قال المؤلف رحمه الله :" القاعدة الرابعة والثلاثون: دلَّ القرآن في عدة آيات أنَّ من ترك ما ينفعه مع الإمكان، ابتُلي بالاشتغال بما يضره، وحُرِم الأمرَ الأول".
تقدم في أول كلامنا على هـٰذا الكتاب المبارك أن القواعد التي ضمنها الشيخ رحمه الله هـٰذا الكتاب:
منها ما هو قواعد.
ومنها ما هو فوائد.
و هذه القاعدة هي من جملة الفوائد؛ ولكن الشيخ رحمه الله توسع في استعمال القاعدة فضمّ إلىٰ قواعد التفسير بعضاً من قواعد الأصول، وبعضاً من ما يبيّن طريقة القرآن -الطريقة القرآنية- في معاملة ومعالجة بعض الأمور، وأيضاً بعض الفوائد الجزئية، من ذلك ما ذكره في هذه القاعدة وما سيأتي من القواعد التالية لها.
هذه القاعدة يقول رحمه الله: (دلّ القرآن في عدة آيات أن من ترك ما ينفعه مع الإمكان) يعني مع تمكنه من العمل بما ينفعه (ابتلي بالاشتغال بما يضره) ثم قال: (وحرم الأمر الأول) أي حُرم الاشتغال بما ينفعه، وهـٰذا لخصه ابن القيم رحمه الله في كلمة موجزة فقال :نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ولا بد.
وهـٰذا في كل أمر؛ لأن النفس الإنسانية رحى لا تتوقف عن العمل، فإن لم تشتغل بالحق اشتغلت بالباطل، فإن لم يُشغل الإنسان نفسه بما ينفعه اشتغل بما يضره ولا بد.
يذكر الشيخ رحمه الله أمثلة لذلك من الآيات، قال رحمه الله:
(وذلك أنه ورد في عدة آيات: أن المشركين لما زهدوا في عبادة الرحمـٰن ابتلوا بعبادة الأوثان، ولما استكبروا عن الانقياد للرسل، بزعمهم أنهم بشر، ابتلوا بالانقياد لكل مارج العقل والدين، ولما عُرض عليهم الإيمان أوّل مرة فعرفوه، ثم تركوه، قلب الله قلوبهم، وطبع عليها وختم، فلا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.
ولما بيّن لهم الصراط المستقيم، وزاغوا عنه اختياراً ورضاً بطريق الغي على طريق الهدى، عوقبوا بأن أزاغ الله قلوبهم، وجعلهم حائرين في طريقهم.
ولما أهانوا آيات الله ورسله أهانهم الله بالعذاب المهين.
ولما استكبروا عن الانقياد للحق أذلهم في الدنيا والآخرة.
ولما منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وأخربوها ما كان لهم بعد ذلك أن يدخلوها إلا خائفين).
كل هذه أمثلة لهذه القاعدة، وهي أنهم لما أعرضوا ولم يشتغلوا بما ينفع مع تمكنهم من ذلك ابتلوا بضده ولم يتمكنوا من الخير.
(﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ﴾([1]).
والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّاً، يُخبر الله فيها أن العبد كان قبل ذلك بصدد أن يهتدي وأن يسلك الطريق المستقيم، ثم إذا تركها بعد أن عرفها، وزهد فيها([2]) بعد أن سلكها([3]) أنه يعاقب ويصير الاهتداء غير ممكن في حقه([4]) جزاء على فعله، كقوله تعالىٰ عن اليهود: ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأنهم لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾([5]). فإنهم لما تركوا أجل الكتب وأنفعها وأصدقها([6]) ابتلوا باتباع أرذلها وأكذبها وأضرها([7])).
هـٰذا المثال واضح في هٰؤلاء القوم الذين آتاهم الله عز وجل من الهدى والبينات ما لم يؤت غيرهم، فأعطاهم هـٰذا النور المبين وهـٰذا الكتاب العظيم الذي جاء به موسىٰ عليه السلام، فنبذوه وتركوا مقتضاه مما جاء فيه من اتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره من الهدى والحق الذي تضمنه، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، فاستبدلوا بكتاب الله عز وجل الذي هو الهدى والنور كتب السحرة المبطلين، فقوله: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾([8]) أي أخذوا بهذه الكتب التي أملتها الشياطين في الكذب والضلال والسحر والشعوذة وغير ذلك، فلمّا أعرضوا عن الحق مع تمكنهم من أخذه بُلُوا بهـٰذا الباطل العظيم الذي لا خير فيه والذي لا خلاق لصاحبه في الآخرة.
(والمحاربون لله ورسوله تركوا إنفاق أموالهم في طاعة الرحمـٰن وأنفقوها([9]) في طاعة الشيطان).
هـٰذا تعقيب على المثال الأول في قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ﴾ هذه في طائفة من المنافقين ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ فعلّقوا على إيتاء الله إيّاهم من فضله عملين:
العمل الأول: ﴿لَنَصَّدَّقَنَّ﴾.
والعمل الثاني: ﴿وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
وأكدوا ذلك بالقسم في الموضعين حيث قالوا: ﴿لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ﴾ اللام هنا لام القسم، اللام الموطئة للقسم، وتقدير الكلام: والله لنصدقن والله لنكونن من الصالحين.
ثم ما كان عاقبة الأمر؟ كان عاقبة الأمر أنه ﴿فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ﴾.
والبخل: هو منع ما وجد من المال وغيره.
فالبخل اسم يجمع كل ما هو منع للحقوق المالية أو المعنوية أو غير ذلك من الواجبات.
﴿وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ فجمعوا إزاء القسمين نكوصين.
القسم الأول: والله لنصدقن، قابلوه بالبخل.
والقسم الثاني: ولنكونن من الصالحين، قابلوه بالتولي.
فأخلفوا الله في الموضعين، ﴿فَأَعْقَبَهُمْ﴾ هـٰذا جزاؤهم في الدنيا قبل الآخرة ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ﴾ الباء للسببية؛ يعني بسبب إخلافهم الله عز وجل ما وعدوه ﴿وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ﴾. و هذه الآية فيها أشد التحذير لكل من نذر نذراً ولم يوفِه، فإنه يخشى أن يكون من هـٰذا الصنف الذي توعده الله عز وجل بهذه العقوبة العظيمة، وهي أن يورثه النفاق في قلبه إلى يوم يلقاه، ومن أورث النفاق في قلبه فقد أورث شرّاً عظيماً؛ لأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، نعوذ بالله من الخذلان.
و هذه القاعدة واضحة مما ذكر المؤلف رحمه الله من الأدلة.