قال المؤلف رحمه الله :"القاعدة السابعة والعشرون: المحترزات في القرآن تقع في كل المواضع في أشد الحاجة إليها".
(المحترزات) جمع محترز، وهو مأخوذ من الاحتراز، والاحتراز في الأصل مأخوذ من حَرَزَ، الفعل الثلاثي، الاحتراز هو ما يحتاط به المتكلم من فهم غير مراد، وأصله طلب الوقاية.
فالاحترازات أي ما توقى القرآن في اللفظ والمعنى، فالمواضع التي وردت فيها هذه الاحترازات وقعت في موقع من أحسن ما يكون، وفي أشد ما يكون حاجة إلىٰ هـٰذا الاحتراز، هـٰذا معنى القاعدة.
وسيذكر المؤلف رحمه الله أمثلة لذلك يتضح بها المقام.
(وهذه القاعدة جليلة النفع، وعظيمة الوقع.
وذلك أنّ كل موضع يسوق الله فيه حكماً من الأحكام أو خبراً من الأخبار فيتشوف الذهن فيه إلى شيء آخر، إلا وجدتَ الله قد قرَن به ذلك الأمر الذي يعلق في الأذهان، فيبينه أحسن بيان.
وهذا أعلى أنواع التعليم، الذي لا يبقي إشكالاً إلا أزاله، ولا احتمالاً إلا وضّحه.([1]) وهذا يدل على سعة علم الله وحكمته. وذلك في القرآن كثير جدّاً.
ولنذكر بعض أمثلة توضح هذه القاعدة، وتحسّن للداخل الدخول إليها.
فمن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا﴾([2]). لمَّا خصها بالذكر ربما وقع في بعض الأذهان تخصيص ربوبيته بها، أزال هذا الوهم بقوله: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾([3])).
قال تعالىٰ: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾ هـٰذا قول منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾ و هذه من الربوبية الخاصة، فإن الله عز وجل يذكر الربوبية في القرآن على نوعين، وسيأتي كلام المؤلف في هـٰذا:
ربوبية عامة: تشمل كل شيء، وذلك نظير: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾،([4]) ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هذه الربوبية العامة التي تعم كل شيء من الحي والجماد، من الرطب واليابس، هنا قال: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾ هذه ربوبية خاصة، فلما خص هـٰذا البلد بالربوبية، قد يتوهم متوهم ويظن أن الربوبية -ربوبية الله- خاصة بهذه البقعة وأن غيرها من البقاع لها رب آخر، فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دفعاً لهذا التوهم: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾ فهو رب كل شيء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو مالكه، وإنما أضاف ربوبيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهذه البقعة تمييزاً لها، واصطفاءً لها، والله عز وجل قد قال: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ﴾([5]) من الأماكن والأزمان والأشخاص والأوصاف، والله حكيم خبير يفعل ما يشاء، ﴿ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)﴾([6]). فالله اصطفى هـٰذا المكان وأضاف ربوبيته له تعظيماً وتشريفاً له؛ لكن دفعاً لهذا التوهم -وهو أن تخص ربوبيته بهذا المكان دون غيره- قال في ذلك: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إذاً أين الاحتراز في هذه الآية؟ قوله: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾.
ما الفهم الخاطئ الذي يمكن أن يرد؟ حصر الربوبية بهذا المكان. نعم.
(ومنها قوله تعالى: ﴿فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ﴾([7]) لمَّا كان قد يقع في الذهن أنهم على حجة وبرهان فأبان بقوله: ﴿مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ ([8]) أنهم ضُلال اقتدوا بمثلهم، ثم لما كان قد يتوهم المتوهم أنهم في طمأنينة من قولهم، وعلى يقين من مذهبهم، وربما يتوهم أيضاً أن الأليق ألا تبسط لهم الدنيا احترز من ذلك بقوله: ﴿وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإنهم لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾. ([9])
ولما قال تعالى: ﴿لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾([10]) ربما يظن الظان أنهم لا يستوون مع المجاهدين ولو كان القاعدون معذورين. أزال هذا الوهم بقوله:﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ ([11])).
هـٰذا الوهم توهمه ابن أم مكتوم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استخلفه في المدينة في إحدى غزواته فقال: يا رسول الله لو أطقت جهاداً لجاهدت. بعد نزول هذه الآية، الآية أول ما نزلت: (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ). فقال: لو أطقت جهاداً لجاهدت. فأنزل الله عز وجل قوله تعالىٰ: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ في قوله: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾. فهو قيد رفع التوهم، وهو أنه حتى ولو كان معذوراً بقعوده فإنه لا يساوي الخارج للجهاد، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند عودته من تبوك -وهي من أشد الغزوات عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال- لأصحابه كما في حديث جابر في صحيح مسلم: ((إن أقواماً في المدينة ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً ولا نزلتم منزلاً إلا كانوا معكم، أو: إلا شركوكم في الأجر)). قال الصحابة: وهم في المدينة يا رسول الله؟ قال: ((وهم في المدينة، حبسهم العذر))([12]). وفي رواية: ((حبسهم المرض))([13]). فدلّ ذلك على أن من منعه من الطاعة عدم قدرته عليها وعدم استطاعته إياها فإنه يكتب له أجر، وفضل الله واسع نسأل الله من فضله.
