قال المؤلف رحمه الله:"القاعدة الثالثة والثلاثون: المرض في القرآن -مرض القلوب- نوعان: مرض شبهات وشكوك، ومرض شهوات المحرمات".
المرض في الأصل يا إخوان هو العلة، هـٰذا هو أصل المرض: علة، إما أن تكون في البدن أو في القلب أو في غيرهما.
المهم أن المرض هو العلة.
(المرض في القرآن) -يعني ذكر المرض في القرآن- (نوعان: مرض شبهات وشكوك، ومرض شهوات المحرمات). الأول (مرض شبهات) والشبهات جمع شبهة، والشبهة هي: عارض يعرض للقلب يحول دون البصيرة، عارض يصيب القلب يحول بينه وبين إدراك الأمور على حقيقتها، فهو يحول بينه وبين البصيرة التي يحصل بها التمييز بين الحق والباطل.
والشبهة قد تكون في الكتاب، وقد تكون في الله عز وجل، وقد تكون في اليوم الآخر، الشبهات متنوعة كثيرة، وهي من وساوس الشيطان يلقيها على قلب العبد.
هـٰذا النوع الأول من الأمراض التي تصيب القلوب: مرض الشبهة.
المرض الثاني: مرض الشهوة المحرمة، قوله: (شهوات المحرمات) يخرج الشهوات المباحة، وهو ما تميل إليه النفس، هـٰذا الأصل في الشهوة: ما تميل إليه النفس.
وما تميل إليه النفس نوعان :
ما تميل إليه من المباحات، وهـٰذا لا حرج عليه في إتيانها وأخذها منها، ومثال ذلك قول الصحابة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال: ((وفي بضع أحدكم صدقة)).([1]) قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ فالمراد بالشهوة هنا الشهوة المباحة، وهو ما تميل إليه النفس من المآكل والمشارب والمناكح وغير ذلك من الأمور المعنوية؛ لأن الشهوة قد تكون في أمور حسية من مأكل أو مشرب أو منكح، وقد تكون في أمور معنوية، والممنوع منها هو ما كان من الشهوات المحرمات التي نهى الله عنها ورسوله.
وأي النوعين أخطر؟ مرض الشبهات أخطر ولا إشكال؛ لأنه يفسد القلب إفساداً بيناً، ويحول دونه ودون لذة الإيمان. وأما مرض الشهوة فهو -وإن كان خطيراً قد يوبق الإنسان ويعمي البصيرة والفؤاد- إلا أنه دون مرض الشبهة في التأثير.
ثم قال رحمه الله في بيان هذه القاعدة:
(والطريق إلى تمييز هذا من هذا -مع كثرة ورودهما في القرآن- يُدرك من السِّياق.
فإن كان هذا السياق في ذم المنافقين والمخالفين في شيء من أمور الدين، كان هـٰذا مرضَ الشكوك والشبهات، وإن كان السياق في ذكر المعاصي والميل كان مرضَ الشهوات. ووجه انحصار المرض في هذين النوعين: أن مرض القلب خلاف صحته، وصحة القلب الكاملة بشيئين:
كمال علمه ومعرفته ويقينه.
وكمال إرادته وحبه لما يحبه الله ويرضاه) .
هذان الشيئان مهمان: كمال العلم وبه تصح المعلومات، وكمال العمل، وذلك في قوله: (وكمال إرادته) وبه تصح الأعمال، فإذا صحت العلوم وصحت الأعمال سلم القلب من الأمراض، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعث بالهدى -وهو العلم النافع- ودين الحق -وهو العمل الصالح- وبهما يصلح قلب العبد ويزكو عمله.
فيقول: (صحة القلب الكاملة بشيئين: كمال علمه) هـٰذا سلامة العلوم (ومعرفته ويقينه، وكمال إرادته وحبه ما يحبه الله ويرضاه) وهـٰذا سلامة العمل.
(فالقلب الصحيح: هو الذي عرف الحق واتبعه، وعرف الباطل واجتنبه، فإن كان علمه شكّاً وعنده شبهات تُعارض ما أخبر الله به من أصول الدين وفروعه، كان علمه منحرفاً وكان مرض قلبه قوة وضعفاً بحسب هذه الشكوك والشبهات. وإن كانت إرادته ومحبته مائلة لشيء من معاصي الله، كان ذلك انحرافا في إرادته ومرضاً.
