قال المؤلف رحمه الله :" القاعدة الخامسة والعشرون: حدود الله قد أمر بحفظها ونهى عن تعديها وقربانها.
قال تعالى: ﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ ([1])، وقال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا﴾ ([2])، وقال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا ﴾ ([3]) .
أما حدود الله: فهي ما حدّه لعباده من الشرائع الظاهرة والباطنة، التي أمرهم بفعلها، والمحرمات التي أمرهم بتركها. فالحفظ لها يكون بأداء الحقوق اللازمة، وترك المحرمات الظاهرة والباطنة.
ويتوقف هذا الفعل وهذا الترك على معرفة الحدود على وجهها، ليعرفَ ما يدخل في الواجبات والحقوق، فيؤدِّيها على ذلك الوجه كاملة غير ناقصة، وما يدخل في المحرمات ليتمكن من تركها، ولهذا ذمَّ الله من لم يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، وأثنى على من عرف ذلك".
حفظ الحدود يكون بترك ما نهى الله عنه، وفي فعل ما أمر الله به، وفيما أباحه الله عز وجل، كل هـٰذا مما يجب فيه حفظ الحد: في الأمر وفي النهي وفي المباح، كيف يكون ذلك؟ سيأتي بيانه في كلام الشيخ رحمه الله.
لكن ينبغي أن نعرف أن الآيات الآمرة بحفظ حدود الله أو المثنية على الحافظين لحدود الله ليس فقط في الأمر والنهي بل حتى في المباح، فحفظ حدود الله:
يكون فيما أمر.
ويكون فيما نهى.
ويكون في ما أباح وأحل.
بيان هـٰذا في كلام الشيخ رحمه الله. نعم.
(وحيث قال الله تعالى:﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا﴾([4]) كان المراد بها: ما أحله لعباده، وما فصله من الشرائع. فإنه نهى عن مجاوزتها وأمر بملازمتها.
كما أمر بملازمة ما أحله من الطعام والشراب واللباس والنكاح، ونهى عن تعدي ذلك إلى ما حرم من الخبائث.
وكما أمر بملازمة ما شرعه من الأحكام في النكاح والطلاق والعدة وتوابع ذلك، ونهى عن تعدِّي ذلك إلى فعل ما لا يجوز شرعاً.
وكما أمر بالمحافظة على ما فصّله من أحكام المواريث ولزوم حدِّه، ونهى عن تعدي ذلك، وتوريث من لا يرث، وحرمان من يرث، وتبديل ما فرضه وفصّله بغيره.
وحيث قال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا﴾ ([5]) كان المراد بذلك: المحرمات. فإن قوله: ﴿فَلا تَقْرَبُوهَا﴾ نهي عن فعلها، ونهي عن مقدماتها وأسبابها الموصلة إليها والموقعة فيها.
كما نهاهم عن المحرمات على الصائم، وبين لهم وقت الصيام فقال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا﴾. وكما حرّم على الأزواج أن يأخذوا مما آتوا أزواجهم شيئاً إلا أن يأتين بفاحشة مبينة.
وكما بين المحرمات في قوله: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى﴾ ([6]) وقال: ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ ([7]).
فالخير والسعادة والفلاح في معرفة حدود الله، والمحافظة عليها. كما أن أصل كل الشر وأسباب العقوبات الجهل بحدود الله، أوترك المحافظة عليها، أو الجمع بين الشرين. والله أعلم) .
ما أمر الله به من الواجبات والمأمورات قال فيه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا﴾.([8]) فلا يجوز تعدي ما أمر الله به من الواجبات، وضرب لذلك أمثلة كتوريث ما لا يستحق الإرث.
وهـٰذا النهي عن تعدي حدود الله في المأمورات يشمل جميع المأمورات في جميع شرائع الدين: في العبادات، وفي المعاملات؛ بل حتى في العقائد.
وأما المنهيات فإن طريقة القرآن في ذلك النهي عن قربانها، وذلك أن هذه الشريعة المطهّرة شريعة جاءت من لدن حكيم خبير، فمنعت الشر ومنعت الأسباب الموصلة إليه، فسدت الطرق الموصلة إلىٰ الشرور، ومنعت مقدمات المعصية، ولذلك قال: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا﴾([9]) هـٰذا في مقام ذكر المحرمات، وقال في الزنى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً (32)﴾([10]). وقال في مال اليتيم: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾([11]). كل هـٰذا نهي عن مقاربة المعصية بسلوك الطرق الموصلة إليها، وهـٰذا فيه النهي عن المعصية وزيادة؛ لأنه ينهى عن الفعل المحرم، وينهى عن مقدماته المفضية إليه والمؤدية إليه.
أما المباحات فإنها كالمأمورات: أمر فيها الشارع بعدم تعدي حدود الله، وذلك بأن يلزم فيها الإنسان الطريق الوسط القسط العدل، من غير تقصير ولا غلو ولا زيادة، كما قال الله جل وعلا في ثنائه على عباد الرحمـٰن: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾([12]). فامتنعوا من هذين: الإسراف وهو الزيادة عن الحد في الصّرف، والتقتير :هو الإمساك عما يحتاجه الإنسان من النفقة.