(وكذلك لما قال تعالى: ﴿لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾([14]). ربما توهم أحد أن المفضولين ليس لهم عند الله مقام ولا مرتبة، فأزال هذا الوهم بقوله: ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾،([15]) ثم لما كان ربما يتوهم أن هذا الأجر يُستحق بمجرد هذا العمل المذكور، ولو خلا من الإخلاص، أزال هذا الوهم بقوله: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ ([16])).
سبحان الله! القرآن عجيب، يعني الإنسان وهو يقرأ الآيات قد لا يتبادر لذهنه هذه المعاني؛ ولكن إذا أنعم النظر وتدبر وقلب الفكر في آيات هـٰذا الكتاب الحكيم انفتحت له الكنوز، وتبين له من المعاني ما ليس له على بال.
وكما قال شيخ الإسلام رحمه الله: الفاتحة مع كثرة تكرارها وترددها على ألسن القراء إلا أنه قد يبدو للإنسان المكثر للقراءة لها من المعاني ما لم يكن له على بال من قبل، وهـٰذا من صور إعجاز القرآن أنّ المعاني فيه تتجدد، فيعني سبحان الله نسأل الله أن يمن علينا بالتدبر.
الشيخ كتب هـٰذا في خلال شهر وستة أيام، و هذه المعاني لو أن الإنسان فتش عنها في كتب أهل العلم ما وجدها، إنما هداه الله إليها بتدبره رحمه الله وغفر له، وهو من أئمة التدبر في الحقيقة، الذي يقرأ تفسير الشيخ ويسمع ما كان يقرره شيخنا رحمه الله- وقد استفاد من شيخه في هـٰذا- يعلم أنه قد فتح له في هـٰذا الباب ما لم يفتح لغيره من المتأخرين، نسأل الله من فضله.
(ومنها: قوله تعالى: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ﴾([17]) ربما وقع في الذهن أنهم يفسدون وقد يصلحون، فأزال هذا الوهم بقوله: ﴿وَلا يُصْلِحُونَ﴾ ([18]). أي:لا خير فيهم أصلاً مع شرهم العظيم ) .
فائدة هـٰذا أيضاً، فائدة قوله تعالىٰ: ﴿وَلا يُصْلِحُونَ﴾ تأكيد بالنفي، و هذه فائدة لغوية: إن من أهل النحو من يقول: التأكيد لا يكون إلا بالإثبات، تأكيد المعاني لا يكون إلا بإثباتها، والصحيح أن التأكيد -تأكيد الكلام- يكون بالنفي ويكون بالإثبات، ومثال التوكيد بالنفي هذه الآية؛ فإن الله عز وجل قال: ﴿يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ﴾ ثم أكد إفسادهم -إضافة إلىٰ ما ذكره الشيخ من معنى- قال: ﴿وَلا يُصْلِحُونَ﴾. ومنه أيضاً قول الله تعالىٰ وسيأتينا في سورة الأنعام: ﴿قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)﴾.([19])
(ومنها:أنه قال في عدة مواضع: ﴿وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ﴾ فربما توهم أحد أنهم وإن لم يسمعوا فإنهم يفهمون الإشارة. فأزال هذا الاحتمال بقوله: ﴿إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾،([20]) فهذه حالة لا تقبل سماعاً ولا رؤية لتحصل الإشارة، وهذا نهاية الإعراض.
ومنها قوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ ربما توهم أحد أن هدايته تقع جزافاً من غير سبب. فأزال هذا بقوله: ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾([21]) أي: بمن يصلح للهداية؛ لزكائه وخيره ممن ليس كذلك، فأبان أن هدايته تابعة لحكمته التي هي وضع الأشياء مواضعها. ومن كان حسن الفهم رأى من هذا النوع شيئاً كثيراً) .
هذه القاعدة كما تقدّم قاعدة نافعة واضحة ولله الحمد، وما ذكره الشيخ رحمه الله من الأمثلة بيّن في الاستدلال لهذه القاعدة، وهي: أن المحترزات في القرآن الكريم تقع في كل موقع في أشد الحاجة إليها، يعني تقع موقعاً مناسباً تكون الحاجة فيه إلىٰ الاحتراز وتوقي الأفهام الخاطئة مهمة. وفي المثال الأخير قوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ فيه دليل لما يقرره أهل السنة والجماعة من أن المشيئة مشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مقترنة بحكمته، فما شاءه لا يشاؤه جل وعلا إلا لحكمة، و هذه مسألة مهمة في غاية الأهمية، وهي: أن يعتقد العبد أنه ما من شيء من أفعال الرب جل وعلا إلا وله حكمة، وهو مقرون بالحكمة، فإعطاء الهداية لهذا ومنعها عن ذاك إنما هو بحكمته وعلمه جل وعلا، وليست حظوظاً عمياء؛ بل هي أمور موافقة لحكمة الله جل وعلا الحكيم الخبير، ولذلك قال: ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ أي الذين يستحقون الهداية، والذين يصلحون لها، كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾([22]). وهـٰذا في الرسل ابتداء وفي أتباعهم أيضاً، فإن الله أعلم بمن هو أهل لحمل هذه الرسالة من الرسل في الأصل، وممن يمن عليهم بالاتباع لهم، فينبغي للمؤمن أن يسأل الله من فضله، وأن يحرص على إيجاد وقيام الأسباب التي تؤهله لهذه المنن والهبات من رب العالمين.