قال المؤلف رحمه الله تعالى :" القاعدة التاسعة والعشرون: في الفوائد التي يجتنيها العبد في معرفته وفهمه لأجناس علوم القرآن.
وهذه القاعدة تكاد أن تكون هي المقصود الأعظم في علم التفسير؛ وذلك أن القرآن مشتمل على علوم متنوعة، وأصناف جليلة من العلوم. فعلى العبد أن يعرف المقصود من كل نوع منها، ويعمل على هـٰذا، ويتّبع الآيات الواردةَ فيه، فيحصِّل المراد منها: علماً وتصديقاً وحالاً وعملاً".
هذه القاعدة في الحقيقة مهمة لطالب العلم، وهي أن يعتني بكتاب الله عز وجل في أخذ العلم منه؛ لأن كثيراً من الناس لا سيما في العصور المتأخرة يغفلون عن استقاء العلوم من كتاب الله عز وجل، فيجعلون القرآن العظيم لمجرد التلاوة والتقرب لله عز وجل بقراءته وحفظه؛ لكنهم يغفلون عن أخذ العلم عنه والاستفادة منه فيما يحتاجونه من العقائد والأحكام، وهـٰذا يحرِم الإنسان خيراً كثيراً، والسلف إنما صلحت أحوالهم واستقامت عقائدهم لما كان مرجعهم في عقائدهم كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما صحّ من سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ، فالواجب على المؤمن أن يهتم بكتاب الله.
سألني بعض طلبة العلم مرة فقال: لماذا نحفظ القرآن؟ العلوم ميسرة الآن: الفقه فيه متون متخصصة، والحديث فيه متون متخصصة، وسائر العلوم لها متون متخصصة، فلماذا يحفظ القرآن لغير التعبد؟ الله عز وجل يقول: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾([1]). فهو آيات وعلامات وحجج وبراهين؛ لكنها ليست لكل أحد، في صدور الذين أوتوا العلم، نسأل الله أن نكون منهم، فالواجب على المؤمن أن يعتني بالقرآن وأن يعلم أن القرآن قراءته وحفظه ليس لمجرد التعبد بذلك؛ بل لما ذكر الله في كتابه: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ (29)﴾،([2]) هذه مسألة مهمة.
ثم اعلم أن القرآن احتوى من كل علم أصوله، و هذه مسألة يغفل عنها كثير من الناس، القرآن لم يأتِ في العلوم على وجه التفصيل؛ بل لم يأت في العبادات على وجه التفصيل، فالصلاة لم تفصل تفصيلاً مطولاً في الكتاب، إنما جاء بيانها تفصيلاً في السنة، وإنما احتوى القرآن أصول التشريع في كثير من الأحكام، كما أنه احتوى على أصول العلم، ففي الفقه أصول أصوله في القرآن، العقائد أصولها في القرآن وإن كان كثير من التفصيل جاء في القرآن في علم العقائد، وهلم جرّاً، وأبواب الفقه المعاملات والعبادات والقضاء وما إلىٰ ذلك تجد أن كل باب من أبواب العلم ذُكر في القرآن إنما يذكر أصول هـٰذا العلم.
فينبغي للمؤمن - وطالب العلم خصوصاً- أن يحرص على ضبط هذه الأصول التي تضمنها هـٰذا الكتاب، والشيخ رحمه الله الآن يشير إلىٰ بعض ما تضمنه القرآن من العلوم والأصول التي أشار إليها.
(فأجلُّ علوم القرآن على الإطلاق: علم التوحيد، وما لله من صفات الكمال، فإذا مرت عليه الآيات في توحيد الله وأسمائه وصفاته أقبل عليها، فإذا فهمها وفهم المراد بها أثبتها لله على وجه لا يماثله فيه أحد، وعَرَفَ أنه كما ليس لله مثيل في ذاته فليس له مثيل في صفاته، وامتلأ قلبه من معرفة ربه وحبّه بحسب علمه بكمال الله وعظمته، فإن القلوبَ مجبولةٌ على محبة الكمال، فكيف بمن له كل الكمال، ومنه جميع النعم الجِزَال؟ ويعرف أن أصل الأصول هو الإيمان بالله، وأن هذا الأصل يقوى ويكمُل بحسب معرفة العبد لربه، وفهمه لمعاني صفاته ونعوته وامتلاء القلب بمعرفتها ومحبتها.
وأيضاً يعرف أنّه بتكميله هذا العلم تكمل علومه وأعماله، فإن هذا هو أصل العلم وأصل التعبد) .
التوحيد أشرف العلوم ولا إشكال، والقرآن دائر على تقرير التوحيد بأنواعه، وأجلّ ما ذكره الله في كتابه ما ذكره من الخبر عنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيما يجب له وفيما يتعلق به: فيما يجب له من العبادة، وفيما يتعلق به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من التعريف بما له من الكمال في الأوصاف والجميل في الأفعال والحسن من الأسماء، فالله عز وجل له الأسماء الحسنى، وله الصفات العلا، وله الأفعال الجميلة جل وعلا.