وقد يجتمع الأمران، فيكون القلب منحرفاً في علمه وفي إرادته.
فمن النوع الأول: قوله تعالى عن المنافقين: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾،([2]) وهي التقاليد والشكوك والشبهات المعارضة لرسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً﴾([3]) عقوبة على ذلك المرض الناتج عن أسباب متعددة، كلُّها منهم، وهم فيها غير معذورين.
ونظير هذا قوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ﴾.([4])
وكذلك قوله تعالى: ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾([5]) فإن مريض القلب بالشكوك وضعف العلم أقل شيء يريبه ويؤثر فيه ويفتتن به ) .
وهـٰذا يفيدنا -أيها الإخوة- أهمية طلب العلم؛ لأن العلم علاج هـٰذا الداء العظيم الفتاك وهو الشبهات، فكل شبهة دواؤها في العلم النافع، فبقدر ما مع الإنسان من العلم النافع، بقدر ما ينكشف عن قلبه هذه الشبهات التي تحول بينه وبين معرفة الحق، ويترتب على ذلك العمل به، تحول بينه وبين العمل بالحق.
فينبغي للإنسان أن يحرص على العلم النافع، وإذا ألقى الشيطان في قلبه شبهة، فليطلب حلها من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه إن استطاع، فإن لم يستطع فقد قال الله جل وعلا: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾([6]). ولا يجوز للمؤمن أن يترك هذه الشبهة في قلبه ويسكت عن علاجها وطلب حلها؛ لأنها قد توقفه في موقف يضعف فيه صبرُه ويضعف فيه يقينه ويتسلّط فيه عليه شيطانه، فإن الشيطان في حال الاحتضار يأتي يورد على الإنسان مثل هذه الشبهات، فإذا طهّر قلبه من هذه العوالق سلم؛ لكن لا ينبغي للإنسان أن يبادر إلىٰ كل شبهة تطرأ على قلبه؛ بل ينبغي أن يدافعها بالعلم النافع والعمل الصالح والاشتغال بما ينفع ودفع هذه الوساوس بما وجه إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الذِّكر وغيره من الوسائل الشرعية. وأهمّ ذلك الانتهاء عن الاسترسال فيها، فإن لم تندفع فليطلب حلها من كتاب الله وسنة رسوله، فإن عجز عن التوصل فليسأل أهل الذكر لعل الله أن يكشف عنه.
ثم قال:
(ومن الثاني: قوله تعالى: ﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾([7]) أي: مرض شهوة وإرادة للفجور، أقل شيء من أسباب الافتنان يوقعه في الفتنة طمعاً أو فعلاً. فكلّ من أراد شيئاً من معاصي الله فقلبه مريض مرض شهوة، ولو كان صحيحاً لاتصف بصفات الأزكياء الأبرياء الأتقياء الموصوفين بقوله: ﴿وَلكنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾([8]).
فمن كان قلبه على هذا الوصف الذي ذكره الله، فليحمده على هذه النعمة التي لا يقاومها شيء من النعم. وليسأل الله الثّبات على ذلك، والزيادة من فضل الله ورحمته).
ما هي هذه الأوصاف التي ذكرها (من كان قلبه على هـٰذا الوصف) ؟ الوصف هو: محبة الإيمان، وكونه في القلب مُزَيَّناً، وكُرْهه للكفر والفسوق والعصيان. وهـٰذا لا يأتي إلا لمن عَمُقَ علمه وصلح عمله، فبقدر ما مع الإنسان من عمق العلم وصلاح العمل يتحقق له ما ذكره الله في هذه الآية: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)﴾،([9]) ثم بعد أن ذكر عملهم ووصفهم بيّن أن ذلك من فضل الله قال: ﴿فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾([10]). وهـٰذا فيه بيان طريق تحصيل هذه الأوصاف، وأنه من وسائل تحصيلها؛ بل أصل تحصيلها هو أن يسأل الإنسان الله عز وجل هـٰذا الفضل: أن يحبب إليه الإيمان وأن يزينه في قلبه وأن يكرّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، ولا يكون ذلك إلا إذا سلم من هاتين الآفتين: آفة الشبهة وآفة الشهوة.