قال المؤلف رحمه الله :" القاعدة الحادية والثلاثون: ربوبية الله في القرآن على نوعين: عامة وخاصة.
كثر في القرآن ذكر ربوبية الرب لعباده ومتعلقاتها ولوازمها. وهي على نوعين:
ربوبية عامة: تدخل فيها جميع المخلوقات: برها وفاجرها، بل مكلفوها وغير المكلفين، حتى الجمادات. وهي أنه تعالى المنفرد بخلقها ورزقها وتدبيرها، وإعطائها ما تحتاجه أو تضطر إليه في بقائها، وحُصول منافعها ومقاصدها، فهذه التّربية لا يخرج عنها أحد.
والنوع الثاني: في تربيته لأصفيائه وأوليائه، فيربيهم بالإيمان الكامل، ويوفّقهم لتكميله، ويُكملهم بالأخلاق الجميلة، ويدفع عنهم الأخلاقَ الرذيلة، وييسرهم لليُسرى ويجنبهم العسرى.
وحقيقتها: التّوفيق لكل خير، والحفظ من كل شر، وإنالة المحبوبات العاجلة والآجلة، وصرف المكروهات العاجلة والآجلة.
فحيث أُطلقت ربوبيته تعالىٰ فإن المراد بها المعنى الأول، مثل قوله تعالىٰ: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾،([1]) ﴿وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾([2]) ونحو ذلك.
وحيث قُيِّدت بما يحبه ويرضاه، أو وقع السؤال بها من الأنبياء وأتباعهم، فإن المراد بها النوع الثاني. وهو متضمن للمعنى الأول وزيادة؛ ولهذا تجد أسئلة الأنبياء وأتباعهم في القرآن بلفظ الربوبية غالباً، فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة؛ ليلحظ العبد هـٰذا المعنى النافع([3])".
نعم هذه القاعدة قاعدة مفيدة، وهي ليست من قواعد التفسير في الحقيقة، إنما هي من الفوائد المستنبطة، وإلا فإنها لا تختص بالتفسير؛ لكون الربوبية الخاصة والرّبوبية العامة ورد ذكرها في الكتاب وفي السنة، فليست مما يختص ويتعلق بالتفسير.
يقول رحمه الله: (ربوبية الله في القرآن على نوعين). والربوبية مشتقة من الرب، والرب تقدّم لنا بيان معناه: وأنه اسم لله عز وجل مما اختص به إذا أطلق ولم يضاف. ومعناه أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي يتولى شؤون عباده رزقاً وخلقاً وإمداداً وإعداداً، فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المنعم المدبر لخلقه، وهـٰذا هو المعنى العام الملاحظ للربوبية في كلام الله عز وجل نجد ذكرها على نوعين:
ربوبية مطلقة.
وربوبية مقيدة.
الربوبية المطلقة أي الربوبية العامة التي تكون لكل شيء، مثل قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾([4]) فقوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هـٰذا من الربوبية العامة التي تعم كل شيء، فالعالمين جمع عالم، وهو كل ما سوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومنه قوله: ﴿وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾.([5])
لكن مما ينبه على هذه الربوبية أنها لا تضاف للمستقذرات والمحقرات من المخلوقات على وجه التفصيل، فلا يقال: رب الكلاب. ولا يقال: رب الشر؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يضف ذلك لنفسه، وإنما يكتفى في هذا بالربوبية العامة؛ لأن التخصيص إنما يكون على وجه الثناء والمدح، وهـٰذا مما يستكره، وكذلك في الخلق: خالق كل شيء. يكفي من أن تخص هذه المحقرات بإضافة وصف الرب الجليل العظيم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إليها، فهـٰذا ينبه إليه في الربوبية العامة.
الثانية ربوبية خاصة: وهي المضافة إلىٰ بعض خلقه، وذلك كثير في كتاب الله عز وجل، يضيف لله عز وجل ربوبيته لبعض مخلوقاته.
