم بأنهم يجفون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنهم يقصرون في حقه، وأنهم لا ينزلونه منزلته، وهذا خطأ في الفهم وضلال فيه، وسفه في العقل: أن يظن الإنسان أن طريقاً يوصل إلىٰ تعظيم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإيفائه حقه أفضل من طريق أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعشرة المبشرين بالجنة وسائر الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين.
فينبغي لأهل السنة المتمسكين بطريق السلف أن يبينوا ذلك للناس في كل مناسبة، وأن يبينوا أن المحبة الحقيقية ليست بإنشاد الأشعار، ولا بالترنمات، ولا بالإفراط في المدح والثناء، فإن ذلك مما يكرهه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما يكون ذلك بالمعيار الإلهي في قوله تعالىٰ: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾([7]). هـٰذا هو المعيار الصّادق القسط العدل في محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبقدر ما مع العبد من متابعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظاهر والباطن بقدر ما معه من محبته، وانتبه إلىٰ الأمر الثاني وهو المتابعة في الظاهر والباطن، فإن كثيراً من الناس يحرص على المتابعة الظاهرة ويغفل عن متابعة الباطن، نسأل الله أن يعيننا على ذلك.
(وكذلك يتعلق هذا الأمر في حق العلماء والأولياء، فتجب محبتهم ومعرفة أقدارهم، ولا يحلُّ الغلو فيهم، وإعطاؤهم شيئاً من حق الله، وحق رسوله الخاص، ولا يحلُّ جفاؤهم ولا عداوتهم، فمن عادى لله وليّاً فقد بارزه بالحرب.
وأمر بالتوسط في النفقات والصدقات، ونهى عن الإمساك والبخل والتقتير، كما نهى عن الإسراف والتبذير.
وأمر بالقوة والشجاعة بالأقوال والأفعال، ونهى عن الجبن، وذم الجبناء وأهل الخور وضعفاء النفوس، كما ذم المتهورين الذين يلقون بأنفسهم وأيديهم إلى التهلكة.
وأمر وحث على الصبر في آيات كثيرة، ونهى عن الجزع والهلع والسّخط، كما نهى عن التجبر وعدم الرحمة والقسوة في آيات كثيرة.
وأمر بأداء الحقوق لكل من له حق عليك:من الوالدين والأقارب والأصحاب ونحوهم، والإحسان إليهم قولاً وفعلاً، وذمَّ من قصر في حقهم أو أساء إليهم قولاً وفعلاً، كما ذم من غلا فيهم وفي غيرهم حتى قدم رضاهم على رضا الله وطاعتهم على طاعة الله.
وأمرنا بالاقتصاد في الأكل والشرب واللباس، ونهى عن السّرف والترف، كما نهى عن التقصير الضار بالقلب والبدن.
وبالجملة فما أمر الله بشيء إلا كان وسطاً بين خلقين ذميمين: تفريط وإفراط) .
الشيطان لا يبالي أيهما أصاب من الإنسان التفريط أو الإفراط، فإذا أصاب منك تفريطاً أو إفراطاً فقد تحقق مراده ومطلوبه؛ لأن الاثنين يجتمعان في أي شيء؟ في أنهما خروج عن الصراط المستقيم، ولذلك كان الصراط المسؤول في سورة الفاتحة صراطاً واضحاً بيناً سالماً من هاتين البدعتين: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾ ثم هل وقف؟ ﴿غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ﴾ هٰؤلاء أهل التقصير والتفريط، ﴿وَلاَ الضَّالِّينَ (7)﴾([8]) هم أهل الغلو والخروج عن الصراط المستقيم.
وعلى كل حال يجب على المؤمن أن يكون رقيباً على نفسه في دقيق الأمر وجليله؛ لأن هـٰذا الأمر يحتاج إلىٰ دوام مراقبة، وأن لا يكل الإنسان عمله إلىٰ العادة وما جرى به طبعه؛ بل ينبغي له أن يراقب نفسه في لزوم الصراط المستقيم، ولذلك كان سؤال الله عز وجل الهداية إلى الصراط المستقيم في كل ركعة من الصلاة؛ لشدة ضرورة الإنسان إلىٰ هذا الصراط، وكثرة الأسباب الصارفة عنه، فلهذين الأمرين تكرر السؤال، في كل ركعة يسأل الإنسان ربه في مناجاته: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7)﴾. السبب في ذلك شدة حاجتنا إلىٰ الثبات على هـٰذا الصراط؛ لأن الثبات عليه هو النجاة في الدنيا والآخرة، ولكثرة الصوارف عنه.
وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الجواب الصحيح فيمن بدل دين المسيح كلاماً مطولاً في وسطية هذه الأمة -أمة الإسلام- وما فارقت به اليهود والنصارى، ثم بعد أن ذكر كلاماً طويلاً قال: ولو تتبعنا هـٰذا المقام لطال بنا الكلام. أو قال: وهـٰذا مقام يطول وصفه.
المهم هـٰذا المقام -كما يقول الشيخ- يطول وصفه، ولو تتبع الإنسان وسطية هذه الأمة في ما شرعه الله لها، وما جاء من العقائد والأعمال لوجد شيئاً كثيراً، وإنما يتبين ذلك بالنظر والتأمل، والمهم أن يتحرى الإنسان العدل والوسط في عقده وقوله وعمله، وأن يستعين الله عز وجل، وأن يسأله إصابة ذلك.