وبقدر معرفة العبد بهذه الأمور الثلاثة المتعلقة بالرب بقدر ما يحصل معه من تكميل توحيد الإلهية الذي هو ما يجب للرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن العبد إذا ملأ قلبه بإجلال الله وتعظيمه ومحبته حقق له توحيد العبادة؛ لأن توحيد العبادة هو غاية وكمال المحبة لله وغاية وكمال الذل والتعظيم له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يعتني بهذا العلم، وأن يكون مصدره في تلقيه الكتاب الحكيم وما صح من سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي مسألة الصفات ينبغي لنا أن لا نقتصر فقط على معرفة المذاهب والأقوال؛ بل ينبغي أن ننتقل من ذلك بعد تقريره إلىٰ معرفة المعاني التي تستقر في القلوب -المعاني القلبية-؛ لأن نقاش أهل السنة والجماعة مع المعارضين المخالفين من المتكلمين إنما هو نقاش وسيلة لتحقيق غاية، وهي تحقيق التوحيد لله عز وجل في أسمائه وصفاته الذي يثمر تحقيق العبودية له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن توحيد الأسماء والصفات يستلزم توحيد الإلهية، من حقق الإيمان بالله عز وجل في أسمائه وصفاته تحقق له توحيد الإلهية، وبقدر ما يكون معه من القصور في هـٰذا النوع من التوحيد الذي هو توحيد الأسماء والصفات يتبعه قصور في توحيد العبادة.
ولذلك ينبغي لنا أن لا نقتصر فقط في مباحث الأسماء والصفات أن نقول: هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، وهـٰذا قول الجهمية، وهـٰذا قول المعتزلة، وهـٰذا قول الأشاعرة، ونقتصر انشغالاً في هـٰذا الباب ب هذه الأمور؛ بل بما هو زائد على ذلك من معرفة معانيه والتعبد لله عز وجل.
ومن أحسن من تكلم في هـٰذا الجانب وأبدع الإمام ابن القيم رحمه الله في مؤلفاته، والشيخ عبد الرحمـٰن بن سعدي رحمه الله له مؤلفات عديدة، ويشير إليه كثيراً في تفسيره، فالاستفادة من هذه الكتابات مهمة، لا سيما الشيخ عبد الرحمـٰن؛ لأنها أسهل عبارة وأوضح، ورحم الله الجميع.
(ومن علوم القرآن: صفات الرسل وأحوالهم، وما جرى لهم وعليهم، مع من وافقهم ومن خالفهم، وما هم عليه من الأوصاف الراقية. فإذا مرت عليه هذه الآيات عرف بها أوصافهم وازدادت معرفته بهم ومحبتهم، وعرف ما هم عليه من الأخلاق والأعمال، خصوصاً إمامهم وسيدهم محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقتدي بأخلاقهم وأعمالهم بحسب ما يقدر عليه، ويفهم أن الإيمان بهم تمامه وكماله: معرفته التامة بأحوالهم، ومحبتهم، واتّباعهم. وفي القرآن من نعوتهم الشيء الكثير الذي يحصل به تمام الكفاية.
ويستفيد أيضاً الاقتداء بتعليماتهم العالية، وإرشاداتهم للخلق، وحسن خطابهم، ولطف جوابهم، وتمام صبرهم. فليس القصد من قصصهم أن تكون سمراً!! وإنما القصد أن تكون عبراً) .
رحمه الله، كثير ممن يهتم بقصص الأنبياء تجده يذهب إلىٰ كتب المؤرخين الذين يستقون الأخبار عن بني إسرائيل، ويترك ما في الكتاب الحكيم من القصص النافع؛ لأن ما ذكره الله عز وجل هو محل العبرة، وهو المقصود من سير هٰؤلاء وأخبارهم.