من ذلك قوله تعالىٰ: ﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾،([6]) فإن هذه ربوبية خاصة ومقتضاها زائد على ما تفيده الربوبية العامة، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يصطفي من عباده من يشاء ويخصهم بهذه التربية الخاصة والعناية والتدبير والتولي الخاص، ولذلك حيثما وجدت الربوبية مضافة إلىٰ شيء من خلق الله فاعلم أن ذلك لمزية في هـٰذا المضاف إليه، فهو يدل على شرفه واختصاص الله به وعنايته به، ويدل كذلك على كمال فيه انفرد به عن بقية خلق الله، ولذلك أضاف الله ربوبيته إليه، و هذه مسألة مهمة؛ ليتبين بذلك شرف هـٰذا المربوب.
وقد جُمع هذان النوعان من الربوبية في قول السحرة: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾([7]) هذه الربوبية العامة ﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾([8]) في سورة الأعراف، فذكر الله الربوبية لموسى وهارون خصوصاً بعد ذكر الربوبية العامة، وذلك لأي شيء؟ لبيان ما خص الله به هـٰذين من التربية والتكميل، ولذلك أشار الشيخ رحمه الله إلى ما تقتضيه الإضافة الخاصة في قوله: (والنوع الثاني).
أما ما يفيده النوع الأول -الربوبية في النوع الأول- فتقدم لنا الكلام في أكثر من موضع أنها تفيد أربعة أمور: الخلق، الملك، التدبير، الرزق، هـٰذا مقتضى الربوبية العامة التي لا يخرج عنها شيء من خلق الله.
أما الربوبية الخاصة ف هذه المعاني ثابتة وزيادة، زيادة اختصاص وتفضيل في كل واحد منها، ولذلك قال الشيخ رحمه الله: (والنوع الثاني: في تربيته لأصفيائه وأوليائه، فيربيهم بالإيمان الكامل، ويوفقهم لتكميله ويُكملهم بالأخلاق الجميلة، ويدفع عنهم الأخلاقَ الرذيلة) إلىٰ آخر ما ذكر، قال: (وحقيقتها: التوفيق لكل خير) هـٰذا في ربوبيته الخاصة المتعلقة بالمكلفين.
أما المتعلقة بغير المكلفين كالسماء والأرض مثلاً والعرش، فهـٰذا لعظيم ما اختص الله به هذه المخلوقات: إما في الخلق أو في غيره، فقول الداعي: اللهم رب السماوات والأرض، رب العرش العظيم، هـٰذا التخصيص لهذا ليس لكونه وفقها لكل خير، فإن هذه المخلوقات لم نعلم أنها مكلّفة بفعل؛ لكنها أضيف إليها الربوبية الخاصة لما امتازت به عن سائر الخلق من عظيم عناية الله بها في خلقها سبحانه وتعالىٰ، فقوله: (وحقيقتها: التّوفيق لكل خير، والحفظ من كل شر، وإنالة المحبوبات العاجلة والآجلة) هـٰذا في حق المكلفين.
يقول: (فحيث أُطلقت ربوبيته تعالىٰ فإن المراد بها المعنى الأول) معنى الإطلاق أنها لم تُخصَّ ببعض الخلق، وليس معنى الإطلاق عدم الإضافة، فإنها مضافة: (رب العالمين) مضافة لكنها مضافة إلى ما فيه عموم وإطلاق وهو جميع العالمين، واضح الكلام؟
طيب (مثل قوله تعالىٰ: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾([9]) ﴿وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾([10]) ونحو ذلك.
وحيث قُيِّدت بما يحبه ويرضاه) سواء من الأشخاص أو الأوصاف أو الأعمال أو المخلوقات فذلك من الربوبية الخاصة، وهو المعنى الثاني.