وأما ما في هذه الكتب فهو حشو لا فائدة منه، وكثير منه لا يصح ولا يثبت؛ ولذلك ينبغي في الخبر عن الأمم المتقدمة قبل أمة الإسلام أن يُقتصر على ما في الكتاب الحكيم وما صح في سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما عدا ذلك فهو متلقى عن بني إسرائيل لا يُعلم صدقه من كذبه، أما الاستفادة منه فالاستفادة في ما وافق الشرع، فيما جاء الخبر عنه في كتاب الله عز وجل، وهـٰذا الخبر العظيم في كتاب الله عز وجل مقصوده العبرة: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوِْي الأَلْبَابِ﴾([3]). فالواجب على المؤمن أن يستفيد الاعتبار من سير هٰؤلاء، والمؤلف رحمه الله بعد أن ذكر العلم الأول علم التوحيد وهو أصل العلوم انتقل إلىٰ العلم الثاني وهو الذي يحصل به علم التوحيد، وهو علم الرسل؛ لأنهم طريق معرفة الله عز وجل، ثم قال:
(ومن علوم القرآن: علم أهل السعادة والخير وأهل الشقاوة والشر. وفي معرفته لهم ولأوصافهم ونعوتهم فوائد الترغيب في الاقتداء بالأخيار، والترهيب من أحوال الأشرار، والفرقان بين هٰؤلاء وهؤلاء، وبيان الصفات والطرق التي وصل بها هؤلاء إلى دار النعيم، و([4])أولئك إلى دار الجحيم، ومحبة هؤلاء الأتقياء من الإيمان، كما أن بغض أولئك من الإيمان. وكلما كان العبد أعرف بأحوالهم تمكن من هذه المقاصد) .
والله عز وجل لم يذكر هذين الصنفين: صنف أهل الخير وصنف أهل الشر، بأعيانهم في الغالب، إنما ذكرهم بأوصافهم، وذلك لأن المقصود الأوصاف لا الأعيان، الأعيان يذهبون ويتغيرون ويختلفون إنما العبرة في الأوصاف، ولذلك غالب ما في القرآن من ذكر الخير والشر بالصفة لا بالعين، إلا في نزر قليل ذُكر أئمة الشر وذكر أئمة الخير. نعم.
(ومن علوم القرآن: علم الجزاء في الدنيا والبرزخ والآخرة على أعمال الخير وأعمال الشر.
وفي ذلك مقاصد جليلة: الإيمان بكمال عدل الله وسعة فضله، والإيمان باليوم الآخر، فإن تمامَ الإيمان بذلك يتوقف على معرفة ما يكون فيه، والترغيب والترهيب بالرغبة في الأعمال التي رتب الله عليها الجزاء الجزيل، والرهبةُ من ضدها.
ومن علوم القرآن: الأمر والنهي.
وفي ذلك مقاصد جليلة: معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله؛ فإن المكلفين مكلفون بمعرفة ما أمروا به وما نهوا عنه، وبالعمل بذلك، والعلم سابق للعمل، وطريق ذلك: إذا مرّ عليه نص فيه أمر بشيء عرفه وفَهِم ما يدخل فيه وما لا يدخل فيه، وحاسب نفسه: هل هو قائم بذلك كله أو بعضه أو تاركه؟ فإن كان قائماً به فليحمد الله، ويسأله الثبات والزيادة من الخير. وإن كان مقصراً فيه فليعلم أنه مطالب به وملزم به. فليستعن بالله على فعله، وليجاهد نفسه على ذلك.
وكذلك في النهي: ليعرف ما يراد منه، وما يدخل في ذلك الذي نهى الله عنه، ثم لينظر إلى نفسه، فإن كان قد ترك ذلك فليحمد الله على ذلك، ويسأله أن يثبته على ترك المناهي كما يسأله الثبات على فعل الطاعات؛ وليجعل الدّاعي له على الترك امتثال طاعة الله، ليكونَ تركه عبادةً، كما كان فعله للطاعة عبادة، وإن كان غير تارك له فليتبْ إلى الله منه توبة نصوحاً جازمة وليبادر، ولا تمنعه الشهوات الدنية عن مجانبة ما تدعوه إليه النفس الأمارة بالسوء.
فمن كان عند هذه المطالب وغيرها عاملاً على هذه الطريقة فإنه ماش على الصراط المستقيم والطريقة المثلى فيما عليه من الاسترشاد بكتاب الله، وحصل له بذلك علم غزير وخير كثير) .
قوله رحمه الله: (وليجعل الداعي له على الترك امتثال طاعة الله، ليكونَ تركه عبادةً) هـٰذا تعليل، أي إنه إذا ترك المنهي لا يتركه زهداً فيه، أو لأن نفسه لا تدعوه إليه، أو حياء من الناس أن ينظروا إليه؛ بل يكون تركه للنهي قربة لله عز وجل، وأنه إنما تركه لأجل الله جل وعلا، وبهذا يؤجر في تكره للمنهي.
ولذلك اختلف العلماء رحمهم الله فيمن لم يرد على ذهنه الميل إلى معصية؛ يعني شخص تأنف نفسه عن أكل الربا مثلاً ولا يرد على باله أن يفعله؛ هل يؤجر أو لا يؤجر؟
اختلف العلماء في ذلك، والقاعدة أنه لا أجر إلا بنية، أما مجرد الترك لأجل عدم الورود على الذهن وأنه لا يرد على ذهنه فعل هـٰذا المنكر فإنه لا يؤجر عليه؛ لأن الأجر إنما يكون على عمل، والعمل إما إيجاد أو امتناع.