مثال ربوبيته للأشخاص:كقوله: ﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾.([11])
مثال ربوبيته للمخلوقات: ﴿رَّبُّ السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضِ﴾.([12])
مثال ربوبيته للأمكنة: ﴿رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)﴾.([13])
طيب باقي شيء؟ الأوصاف: ((بّ الطيبين))كما جاء في دعاء الرّقية في سنن أبي داوود.
ربوبيته للكلمات أو الأقوال: ((رب هذه الدعوة التامة))([14]) وهي كلمات الأذان. الربوبية هنا ربوبية خاصة، على أن بعض العلماء يقول: الربوبية هنا مثل رب العزة؛ صاحب هذه الدعوة، وليست الربوبية التي هي ربوبية الخلق، على كل إذا أضيفت إلىٰ معين ف هذه هي الربوبية الخاصة، في الأماكن والأزمان والأشخاص والأوصاف والأحوال وجميع ما ورد به الكتاب والسنة.
طيب قال: (أو وقع السؤال بها من الأنبياء وأتباعهم) إذا قلت في الدعاء: ربنا أو يا ربي، هـٰذا مضاف أو ليس مضافاً؟ مضاف، إضافة خاصة أو عامة؟ إضافة خاصة، ما فائدة ذلك؟ فائدة ذلك التوسل إلىٰ الله عز وجل بتربيته الخاصة لأن يجيب دعاءك ويقيل عثرتك ويحقق مأمولك ويؤمنك مما ترهب وتخاف.
طيب، ثم قال: (ولهذا تجد أسئلة الأنبياء وأتباعهم في القرآن بلفظ الربوبية غالباً، فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة؛ ليلحظ العبد هـٰذا المعنى النافع). (ليلحظ) هـٰذا تعليل أو أمر؟ هـٰذا أمر، ليس تعليلاً (فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة) ثم قال: (ليلحظ العبد) يعني في دعائه هـٰذا المعنى؛ لأنه من دواعي انكسار القلب بين يدي الله عز وجل في الدعاء أن تعلم أن كل خير بيديه، فإذا قلت: يا ربي تلاحظ أنك تسأله بتربيته الخاصة وربوبيته الخاصة، لا بربوبيته العامة (ليلحظ العبد هـٰذا المعنى النافع) نعم.
(ونظير هذا المعنى الجليل: أن الله أخبر في عدة آيات أن الخلق كلهم عباده وعبيده: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً﴾([15]) فكلهم مماليكه، وليس لهم من الملك والأمر شيء. ويخبر في بعض الآيات أن عباده بعض خلقه كقوله: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً﴾([16]) ثم ذكر صفاتهم الجليلة. وكقوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾([17]) وفي قراءة ﴿عبادَهُ﴾، وقوله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾([18])، وقوله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ ([19]). فالمراد بهذا النوع من قاموا بعبودية الله، وأخلصوا له الدين على اختلاف طبقاتهم.
فالعبودية الأولى: يدخل فيها البر والفاجر.
والعبودية الثانية: صفة الأبرار.
ولكنَّ الفرق بين الربوبية والعبودية: أن الربوبية وصف الرّب وفعله، والعبودية وصف العبيد وفعلهم) .
هـٰذا واضح، وإنما ذكره المؤلف رحمه الله استطراداً، وإلا فأصل الكلام على الربوبية؛ لكن أيضاً العبودية نوعان:
عبودية خاصة.
وعبودية عامة.
العبودية الخاصة: هي التي أضافها الله عز وجل إلىٰ بعض خلقه ممن كمل وشرف: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾([20]) عبده المراد به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾([21]) المقصود بالعبودية هنا عبودية الموحدين لا عبودية كل أحد.
أما قوله: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)﴾([22]) فالعبودية هنا العبودية العامة، ومثلها ما مثل به المؤلف في قوله: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَٰوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً﴾([23]). ف هذه تشمل كل أحد، والفارق ما ذكره رحمه الله من أن العبودية وصف العبد وفعله، وأن الربوبية وصف الرب وفعله سبحانه.